الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ المسألة العمرية ]

المسألة الثانية : العمريتان ، والقرآن يدل على قول جمهور الصحابة فيها كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت إن للأم ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين ، وههنا طريقان : أحدهما : بيان عدم دلالته على إعطائها الثلث كاملا مع الزوجين ، وهذا أظهر الطريقين .

والثاني : دلالته على إعطائها ثلث الباقي ، وهو أدق وأخفى من الأول .

أما الأول فإن الله - سبحانه - إنما أعطاها الثلث كاملا إذا انفرد الأبوان بالميراث ، فإن قوله - سبحانه - : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } شرط أن في [ ص: 270 ] استحقاق الثلث عدم الولد وتفردهما بميراثه ، فإن قيل : ليس في قوله : { وورثه أبواه } ما يدل على أنهما تفردا بميراثه ، قيل : لو لم يكن تفردهما شرطا لم يكن في قوله : { وورثه أبواه } فائدة ، وكان تطويلا يغني عنه قوله : " فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث " فلما قال : { وورثه أبواه } علم أن استحقاق الأم الثلث موقوف على الأمرين ، وهو - سبحانه - ذكر أحوال الأم كلها نصا وإيماء ، فذكر أن لها السدس مع الإخوة وأن لها الثلث كاملا مع عدم الولد وتفرد الأبوين بالميراث ، بقي لها حالة ثالثة - وهي مع عدم الولد وعدم تفرد الأبوين بالميراث - وذلك لا يكون إلا مع الزوج والزوجة ، فإما أن تعطى في هذه الحال الثلث كاملا وهو خلاف مفهوم القرآن ، وإما أن تعطى السدس فإن الله - سبحانه - لم يجعله فرضها إلا في موضعين مع الولد ومع الإخوة ، وإذا امتنع هذا وهذا كان الباقي بعد فرض الزوجين هو المال الذي يستحقه الأبوان ، ولا يشاركهما فيه مشارك ، فهو بمنزلة المال كله إذا لم يكن زوج ولا زوجة ، فإذا تقاسماه أثلاثا كان الواجب أن يتقاسما الباقي بعد فرض الزوجين كذلك ؟

فإن قيل : فمن أين تأخذون حكمها إذا ورثته الأم [ و ] من دون الأب كالجد والعم والأخ وابنه ؟

قيل : إذا كانت تأخذ الثلث مع الأب فأخذها له مع من دونه من العصبات أولى ، وهذا من باب التنبيه .

فإن قيل : فمن أين أعطيتموها الثلث كاملا إذا كان معها ومع هذه العصبة الذي هو دون الأب زوج أو زوجة ، والله - سبحانه - إنما جعل لها الثلث كاملا إذا انفرد الأبوان بميراثه على ما قررتموه فإذا كان جد وأم أو عم وأم أو أخ وأم أو ابن عم أو ابن أخ مع أحد الزوجين ، فمن أين أعطيت الثلث كاملا ، ولم ينفرد الأبوان بالميراث ؟ قيل : بالتنبيه ودلالة الأولى ، فإنها إذا أخذت الثلث كاملا مع الأب فلأن تأخذه مع ابن العم أولى ، وأما إذا كان أحد الزوجين مع هذه العصبة فإنه ليس له إلا ما بقي بعد الفروض ، ولو استوعبت الفروض المال سقط ، كأم وزوج وأخ لأم ، بخلاف الأب .

فإن قيل : فمن أين تأخذون حكمها إذا كان مع العصبة ذو فرض غير البنات والزوجة ؟ قيل : لا يكون ذلك إلا مع ولد الأم أو الأخوات للأبوين أو للأب واحدة أو أكثر ، والله - تعالى - قد أعطاها السدس مع الإخوة ، فدل على أنها تأخذ الثلث مع الواحد إذ ليس بإخوة .

[ ص: 271 ] بقي الأختان والأخوان ، فهذا مما تنازع فيه الصحابة فجمهورهم أدخلوا الاثنين في لفظ الإخوة ، وأبى ذلك ابن عباس ونظره أقرب إلى ظاهر اللفظ ، ونظر الصحابة أقرب إلى المعنى وأولى به ، فإن الإخوة إنما حجبوها إلى السدس لزيادة ميراثهم على ميراث الواحد ، ولهذا لو كانت واحدة أو أخا واحدا لكان لها الثلث معه ، فإذا كان الإخوة ولد أم كان فرضهم الثلث اثنين كانا أو مائة ، فالاثنان والجماعة في ذلك سواء ، وكذلك لو كن أخوات لأب أو لأب وأم ففرض الثنتين وما زاد واحد ، فحجبها عن الثلث إلى السدس باثنين كحجبها بثلاثة سواء ، لا فرق بينهما ألبتة .

وهذا الفهم في غاية اللطف ، وهو من أدق فهم القرآن ، ثم طرد ذلك في الذكور من ولد الأب والأبوين لمعنى يقتضيه ، وهو توفير السدس الذي حجبت عنه لهم لزيادتهم على الواحد نظرا لهم ورعاية لجانبهم ، وأيضا فإن قاعدة الفرائض أن كل حكم اختص به الجماعة عن الواحد اشترك فيه الاثنان وما فوقهما كولد الأم والبنات وبنات الابن والأخوات للأبوين أو للأب ، والحجب ههنا قد اختص به الجماعة ، فيستوي فيه الاثنان وما زاد عليهما ، وهذا هو القياس الصحيح والميزان الموافق لدلالة الكتاب وفهم أكابر الصحابة ، وأيضا فإن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } يدخل في حكمه الثنتان ، وإن اختلفوا في كيفية دخولهما في الحكم كما سيأتي .

فهكذا دخول الأخوين في الإخوة ، وأيضا فإن لفظ الإخوة كلفظ الذكور والإناث والبنات والبنين ، وهذا كله قد يطلق ويراد به الجنس الذي جاوز الواحد وإن لم يزد على اثنين ، فكل حكم علق بالجمع من ذلك دخل فيه الاثنان كالإقرار والوصية والوقف وغير ذلك ، فلفظ الجمع قد يراد به الجنس المتكثر أعم من تكثيره بواحد أو اثنين ، كما أن لفظ المثنى قد يراد به المتعدد أعم من أن يكون تعدده بواحد أو أكثر ، نحو : { ارجع البصر كرتين } ودلالتهما حينئذ على الجنس المتكثر ، وأيضا فاستعمال الاثنين في الجمع بقرينة واستعمال الجمع في الاثنين بقرينة جائز بل واقع ، وأيضا فإنه - سبحانه - قال : { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } وهذا يتناول الأخ الواحد والأخت الواحدة كما يتناول من فوقهما ، ولفظ الإخوة وسائر ألفاظ الجمع قد يعنى به الجنس من غير قصد التعدد ، كقوله - تعالى - : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } وقد يعنى به العدد من غير قصد لعدد معين بل لجنس التعدد ، وقد يعنى به الاثنان وما زاد ، والثالث يتناول الثلاثة فما زاد عند إطلاقه ، وإذا قيد اختص بما قيد به [ ص: 272 ]

ومما يدل على أن قوله تعالى { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } أن المراد به الاثنان فصاعدا أنه - سبحانه - قال : { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } فقوله : { كانوا } ضمير جمع ، ثم قال : { فهم شركاء في الثلث } فذكرهم بصيغة الجمع المضمر وهو قوله : { فهم } والمظهر وهو قوله : { شركاء } ولم يذكر قبل ذلك إلا قوله : { وله أخ أو أخت } فذكر حكم الواحد وحكم اجتماعه مع غيره ، وهو يتناول الاثنين قطعا ، فإن قوله : { أكثر من ذلك } أي أكثر من أخ أو أخت ، ولم يرد أكثر من مجموع الأخت والأخ ، بل أكثر من الواحد ، فدل على أن صيغة الجمع في الفرائض تتناول العدد الزائد على الواحد مطلقا ، ثلاثة كان أو أكثر منه ، وهذا نظير قوله : { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } ومما يوضح ذلك أن لفظ الجمع قد يختص بالاثنين مع البيان وعدم اللبس ، كالجمع المضاف إلى اثنين مما يكون المضاف فيه جزءا من المضاف إليه أو كجزئه ، نحو " قلوبهما " و " أيديهما " فكذلك يتناول الاثنين مما فوقهما مع البيان بطريق الأولى .

وله ثلاثة أحوال : أحدها : اختصاصه بالاثنين . الثانية : صلاحيته لهما . الثالثة : اختصاصه بما زاد عليهما ، وهذه الحال له عند إطلاقه ، وأما عند تقييده فبحسب ما قيد به ، وهو حقيقة في الموضعين ، فإن اللفظ تختلف دلالته بالإطلاق والتقييد ، وهو حقيقة في الاستعمالين ، فظهر أن فهم جمهور الصحابة أحسن من فهم ابن عباس في حجب الأم بالاثنين ، كما فهمهم في العمريتين أتم من فهمه ، وقواعد الفرائض تشهد لقولهم ، فإنهإذا اجتمع ذكر وأنثى في طبقة واحدة كالابن والبنت والجد والجدة والأب والأم والأخ والأخت فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى أو يساويها ، فأما أن تأخذ الأنثى ضعف الذكر فهذا خلاف قاعدة الفرائض التي أوجبها شرع الله وحكمته ، وقد عهدنا الله - سبحانه - أعطى الأب ضعف ما أعطى الأم إذا انفرد الأبوان بميراث الولد ، وساوى بينهما في وجود الولد ، ولم يفضلها عليه في موضع واحد ، فكان جعل الباقي بينهما بعد نصيب أحد الزوجين أثلاثا هو الذي يقتضيه الكتاب والميزان ، فإن ما يأخذه الزوج أو الزوجة من المال كأنه مأخوذ بدين أو وصية إذ لا قرابة بينهما ، وما يأخذه الأبوان يأخذانه بالقرابة ، فصارا هما المستقلين بميراث الولد بعد فرض الزوجين ، وهما في طبقة واحدة ، فقسم الباقي بينهما أثلاثا .

فإن قيل : فههنا سؤالان : أحدهما : أنكم هلا أعطيتموها ثلث جميع المال في مسألة زوجة وأبوين ، فإن الزوجة إذا أخذت الربع وأخذت هي الثلث كان الباقي للأب وهو أكثر [ ص: 273 ] من الذي أخذته ، فوفيتم حينئذ بالقاعدة ، وأعطيتموها الثلث كاملا ؟

والثاني : أنكم هلا جعلتم لها ثلث الباقي إذا كان بدل الأب في المسألتين جد ؟

قيل : قد ذهب إلى كل واحد من هذين المذهبين ذاهبون من السلف الطيب ، فذهب إلى الأول محمد بن سيرين ومن وافقه ، وإلى الثاني عبد الله بن مسعود ، ولكن أبى ذلك جمهور الصحابة والأئمة بعدهم ، وقولهم أصح في الميزان وأقرب إلى دلالة الكتاب ، فإنا لو أعطيناها الثلث كاملا بعد فرض الزوجة كنا قد خرجنا عن قاعدة الفرائض وقياسها ، وعن دلالة الكتاب ، فإن الأب حينئذ يأخذ ربعا وسدسا ، والأم لا تساويه ولا تأخذ شطره ، وهي في طبقته ، وهذا لم يشرعه الله قط ، ودلالة الكتاب لا تقتضيه .

وأما في مسألة الجد فإن الجد أبعد منها ، وهو يحجب بالأب ، فليس في طبقتها فلا يحجبها عن شيء من حقها ، فلا يمكن أن تعطى ثلث الباقي ويفضل الجد عليها بمثل ما تأخذ ، فإنها أقرب منه ، وليس في درجتها ، ولا يمكن أن تعطى السدس ، فكان فرضها الثلث كاملا .

وهذا مما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من النصوص بالاعتبار الذي هو في معنى الأصل ، أو بالاعتبار الأولى ، أو بالاعتبار الذي فيه إلحاق الفرع بأشبه الأصلين به ، أو تنبيه اللفظ ، أو إشارته وفحواه ، أو بدلالة التركيب ، وهو ضم نص إلى نص آخر ، وهي غير دلالة الاقتران ، بل هي ألطف منها وأدق وأصح كما تقدم .

