الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك بعضها الآخر ] : فاحتج طائفة منهم في سلب طهورية الماء المستعمل في رفع الحدث بأن النبي صلى الله عليه وسلم : { نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة والمرأة بفضل وضوء الرجل } .

وقالوا : الماء المنفصل عن أعضائهما هو فضل وضوئهما . وخالفوا نفس الحديث ; فجوزوا لكل منهما أن يتوضأ بفضل طهور الآخر ، وهو المقصود بالحديث ، فإنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت بالماء ، وليس عندهم للخلوة أثر ، ولا لكون الفضلة فضلة امرأة أثر ، فخالفوا نفس الحديث الذي احتجوا به ، وحملوا الحديث على غير محمله ; إذ فضل الوضوء بيقين هو الماء الذي فضل منه ، ليس هو الماء المتوضأ به ، فإن ذلك لا يقال له فضل الوضوء ، فاحتجوا به فيما لم يرد به ، وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به .

ومن ذلك احتجاجهم على نجاسة الماء بالملاقاة وإن لم يتغير بنهيه صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الدائم ، ثم قالوا : لو بال في الماء الدائم لم ينجسه حتى ينقص عن قلتين . واحتجوا على نجاسته أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم { : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا } ثم قالوا : لو غمسها قبل غسلها لم ينجس الماء ، ولا يجب عليه غسلها ، وإن شاء أن يغمسها قبل الغسل فعل .

واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الأرض التي بال فيها البائل وإخراج ترابها ، ثم قالوا : لا يجب حفرها ، بل لو تركت حتى يبست بالشمس والريح طهرت . واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله صلى الله عليه وسلم { يا بني عبد المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس } يعني الزكاة .

ثم قالوا : لا تحرم الزكاة على بني عبد المطلب . واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجسه بخلاف غيره من ميتة البر فإنه ينجس الماء { بقوله صلى الله عليه وسلم في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته } ثم خالفوا هذا الخبر بعينه وقالوا : لا يحل ما مات في البحر من السمك ، ولا يحل شيء مما فيه أصلا غير السمك . واحتج أهل الرأي على نجاسة الكلب وولوغه بقول النبي صلى الله عليه وسلم { : إذا ولغ الكلب في [ ص: 151 ] إناء أحدكم فليغسله سبع مرات } ثم قالوا : لا يجب غسله سبعا ، بل يغسل مرة ، ومنهم من قال ثلاثا .

واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلظة بين قدر الدرهم وغيره بحديث لا يصح من طريق غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه : { تعاد الصلاة من قدر الدرهم } . ثم قالوا : لا تعاد الصلاة من قدر الدرهم .

واحتجوا بحديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومائة أنها ترد إلى أول الفريضة فيكون في كل خمس شاة ، وخالفوه في اثني عشر موضعا منه ، ثم احتجوا بحديث عمرو بن حزم : { أن ما زاد على مائتي درهم فلا شيء فيه حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهم } وخالفوا الحديث بعينه في نص ما فيه في أكثر من خمسة عشر موضعا . واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المصراة ، وهذا من إحدى العجائب ; فإنهم من أشد الناس إنكارا له ، ولا يقولون به ، فإن كان حقا وجب اتباعه ، وإن لم يكن صحيحا لم يجز الاحتجاج به في تقدير الثلاث ، مع أنه ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط ; فالذي أريد بالحديث ودل عليه خالفوه ، والذي احتجوا عليه به لم يدل عليه . واحتجوا لهذه المسألة أيضا { بخبر حبان بن منقذ الذي كان يغبن في البيع ، فجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثة أيام } . وخالفوا الخبر كله ، فلم يثبتوا الخيار بالغبن ولو كان يساوي عشر معشار ما بذله فيه ، وسواء قال المشتري : " لا خلابة " أو لم يقل ، وسواء غبن قليلا أو كثيرا ، لا خيار له في ذلك كله .

واحتجوا في إيجاب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان بأن في بعض ألفاظ الحديث أن رجلا أفطر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر ، ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا : إن استف دقيقا أو بلع عجينا أو إهليلجا أو طيبا أفطر ، ولا كفارة عليه . واحتجوا على وجوب القضاء على من تعمد القيء بحديث أبي هريرة ، ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا : إن تقيأ أقل من ملء فيه فلا قضاء عليه . واحتجوا على تحديد مسافة الفطر والقصر بقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع زوج أو ذي محرم } وهذا مع أنه لا دليل فيه ألبتة [ ص: 152 ] على ما ادعوه فقد خالفوه نفسه فقالوا : يجوز للمملوكة والمكاتبة وأم الولد السفر مع غير زوج ومحرم . واحتجوا على منع المحرم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس { في الذي وقصته ناقته وهو محرم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا } وهذا من العجب فإنهم يقولون : إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه . واحتجوا على إيجاب الجزاء على من قتل ضبعا في الإحرام بحديث جابر أنه أفتى بأكلها وبالجزاء على قاتلها ، وأسند ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا : لا يحل أكلها . واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنة مخاض فأعطى ابنة لبون تساوي ابنة مخاض أو حمارا يساويها أنه يجزئه بحديث أنس الصحيح وفيه : { من وجبت عليه ابنة مخاض وليست عنده ، وعنده ابنة لبون ; فإنها تؤخذ منه ، ويرد عليه الساعي شاتين أو عشرين درهما } . وهذا من العجب فإنهم لا يقولون بما دل عليه الحديث من تعيين ذلك ، ويستدلون به على ما لم يدل عليه بوجه ولا أريد به . واحتجوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم أسبابها بحديث : { لا تقطع الأيدي في الغزو } وفي لفظ : " في السفر " ولم يقولوا بالحديث ; فإن عندهم لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك . واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم { : أمر بالأضحية ، وأن يطعم منها الجار والسائل } فقالوا : لا يجب أن يطعم منها جار ولا سائل .

واحتجوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو سارق بالخبر الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { : دعي إلى الطعام مع رهط من أصحابه ، فلما أخذ لقمة قال : إني أجد لحم شاة أخذت بغير حق فقالت المرأة : يا رسول الله ، إني أخذتها من امرأة فلان بغير علم زوجها ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطعم الأسارى . } وقد خالفوا هذا الحديث ، فقالوا : ذبيحة الغاصب حلال ، ولا تحرم على المسلمين . واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : { جرح العجماء جبار } في إسقاط الضمان بجناية المواشي ، ثم خالفوه فيما يدل عليه وأريد به ، فقالوا : من ركب دابة أو قادها أو ساقها فهو ضامن لمن عضت بفمها ، ولا ضمان عليه فيما أتلفت برجلها . [ ص: 153 ] واحتجوا على تأخير القود إلى حين البرء بالحديث المشهور : { أن رجلا طعن آخر في ركبته بقرن ، فطلب القود ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يبرأ ، فأبى ، فأقاده قبل أن يبرأ } الحديث ، وخالفوه في القصاص من الطعنة فقالوا : لا يقتص منها . واحتجوا على إسقاط الحد عن الزاني بأمة ابنه أو أم ولده بقوله صلى الله عليه وسلم : { أنت ومالك لأبيك } وخالفوه فيما دل عليه فقالوا : ليس للأب من مال ابنه شيء ألبتة ، ولم يبيحوا له من مال ابنه عود أراك فما فوقه ، وأوجبوا حبسه في دينه وضمان ما أتلفه عليه . واحتجوا على أن الإمام يكبر إذا قال المقيم : " قد قامت الصلاة " بحديث بلال أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تسبقني بآمين } وبقول أبي هريرة لمروان : " لا تسبقني بآمين " ثم خالفوا الخبر جهارا فقالوا : لا يؤمن الإمام ولا المأموم . واحتجوا على وجوب مسح ربع الرأس بحديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مسح بناصيته وعمامته } ثم خالفوه فيما دل عليه فقالوا : لا يجوز المسح على العمامة ، ولا أثر للمسح عليها ألبتة ; فإن الفرض سقط بالناصية ، والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحب عندهم . واحتجوا لقولهم في استحباب مساواة الإمام بقوله صلى الله عليه وسلم { : إنما جعل الإمام ليؤتم به } قالوا : والائتمام به يقتضي أن يفعل مثل فعله سواء . ثم خالفوا الحديث فيما دل عليه ، فإن فيه : { فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا ولك الحمد ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون } .

واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة بحديث المسيء في صلاته حيث قال له : { اقرأ ما تيسر معك من القرآن } وخالفوه فيما دل عليه صريحا في قوله { : ثم اركع حتى تطمئن راكعا ، ثم ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا } .

وقوله : { ارجع فصل فإنك لم تصل } فقالوا : من ترك الطمأنينة فقد صلى ، وليس الأمر بها فرضا لازما ، مع أن الأمر بها وبالقراءة سواء في الحديث . واحتجوا على إسقاط جلسة الاستراحة بحديث أبي حميد حيث لم يذكرها فيه ، وخالفوه في نفس ما دل عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه .

واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، والسلام في الصلاة ، بحديث ابن مسعود : { فإذا قلت ذلك فقد تمت صلاتك } ثم خالفوه في نفس ما دل عليه ، فقالوا : صلاته تامة قال ذلك أو لم يقله .

[ ص: 154 ] واحتجوا على جواز الكلام والإمام يخطب على المنبر يوم الجمعة { بقوله صلى الله عليه وسلم للداخل : أصليت يا فلان قبل أن تجلس ؟ قال : لا ، قال : قم فاركع ركعتين } وخالفوه في نفس ما دل عليه ، فقالوا : من دخل والإمام يخطب جلس ولم يصل . واحتجوا على كراهية رفع اليدين في الصلاة بقوله صلى الله عليه وسلم { : ما بالهم رافعي أيديهم كأنها أذناب خيل شمس } ثم خالفوه في نفس ما دل عليه ; فإن فيه : { إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه من عن يمينه وشماله السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله } فقالوا : لا يحتاج إلى ذلك ويكفيه غيره من كل مناف للصلاة .

واحتجوا في استخلاف الإمام إذا أحدث بالخبر الصحيح { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس فتأخر أبو بكر ، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس } ، ثم خالفوه في نفس ما دل عليه ، فقالوا : من فعل مثل ذلك بطلت صلاته ، وأبطلوا صلاة من فعل مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ومن حضر من الصحابة ، فاحتجوا بالحديث فيما لم يدل عليه ، وأبطلوا العمل به في نفس ما دل عليه .

واحتجوا لقولهم إن الإمام إذا صلى جالسا لمرض صلى المأمومون خلفه قياما بالخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أنه خرج فوجد أبا بكر يصلي بالناس قائما ، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وجلس وصلى بالناس ; وتأخر أبو بكر } ، ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه ، وقالوا : إن تأخر الإمام لغير حدث ، وتقدم الآخر بطلت صلاة الإمامين وصلاة جمع المأمومين .

واحتجوا على بطلان صوم من أكل يظنه ليلا فبان نهارا بقوله صلى الله عليه وسلم : { إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، } ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه فقالوا : لا يجوز الأذان للفجر بالليل ، لا في رمضان ولا في غيره . ثم خالفوه من جهة أخرى ، فإن في نفس الحديث : { وكان ابن مكتوم رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت } ، وعندهم من أكل في ذلك الوقت بطل صومه .

واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها } وخالفوا الحديث نفسه وجوزوا استقبالها واستدبارها بالبول . واحتجوا على عدم شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن عمر { أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره } ، وهم [ ص: 155 ] لا يقولون بالحديث ; فإن عندهم أن نذر الكافر لا ينعقد ، ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام . واحتجوا على الرد بحديث : { تحوز المرأة ثلاث مواريث ; عتيقها ، ولقيطها ، وولدها الذي لاعنت عليه } ولم يقولوا - بالحديث في حيازتها - مال لقيطها ، وقد قال به عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهويه ، وهو الصواب .

واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه : { التمسوا له وارثا أو ذا رحم فلم يجدوا ، فقال : أعطوه الكبر من خزاعة } ولم يقولوا به في أن من لا وارث له يعطى ماله للكبر من قبيلته .

واحتجوا في منع القاتل ميراث المقتول بخبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : { لا يرث قاتل ، ولا يقتل مؤمن بكافر } فقالوا بأول الحديث دون آخره واحتجوا على جواز التيمم في الحضر مع وجود الماء للجنازة إذا خاف فوتها بحديث أبي جهيم بن الحارث في تيمم النبي صلى الله عليه وسلم لرد السلام ، ثم خالفوه فيما دل عليه في موضعين : أحدهما أنه تيمم بوجهه وكفيه دون ذراعيه ، والثاني أنهم لم يكرهوا رد السلام للمحدث ولم يستحبوا التيمم لرد السلام .

واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حجرين بحديث ابن مسعود { : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته وقال له : ائتني بأحجار ، فأتاه بحجرين وروثة ، فأخذ الحجرين وألقى الروثة ، وقال : هذه ركس } ثم خالفوه فيما هو نص فيه ، فأجازوا الاستجمار بالروث ، واستدلوا به على ما لا يدل عليه من الاكتفاء بحجرين .

واحتجوا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء { بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم حاملا أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا ركع أو سجد وضعها } ، ثم قالوا : من صلى كذلك بطلت صلاته وصلاة من ائتم به .

قال بعض أهل العلم : ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة { مدهامتان } بالفارسية ثم يركع قدر نفس ، ثم يرفع قدر حد السيف ، أو لا يرفع بل يخر كما هو ساجدا ، ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه ، وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صح ذلك ، ولا جبهته ، بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نفس واحد ، ثم يجلس مقدار التشهد ، ثم يفعل فعلا ينافي الصلاة من فساء أو ضراط أو ضحك أو نحو ذلك .

واحتجوا على تحريم وطء المسبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 156 ] { لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة } ثم خالفوا صريحه فقالوا : إن أعتقها وزوجها وقد وطئها البارحة حل للزوج أن يطأها الليلة .

واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة { بخبر بنت حمزة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قضى بها لخالتها } ثم خالفوه فقالوا : لو تزوجت الخالة بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتها .

واحتجوا على المنع من التفريق بين الأخوين بحديث علي في نهيه عن التفريق بينهما ، ثم خالفوه فقالوا : لا يرد المبيع إذا وقع كذلك ، وفي الحديث الأمر برده .

واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي بخبر روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد يهوديا من مسلم لطمه } . ثم خالفوه فقالوا : لا قود في اللطمة والضربة لا بين مسلمين ولا بين مسلم وكافر واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله صلى الله عليه وسلم { : من لطم عبده فهو حر } ثم خالفوه فقالوا : لا يعتق بذلك ، واحتجوا أيضا بالحديث الذي فيه : { من مثل بعبده عتق عليه } فقالوا : لم يوجب عليه القود ، ثم قالوا : لا يعتق عليه .

واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب { : في العين نصف الدية } ثم خالفوه في عدة مواضع : منها قوله : { وفي العين القائمة السادة لموضعها ثلث الدية } ، ومنها قوله : { في السن السوداء ثلث الدية } واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير وفيه : { أشهد على هذا غيري } ثم خالفوه صريحا فإن في الحديث نفسه : { إن هذا لا يصلح } وفي لفظ : { إني لا أشهد على جور } فقالوا : بل هذا يصلح وليس بجور ، ولكل أحد أن يشهد عليه .

واحتجوا على أن النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث : { إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور } ثم خالفوه فقالوا : لو وطئ العذرة بخفيه لم يطهرهما التراب .

واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشجة ، ثم خالفوه صريحا [ ص: 157 ] فقالوا : لا يجمع بين الماء والتراب ، بل إما أن يقتصر على غسل الصحيح إن كان أكثر ، ولا يتيمم ، وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجريح أكثر ، ولا يغسل الصحيح . واحتجوا على جواز تولية أمراء أو حكام أو متولين مرتين واحدا بعد واحد بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { أميركم زيد ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة ، فإن قتل فجعفر } ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا : لا يصح تعليق الولاية بالشرط ، ونحن نشهد بالله أن هذه الولاية من أصح ولاية على وجه الأرض ، وأنها أصح من كل ولاياتهم من أولها إلى آخرها . واحتجوا على تضمين المتلف ما أتلفه ويملك هو ما أتلفه بحديث { القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبة القصعة نظيرتها } ، ثم خالفوه جهارا فقالوا : إنما يضمن بالدراهم والدنانير ، ولا يضمن بالمثل .

واحتجوا على ذلك أيضا بخبر الشاة التي ذبحت بغير إذن صاحبها ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها على صاحبها ، ثم خالفوه صريحا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يملكها الذابح ، بل أمر بإطعامها الأسارى .

واحتجوا في سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يسرع إليه الفساد بخبر : { لا قطع في ثمر ولا كثر } ثم خالفوا الحديث نفسه في عدة مواضع : أحدها أن فيه : { فإذا آواه إلى الجرين ففيه القطع } وعندهم لا قطع فيه آواه إلى الجرين أو لم يؤوه ، الثاني أنه قال : { إذا بلغ ثمن المجن } وفي الصحيح أن ثمن المجن كان ثلاثة دراهم ، وعندهم لا يقطع في هذا القدر ، الثالث أنهم قالوا : ليس الجرين حرزا ; فلو سرق منه ثمرا يابسا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع .

واحتجوا في مسألة الآبق يأتي به الرجل أن له أربعين درهما بخبر فيه { أن من جاء بآبق من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينار } ، وخالفوه جهرة فأوجبوا أربعين .

واحتجوا على خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني : { الشفعة كحل العقال ، ولا شفعة لصغير ولا لغائب ، ومن مثل به فهو حر } فخالفوا جميع ذلك إلا قوله : { الشفعة كحل العقال } .

واحتجوا على امتناع القود بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث : { لا يقاد والد بولده ولا سيد بعبده } وخالفوا الحديث نفسه فإن تمامه : { ومن مثل بعبده فهو حر } . واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن وليدة زمعة [ ص: 158 ] وفيه : { الولد للفراش } ثم خالفوا الحديث نفسه صريحا فقالوا : الأمة لا تكون فراشا ، وإنما كان هذا القضاء في أمة ، ومن العجب أنهم قالوا : إذا عقد على أمه وابنته وأخته ووطئها لم يحد للشبهة ، وصارت فراشا بهذا العقد الباطل المحرم ، وأم ولده وسريته التي يطؤها ليلا ونهارا ليست فراشا له ، ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية ينشئها من النهار قبل الزوال بحديث عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يدخل عليها فيقول : هل من غداء ؟ فتقول : لا ، فيقول : فإني صائم } ثم قالوا : لو فعل ذلك في صوم التطوع لم يصح صومه ، والحديث إنما هو في التطوع نفسه .

واحتجوا على المنع من بيع المدبر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية ، وفي بيعه إبطال لذلك ، وأجابوا عن بيع النبي صلى الله عليه وسلم المدبر بأنه قد باع خدمته . ثم قالوا : لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضا .

واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك في ربعة أو حائط } ثم خالفوا نص الحديث نفسه ، فإن فيه : { ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به } فقالوا : يحل له أن يبيع قبل إذنه ، ويحل له أن يتحيل لإسقاط الشفعة ، وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضا بالشفعة ، ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه .

واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم بالحيوان ، ثم خالفوه نفسه ، فقالوا : يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه .

واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية لا تنفذ إلا في الثلث { بحديث عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته لا مال له سواهم ، فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم ، فأعتق اثنين وأرق أربعة } . ثم خالفوه في موضعين ; فقالوا : لا يقرع بينهم ألبتة ، ويعتق من كل واحد سدسه .

وهذا كثير جدا ، والمقصود أن التقليد حكم عليكم بذلك ، وقادكم إليه قهرا ، ولو حكمتم الدليل على التقليد لم تقعوا في مثل هذا ; فإن هذه الأحاديث إن كانت حقا وجب [ ص: 159 ] الانقياد لها ، والأخذ بما فيها ، وإن لم تكن صحيحة لم يؤخذ بشيء مما فيها ، فإما أن تصحح ويؤخذ بها فيما وافق قول المتبوع ، وتضعف أو ترد إذا خالفت قوله ، أو تؤول ; فهذا من أعظم الخطأ والتناقض .

فإن قلتم : عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه ، ولم يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه واطراحه .

قيل : لا تخلو هذه الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة ، فإن كانت منسوخة لم يحتج بمنسوخ ألبتة ، وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها ألبتة .

فإن قيل : هي منسوخة فيما خالفناها فيه ، ومحكمة فيما وافقناها فيه .

قيل : هذا مع أنه ظاهر البطلان يتضمن ما لا علم لمدعيه به ، [ فمدعيه ] قائل ما لا دليل له عليه ، فأقل ما فيه أن معارضا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه ، ولم يكن بينهما فرق ، ولا فرق ، وكلاهما مدع ما لا يمكنه إثباته ; فالواجب اتباع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل القاطع على نسخ المنسوخ منها ، أو نجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها ، وهذا الثاني محال قطعا ، فإن الأمة ولله الحمد لم تجمع على ترك العمل بسنة واحدة ، إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها ، وحينئذ يتعين العمل بالناسخ دون المنسوخ ، وأما أن تترك السنن لقول أحد من الناس فلا ، كائنا من كان ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية