الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

وجماع الأمر أنه إذا باعه ربويا بثمن وهو يريد أن يشتري منه بثمنه من جنسه ، فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظا ، أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك ، أو لا يكون ، فإن كان الأول فهو باطل كما تقدم تقريره ; فإن هذا لم يقصد ملك الثمن ولا قصد هذا تمليكه ، وإنما قصد تمليك المثمن بالمثمن ، وجعلا تسمية الثمن تلبيسا وخداعا ووسيلة إلى الربا ; فهو في هذا العقد بمنزلة التيس الملعون في عقد التحليل ، وإن لم تجر بينهما مواطأة لكن قد علم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه ربويا بربوي فكذلك ; لأن علمه بذلك ضرب من المواطأة ، وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرجان به عن قصد الربا ، وإن قصد البائع الشراء منه بعد البيع ولم يعلم المشتري ; فقد قال الإمام أحمد : هاهنا لو باع من رجل دنانير بدراهم لم يجز أن يشتري بالدراهم منه ذهبا إلا أن يمضي ويبتاع بالورق من غيره ذهبا فلا يستقيم ، فيجوز أن يرجع إلى الذي ابتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبا ، وكذلك كره مالك أن تصرف دراهمك من رجل بدنانير ، ثم تبتاع منه بتلك الدنانير دراهم غير دراهمك في الوقت أو بعد يوم أو يومين .

قال ابن القاسم : فإن طال الزمان وصح أمرهما فلا بأس به ; فوجه ما منعه [ ص: 181 ] الإمام أحمد رضي الله عنه أنه متى قصد المشتري منه تلك الدنانير لم يقصد تملك الثمن ، ولهذا لا يحتاط في النقد والوزن ، ولهذا يقول : إنه متى بدا له بعد القبض والمفارقة أن يشتري منه - بأن يطلب من غيره فلا يجد - لم يكن في العقد الأول خلل ، والمتقدمون من أصحابه حملوا هذا المنع منه على التحريم .

وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما : إذا لم يكن شرط ومواطأة بينهما لم يحرم ، وقد أومأ إليه الإمام أحمد في رواية حرب ; فإنه قال ; قلت لأحمد : أشتري من رجل ذهبا ثم أبتاعه منه ، قال : بيعه من غيره أحب إلي ، وذكر ابن عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى .

وكره ابن سيرين للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير ، وهذه المسألة في ربا الفضل كمسائل العينة في ربا النساء ، ولهذا عدها من الربا الفقهاء السبعة وأكثر العلماء ، وهو قول أهل المدينة كمالك وأصحابه ، وأهل الحديث كأحمد وأصحابه ، وهو مأثور عن ابن عمر ; ففي هذه المسألة قد عاد الثمن إلى المشتري ، وحصلا على ربا الفضل أو النساء ، وفي العينة قد عاد المبيع إلى البائع وأفضى إلى ربا الفضل والنساء جميعا ، ثم إن كان في الموضعين لم يقصد الثمن ولا المبيع ، وإنما جعل وصلة إلى الربا ; فهذا الذي لا ريب في تحريمه ، والعقد الأول هاهنا باطل بلا توقف عند من يبطل الحيل .

وقد صرح به القاضي في مسألة العينة في غير موضع ، وحكى أبو الخطاب في صحته وجهين :

قال شيخنا : والأول هو الصواب ، وإنما تردد من تردد من الأصحاب في العقد الأول في مسألة العينة ; لأن هذه المسألة إنما ينسب الخلاف فيها في العقد الثاني بناء على أن الأول صحيح ، وعلى هذا التقدير فليست من مسائل الحيل ، وإنما هي من مسائل الذرائع ، ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم عند أبي حنيفة وأصحابه ; فإنهم لا يحرمون الحيل ويحرمون مسألة العينة ، وهو أن الثمن إذا لم يستوف لم يتم العقد الأول ; فيصير الثاني مبنيا عليه ، وهذا تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع ، فصار للمسألة ثلاثة مآخذ ، فلما لم يتمحص تحريمها على قاعدة الحيل توقف في العقد الأول من توقف .

قال شيخنا : والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطيت حكم الحيل ، وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران ، هذا إذا لم يقصد العقد الأول ، فإن قصد حقيقته فهو صحيح ، لكن ما دام الثمن في ذمة المشتري لم يجز أن يشتري منه المبيع بأقل منه من جنسه ، ولا يجوز أن يبتاع منه الثمن ربويا لا يباع بالأول نساء ; لأن أحكام العقد الأول لا تتم إلا بالتقابض ; فإذا لم يحصل كان ذريعة إلى الربا ، وإن تقابضا وكان العقد مقصودا فله أن يشتري منه كما يشتري من غيره ، وإذا كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصودة المشروعة التي لا خداع فيها ولا تحريم [ ص: 182 ] لم يصح أن تلحق بها صورة عقد لم تقصد حقيقته ، وإنما قصد التوصل به إلى استحلال ما حرمه الله ، والله الموفق .

وإنما أطلنا الكلام على هذه الحجة لأنها عمدة أرباب الحيل من السنة ، كما [ أن ] عمدتهم من الكتاب : {وخذ بيدك ضغثا } .

التالي السابق


الخدمات العلمية