فالقياس المحض والميزان الصحيح أن الأم مع الأب كالبنت مع الابن والأخت مع الأخ ; لأنهما ذكر وأنثى من جنس واحد ، وقد أعطى الله - سبحانه - الزوج ضعف ما أعطى الزوجة تفضلا لجانب الذكورية ، وإنما عدل عن هذا في ولد الأم ; لأنهم يدلون بالرحم المجرد ويدلون بغيرهم وهو الأم ، وليس لهم تعصيب ، بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد ، فإنهم يدلون بأنفسهم ، وسائر العصبة يدلون بذكر كولد البنين وكالإخوة للأبوين أو للأب ، فإعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين معتبر فيمن يدلي بنفسه أو بعصبة ، وأما من يدلي بالأمومة كولد الأم فإنه لا يفضل ذكرهم على أنثاهم ، وكان الذكر كالأنثى في الأخذ ، وليس الذكر كالأنثى في باب الزوجية ولا في باب الأبوة ولا البنوة ولا الأخوة ، فهذا هو الاعتبار الصحيح ، والكتاب يدل عليه كما تقدم بيانه .

وقد تناظر ابن عباس وزيد بن ثابت في العمريتين ، فقال له ابن عباس أين في كتاب الله ثلث ما بقي ؟ فقال زيد : وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث كله مع الزوجين ، أو كما قال ، بل كتاب الله يمنع إعطاءها الثلث مع أحد الزوجين ، فإنه لو أعطاها الثلث مع [ ص: 274 ] الزوج لقال : فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث ، فكانت تستحقه مطلقا ، فلما خص الثلث ببعض الأحوال علم أنها لا تستحقه مطلقا ، ولو أعطيته مطلقا لكان قوله : { وورثه أبواه } زيادة في اللفظ ونقصا في المعنى ، وكان ذكره عديم الفائدة ، ولا يمكن أن تعطى السدس ; لأنه إنما جعل لها مع الولد أو الإخوة ، فدل القرآن على أنها لا تعطى السدس مع أحد الزوجين ولا تعطى الثلث ، وكان قسمة ما بقي بعد فرض الزوجين بين الأبوين مثل قسمة أصل المال بينهما ، وليس بينهما فرق أصلا لا في القياس ولا في المعنى .

فإن قيل : فهل هذه دلالة خطابية لفظية أو قياسية محضة ؟ قيل : هي ذات وجهين : فهي لفظية من جهة دلالة الخطاب ، وضم بعضه إلى بعض ، واعتبار بعضه ببعض ، وقياسية من جهة اعتبار المعنى ، والجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ، وأكثر دلالات النصوص كذلك في قوله : { من أعتق شركا له في عبد } وقوله : { أيما رجل وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به } . وقوله { : من باع شركا له في أرض أو ربعة أو حائط } " حيث يتناول الحوانيت ، وقوله : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } فخص الإناث باللفظ ، إذ كن سبب النزول ، فنص عليهم بخصوصهن ، وهذا أصح من فهم من قال من جهل الظاهر : المراد بالمحصنات الفروج المحصنات ، فإن هذا لا يفهمه السامع من هذا اللفظ ولا من قوله : { فآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات } . ولا من قوله : { والمحصنات من النساء } ولا من قوله : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } بل هذا من عرف الشارع ، حيث يعبر باللفظ الخاص عن المعنى العام ، وهذا غير باب القياس .

وهذا تارة يكون لكون اللفظ الخاص صار في العرف عاما كقوله : " لا يملكون نقيرا " ، و { ما يملكون من قطمير } ، { ولا يظلمون فتيلا } ونحوه ، وتارة لكونه قد علم بالضرورة من خطاب الشارع تعميم المعنى لكل ما كان مماثلا للمذكور ، وأن التعيين في اللفظ لا يراد به التخصيص بل التمثيل ، أو لحاجة المخاطب إلى تعيينه بالذكر ، أو لغير ذلك من الحكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية