الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل :

[ إبطال حيلة لحسبان الدين من الزكاة ]

ومن الحيل الباطلة المحرمة أن يكون له على رجل مال ، وقد أفلس غريمه وأيس من [ ص: 240 ] أخذه منه ، وأراد أن يحسبه من الزكاة ، فالحيلة أن يعطيه من الزكاة بقدر ما عليه ، فيصير مالكا للوفاء ، فيطالبه حينئذ بالوفاء ، فإذا أوفاه برئ وسقطت الزكاة عن الدافع .

وهذه حيلة باطلة ، سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه أو ملكه إياه بنية أن يستوفيه من دينه ، فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة ، ولا يعد مخرجا لها لا شرعا ولا عرفا كما لو أسقط دينه وحسبه من الزكاة .

قال مهنا : سألت أبا عبد الله عن رجل له على رجل دين برهن ، وليس عنده قضاؤه ، ولهذا الرجل زكاة مال ، قال : يفرقه على المساكين ، فيدفع إليه رهنه ، ويقول له : الدين الذي لي عليك هو لك ، ويحسبه من زكاة ماله ، قال : لا يجزئه ذلك ؟ فقلت له : فيدفع إليه زكاته فإن رده إليه قضى مما أخذه من ماله ؟ قال : نعم ; وقال في موضع آخر - وقيل له : فإن أعطاه ثم رده إليه ؟ - قال : إذا كان بحيلة فلا يعجبني ، قيل له : فإن استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه إياها ثم ردها عليه وحسبها من الزكاة ؟ قال : إذا أراد بهذا إحياء ماله فلا يجوز ، ومطلق كلامه ينصرف إلى هذا المقيد ; فيحصل من مذهبه أن دفع الزكاة إلى الغريم جائز ، سواء دفعها ابتداء أو استوفى حقه ثم دفع ما استوفاه إليه ، إلا أنه متى قصد بالدفع إحياء ماله واستيفاء دينه لم يجز ; لأن الزكاة حق لله وللمستحق ، فلا يجوز صرفها إلى الدافع ، يفوز بنفعها العاجل .

ومما يوضح ذلك أن الشارع منعه من أخذها من المستحق بعوضها ، فقال : " لا تشترها ولا تعد في صدقتك " فجعله بشرائها منه بثمنها عائدا فيها ، فكيف إذا دفعها إليه بنية أخذها منه ؟ قال جابر بن عبد الله : إذا جاء المصدق فادفع إليه صدقتك ، ولا تشترها ، فإنهم كانوا يقولون : " ابتعها " فأقول : إنما هي لله .

وقال ابن عمر : لا تشتر طهور مالك .

وللمنع من شرائه علتان ; إحداهما : أنه يتخذ ذريعة وحيلة إلى استرجاع شيء منها ; لأن الفقير يستحي منه فلا يماكسه في ثمنها ، وربما أرخصها ليطمع أن يدفع إليه صدقة أخرى ، وربما علم أو توهم أنه إن لم يبعه إياها استرجعها منه فيقول : ظفري بهذا الثمن خير من الحرمان .

العلة الثانية : قطع طمع نفسه عن العود في شيء أخرجه لله بكل طريق ، فإن النفس متى طمعت في عوده بوجه ما فآمالها بعد متعلقة به ، فلم تطب به نفسا لله وهي متعلقة به ، فقطع عليها طمعها في العود ، ولو بالثمن ، ليتمحص الإخراج لله ، وهذا شأن النفوس الشريفة ذوات الأقدار والهمم ، أنها إذا أعطت عطاء لم تسمح بالعود فيه بوجه لا بشراء ولا [ ص: 241 ] بغيره ، وتعد ذلك دناءة ، ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وسلم العائد في هبته بالكلب يعود في قيئه لخسته ودناءة نفسه وشحه بما قاءه أن يفوته .

فمن محاسن الشريعة منع المتصدق من شراء صدقته ، ولهذا منع من سكنى بلاده التي هاجر منها لله وإن صارت بعد ذلك دار إسلام ، كما { منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعد الفتح من الإقامة بمكة فوق ثلاثة أيام ، لأنهم خرجوا عن ديارهم لله ; فلا ينبغي أن يعودوا في شيء تركوه لله } ، وإن زال المعنى الذي تركوها لأجله .

فإن قيل : فأنتم تجوزون له أن يقضي بها دين المدين ، إذا كان المستحق له غيره ، فما الفرق بين أن يكون الدين له أو لغيره ؟ ويحصل للغريم براءة ذمته وراحة من ثقل الدين في الدنيا ومن حمله في الآخرة ؟ فمنفعته ببراءة ذمته خير له من منفعة الأكل والشرب واللباس ؟ فقد انتفع هو بخلاصه من رق الدين ، وانتفع رب المال بتوصله إلى أخذ حقه ، وصار هذا كما لو أقرضه مالا ليعمل فيه ويوفيه دينه من كسبه .

قيل : هذه المسألة فيها روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله ; إحداهما : أنه لا يجوز له أن يقضي دينه من زكاته ، بل يدفع إليه الزكاة ويؤديها هو عن نفسه ، والثانية : يجوز له أن يقضي دينه من الزكاة قال أبو الحارث : قلت للإمام أحمد : رجل عليه ألف ، وكان على رجل زكاة ماله ألف ، فأداها عن هذا الذي عليه الدين ، يجوز هذا من زكاته ؟ قال : نعم ، ما أرى بذلك بأسا ، وعلى هذا فالفرق ظاهر ; لأن الدافع لم ينتفع هاهنا بما دفعه إلى الغريم ، ولم يرجع إليه ، بخلاف ما إذا دفعه إليه ليستوفيه منه ; فإنه قد أحيا ماله بماله ، ووجه القول بالمنع أنه قد يتخذ ذريعة إلى انتفاعه بالقضاء ، مثل أن يكون الدين لولده أو لامرأته أو لمن يلزمه نفقته فيستغني عن الإنفاق عليه ; فلهذا قال الإمام أحمد : أحب إلي أن يدفعه إليه حتى يقضي هو عن نفسه ، قيل : هو محتاج يخاف أن يدفع إليه فيأكله ولا يقضي دينه

قال : فقل له يوكله حتى يقضيه ، والمقصود أنه متى فعل ذلك حيلة لم تسقط عنه الزكاة بما دفعه ; فإنه لا يحل له مطالبة المعسر ، وقد أسقط الله عنه المطالبة ، فإذا توصل إلى وجوبها بما يدفعه إليه فقد دفع إليه شيئا ثم أخذه ، فلم يخرج منه شيء ، فإنه لو أراد الآخذ التصرف في المأخوذ وسد خلته منه لما مكنه ، فهذا هو الذي لا تسقط عنه الزكاة ، فأما لو أعطاه عطاء قطع طمعه من عوده إليه وملكه ظاهرا وباطنا ثم دفع إليه الآخذ دينه من الزكاة فهذا جائز كما لو أخذ الزكاة من غيره ثم دفعها إليه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية