الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ مما ينبغي للمفتي أن يذكر الحكم بدليله ] الفائدة السادسة :

ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه من ذلك ، ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجا مجردا عن دليله ومأخذه ; فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته من العلم ، ومن تأمل فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره ، ووجه مشروعيته ، وهذا كما { سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا جف ؟ قالوا : نعم ، فزجر عنه } ، ومن المعلوم أنه كان يعلم نقصانه بالجفاف ، ولكن نبههم على علة التحريم وسببه .

ومن هذا { قوله لعمر وقد سأله عن قبلة امرأته وهو صائم ، فقال : أرأيت لو تمضمضت ثم مججته ، أكان يضر شيئا ؟ قال : لا } ، فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم أن تكون محظورة ; فإن غاية القبلة أنها مقدمة الجماع ، فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته ، كما أن وضع الماء في الفم مقدمة شربه ، وليست المقدمة محرمة .

ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم { لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا على خالتها ، فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم [ ص: 124 ] أرحامكم } ; فذكر لهم الحكم ، ونبههم على علة التحريم .

ومن ذلك { قوله لأبي النعمان بن بشير وقد خص بعض ولده بغلام نحله إياه ، فقال : أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : نعم ، قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم } وفي لفظ { إن هذا لا يصلح } وفي لفظ { إني لا أشهد على جور } وفي لفظ { أشهد على هذا غيري } تهديدا ، لا إذنا ، فإنه لا يأذن في الجور قطعا ، وفي لفظ : رده ، والمقصود أنه نبهه على علة الحكم .

ومن هذا { قوله صلى الله عليه وسلم لرافع بن خديج وقد قال : له إنا لاقو العدو غدا ، وليس معنا مدى ، أفنذبح بالقصب ؟ فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر ، وسأحدثك عن ذلك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة } فنبه على علة المنع من التذكية بهما بكون أحدهما عظما ، وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام ; إما لنجاسة بعضها ; وإما لتنجيسه على مؤمني الجن ، ولكون الآخر مدى الحبشة ، ففي التذكية بها تشبه بالكفار .

ومن ذلك قوله { : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الإنسية ، فإنها رجس } ومن ذلك { قوله في الثمرة تصيبها الجائحة : أرأيت إن منع الله الثمرة ، فبم يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ . } وهذا التعليل بعينه ينطبق على من استأجر أرضا للزراعة فأصاب الزرع آفة سماوية لفظا ومعنى ، فيقال للمؤجر : أرأيت إن منع الله الزرع فبم تأكل مال أخيك بغير حق ؟ ، وهذا هو الصواب الذي ندين الله به في المسألة ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .

والمقصود أن الشارع مع كون قوله حجة بنفسه يرشد الأمة إلى علل الأحكام ومداركها وحكمها ، فورثته من بعده كذلك .

ومن ذلك { نهيه عن الخذف وقال إنه يفقأ العين ويكسر السن } ومن ذلك إفتاؤه للعاض يد غيره بإهدار دية ثنيته لما سقطت بانتزاع المعضوض يده من فيه ، ونبه على العلة بقوله { أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل } وهذا من أحسن التعليل وأبينه ; فإن العاض لما صال على المعضوض جاز له أن يرد صياله عنه بانتزاع يده من فمه ، فإذا أدى ذلك إلى إسقاط ثناياه كان سقوطها بفعل مأذون فيه من الشارع فلا يقابل بالدية ، وهذا كثير جدا في السنة .

فينبغي للمفتي أن ينبه السائل على علة الحكم ومأخذه إن عرف ذلك ، وإلا حرم عليه أن يفتي بلا علم .

وكذلك أحكام القرآن يرشد سبحانه فيها إلى مداركها وعللها ، كقوله : { ويسألونك [ ص: 125 ] عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض } فأمر سبحانه نبيه أن يذكر لهم علة الحكم قبل الحكم ، وكذلك قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } .

وكذلك قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم } وقال في جزاء الصيد : { ليذوق وبال أمره } .

التالي السابق


الخدمات العلمية