الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة المجتهد يجوز له الإفتاء وأما المقلد فقال أبو الحسين البصري وغيره : ليس له الإفتاء مطلقا . وجوزه قوم مطلقا إذا عرف المسألة بدليلها . فذهب الأكثرون إلى أنه إن تحرى مذهب ذلك المجتهد ، واطلع على مأخذه ، وكان أهلا للنظر والتفريع على قواعده جاز له الفتوى ، وإلا فلا . ونقله القاضي حسين عن القفال . قال القاضي : وله أن يخرج على أصوله . إن لم يجد له تلك الواقعة . قال الروياني : وأصل الخلاف أن تقليد المستفتي هل هو لذلك المفتي ، أو لذلك الميت ، أي : صاحب المذهب ؟ وفيه وجهان : فإن قلنا : " للميت " فله أن يفتي ، وإن قلنا : " للمفتي " فليس له ذلك ، لأنه لم [ ص: 360 ] يبلغ مبلغ المجتهدين .

                                                      وقال العلامة مجد الدين بن دقيق العيد في " التلقيح " : توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم ، أو استرسال الخلق في أهوائهم . فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به ، لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده . وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا . هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم . وكذلك فعل علي - رضي الله عنه - حين أرسل المقداد في قصة المذي . وفي مسألتنا أظهر ، فإن مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ممكنة ، ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة . وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد اليوم . انتهى .

                                                      وقال آخرون : إن عدم المجتهد جاز له الإفتاء ، وإلا فلا . وقيل : يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله ، أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه . ولا يجوز له تقليد الميت . وجعل القاضي في " مختصر التقريب " الخلاف في العالم ، قال : وأجمعوا على أنه لا يحل لمن شدا شيئا من العلم أن يفتي . انتهى .

                                                      قال الماوردي والروياني : إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها ، فهل له أن يفتي لغيره ؟ فيه أوجه ، ثالثها : إن كان الدليل نصا من كتاب أو سنة جاز ، وإن كان نظرا واستنباطا لم يجز . قال : والأصح : أنه لا يجوز مطلقا ، لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها . وقال الجويني في " شرح الرسالة " : من حفظ نصوص الشافعي وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ، ولا يكون من أهل الفتوى ، ولو أفتى به لا يجوز . وكان القفال يقول إنه يجوز ذلك إذا كان يحكي مذهب صاحب المذهب ، لأنه يقلد صاحب المذهب وقوله . ولهذا كان يقول أحيانا : لو اجتهدت وأدى اجتهادي [ ص: 361 ] إلى مذهب أبي حنيفة فأقول : " مذهب الشافعي كذا ، ولكن أقول بمذهب أبي حنيفة " ، لأنه جاء ليعلم ويستفتي عن مذهب الشافعي فلا بد أن أعرفه بأني أفتي بغيره . قال الشيخ أبو محمد : وهذا ليس بصحيح ، واختار الأستاذ أبو إسحاق خلافه ، ونص الشافعي يدل عليه .

                                                      وذلك أنه إذا لم يكن عالما بمعانيه فيكون حاكيا مذهب الغير ، ومن حكى مذهب الغير - والغير ميت - لا يلزمه القبول ، لأنه لو كان حيا وأخبره عنه بفتواه أو مذهبه في زمان لا يجوز له أن يقلده ويقبله ، كما أن اجتهاد المفتي يتغير في كل زمان ولهذا قلنا : إنه لا يجوز لعامي أن يعمل بفتوى مضت لعام مثله . فإن قلت : أليس خلافه لا يموت بموته فدل على بقاء مذهبه ؟ قلنا : كما زعمتم ، لكن هذا الرجل لم يقلده قول هذا الرجل بأن الأمر فيه كيت وكيت ، فينبغي أن يكون عالما بمصادره وموارده . ويدل على فساد ما قاله أنه لو صح فتواه من غير معرفة حقيقة معناه لجاز للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي . ويلزمه مثله . ولجاز أن يقول : هو مقلد صاحب المقالة . ولكن اتفق القائلون به على الامتناع من هذا .

                                                      أما إذا أفتى بمذهب غيره فإن كان متبحرا فيه جاز ، وإلا فلا . قال : وكان ابن سريج يفتي أحيانا بمذهب مالك ، وكان متبحرا ، لأنه حكى أن أصحاب مالك كانوا يأتونه بمسائل يسألونه إخراجها على أصل مالك فيستخرجها على أصله فدل على أنه من كان بهذه الصفة يجوز ، وإلا فيمتنع . وهكذا كل من كان في مذهب نفسه لا يعرف إلا يسيرا ليس له أن يفتي . قال : والعلوم أنواع : أحدها - الفقه : وهو فن على حدة ، فمن بلغ فيه غاية ما وصفناه فله أن يفتي ، وإن لم يكن معه من أصول التوحيد إلا ما لا بد من اعتقاده ليصح إيمانه . وثانيها - علم أصول الفقه : وما زال الأستاذ أبو إسحاق يقول : هو [ ص: 362 ] علم بين علمين ، لا يقوى الفقه دونه ، ولا يقوى هو دون أصول التوحيد ، فكأنه فرع لأحدهما أصل للآخر ، فيخرج من هذا أن لا نقول : أصول الفقه من جنسه حتى لا بد من ضمه إليه ، لكن لا يقوم دليله دونه . وثالثها - تفسير القرآن : وكل ما تتعلق به الأحكام فليس ذلك من شأن المفسر ، بل من وظيفة الفقهاء والعلماء . وما يتعلق بالوعظ والقصص والوعد والوعيد فيقبل من المفسرين . والرابع - سنن الرسول : لا يقبل من المحدثين ما يتعلق بالأحكام ، لأنه يحتاج إلى جمع وترتيب ، وتخصيص وتعميم وهم لا يهتدون إليه . وقد حكي عن بعض أكابر المحدثين أنه سئل عن امرأة حائض ، هل يجوز لها أن تغسل زوجها ؟ فقال لهم : انصرفوا إلى سويعة أخرى ، فانصرفوا وعادوا ثانيا وثالثا حتى قال من كان يتردد إلى الفقهاء : أليس أيها الشيخ رويت لنا عن { عائشة أنها غسلت رأس الرسول صلى الله عليه وسلم وهي حائض } ؟ فقال : الله أكبر ، ثم أفتى به . انتهى .

                                                      وقد سبق آخر الكلام على شروط الاجتهاد كلام لابن دقيق العيد ينبغي استحضاره هنا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية