الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5230 [ 2830 ] وعن أبي سعيد الخدري قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما حديثا طويلا عن الدجال ، فكان فيما حدثنا قال : يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة ، فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة ، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس - أو : من خير الناس - فيقول له : أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه ، فيقول الدجال : أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر ؟ فيقولون : لا ، قال : فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه : والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن ، قال : فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه .

                                                                                              وفي رواية : قال : فيأمر به الدجال فيشبح فيقول : خذوه وشجوه ، فيوسع ظهره وبطنه ضربا ، قال : فيقول : أما تؤمن بي ؟ قال : فيقول : أنت المسيح الكذاب ، قال : فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه ، قال : ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له : قم ، فيستوي قائما ، قال : ثم يقول له : أتؤمن بي ؟ فيقول : ما ازددت فيك إلا بصيرة ، قال : ثم يقول : يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس ، قال : فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا ، فلا يستطيع إليه سبيلا ، قال : فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به ، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار ، وإنما ألقي في الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين .


                                                                                              قال أبو إسحاق : إن هذا الرجل هو الخضر .

                                                                                              (رواه أحمد (3 \ 36) ، والبخاري (1882 و 7132) ، ومسلم (2938) (112 و 113) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله : " يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل المدينة ومكة ") أي : هو ممنوع من دخول المدينة ومكة بالملائكة التي تحرسها على ما يأتي في حديث أنس المذكور بعد هذا .

                                                                                              [ ص: 288 ] و (قول الدجال : أرأيتم إن قتلت ثم أحييته أتشكون في الأمر ") أي : في دعواه الإلهية والربوبية ، كما روى قاسم بن أصبغ عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم ، أربعون ليلة يسيحها في الأرض ، يوم منها كالسنة ، واليوم منها كالشهر ، واليوم منها كالجمعة ، ثم سائر أيامه كأيامكم هذه ، وله حمار يركبه ، عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا ، فيقول للناس : أنا ربكم ، وهو أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، ومكتوب بين عينيه كافر ، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ، يرد كل ماء ومنهل إلا مكة والمدينة ، وقامت الملائكة بأبوابها " . فهذا نص في أن الدجال إنما يدعي الربوبية لا النبوة ، ولو ادعاها لما صدقه الله بإبداء خارق للعادة على يديه ، لاستحالة تصديق الكاذب على الله ; لأنه يلزم منه تكذيب الباري تعالى ، والكذب محال على الله تعالى قطعا ، عقلا ونقلا ، فإن قيل : فيلزم مثل هذا في دعوى الربوبية ووقوع الخارق مقرونا بدعوى المدعي للإلهية ، فيكون قد صدقه بذلك كما صدق النبي إذا جاء بمثل ذلك . فالجواب : أن اقتران الخارق بدعوة الربوبية محال أن يشهد بتصديقه في دعوى الإلهية لقيام الأدلة العقلية القطعية على استحالة الإلهية عليه ، التي هي : حدثه ، وافتقاره ، ونقصه ، فهذه الأدلة العقلية دلت على كذبه في دعوى الإلهية ، فلم يبق معها دلالة للأدلة الاقترانية ; لأن اقتران المعجزة بالتحدي في حق النبي إنما دل على صدقه من حيث تنزلت منزلة التصديق بالقول ، [ ص: 289 ] أو منزلة قرائن الأحوال على اختلاف العلماء في ذلك . وذلك لا يحصل إلا إذا سلمت عما يشهد بنقيضها ، ولم يسلم في حق الدجال ; إذ المكذب لدعواه ملازم له عقلا ، فلا دلالة لذلك الاقتران على صدقه ; إذ لا يمكن مع وجود ما يدل على كذبه قطعا أن نقول : إن تلك الخوارق التي ظهرت على يديه تنزلت منزلة قول الله له : صدقت ، كما أمكن ذلك في حق النبي الذي يسلم عما يكذبه ، وحاصل هذا البحث : أن ما يدل بذاته لا يعارضه ما يدل بغير عينه . ولتفصيل هذا علم الكلام . وبما ذكرنا يعلم قطعا : أن إظهار هذه الخوارق على يدي الدجال لم يقصد بها تصديقه ، وإنما قصد بها أمر آخر ، وهذا ما أخبرنا به الصادق صلى الله عليه وسلم أنها فتن ومحن امتحن الله بها عباده ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . وذلك على ما سبق به علمه ونفذ به حكمه ، لا يسأل عما يفعل .

                                                                                              و (قوله : " فيأمر به الدجال فيشبح ") أي : يمد ، ومنه قولهم : الحرباء تشبح على الأعواد أي : تمتد . ومشهور الرواية هكذا ، وقد روى السمرقندي وابن ماهان : فشجوه في رأسه بشجاج ، وليس هذا بشيء ; لأنه قد جاء بعده ما يبعده ويبين أن المراد خلاف ذلك .

                                                                                              و (قوله : " فيؤمر به فيوسع ظهره وبطنه ضربا ") أي : يعمم جميعه حتى لا يترك منه موضع إلا يضربه ، وهو مأخوذ من السعة والاتساع .

                                                                                              و (قوله : " فيؤمر به فيؤشر بالمئشار ") والرواية : يؤشر ، بالياء ، والمئشار بالهمز ، وهو الصحيح المعروف ، ويقال بالنون فيهما ، وهذا يدل على أن هذا الرجل المكذب للدجال نشره الدجال بالمنشار ، وقد تقدم في حديث النواس : أنه قطعه بالسيف جزلتين كرمية الغرض ، فيحتمل أن يكون كل واحد منهما غير [ ص: 290 ] الآخر ، ويحتمل أن يكون جمعهما عليه ، والأول أمكن وأظهر . والترقوة ، بفتح التاء وضم القاف وتخفيف الواو : هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق ، وتجمع تراقي . ويقذفه : يرميه . ووقع في الأم : المسالح ، وهم القوم الحاملون للسلاح ، المستعدون للقتال ، سموا بذلك لحملهم إياها ، قال القاضي في آخر هذا الحديث من رواية السمرقندي : قال أبو إسحاق - يعني ابن سفيان - : يقال : إن هذا الرجل هو الخضر عليه السلام ، وكذلك قال معمر في جامعه بإثر هذا الحديث .

                                                                                              قلت : وقد تقدم القول في الخضر ، وفي الخلاف في طول حياته في كتاب الأنبياء .




                                                                                              الخدمات العلمية