الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 203 ] فصل وأما المكره : فقد اختلف أهل الأصول في تكليفه على قولين وفصل الإمام فخر الدين وأتباعه ، فقالوا : إن انتهى الإكراه إلى حد الإلجاء ، لم يتعلق به وإن لم ينته إلى ذلك ، فهو مختار . وتكليفه جائز شرعا وعقلا . وقال الغزالي في البسيط : الإكراه يسقط أثر التصرف عندنا ، إلا في خمسة مواضع ، وذكر إسلام الحربي ، والقتل ، والإرضاع ، والزنا ، والطلاق ، إذا أكره على فعل المعلق عليه ، وزاد عليه غيره مواضع .

                وذكر النووي في تهذيبه : أنه يستثنى مائة مسألة لا أثر للإكراه فيها ، ولم يعددها ، وطالما أمعنت النظر في تتبعها ، حتى جمعت منها جملة كثيرة ، وقد رأيت الإكراه يساوي النسيان ، فإن المواضع المذكورة : إما من باب ترك المأمور ، فلا يسقط تداركه ولا يحصل الثواب المرتب عليه ، وإما من باب الإتلاف ، فلا يسقط الحكم المترتب عليه وتسقط العقوبة المتعلقة به ، إلا القتل على الأظهر .

                وها أنا أسرد ما يحضرني من ذلك :

                الأول : الإكراه عن الحدث ، وهو من باب الإتلاف فإنه الإتلاف للطهارة ، ولهذا لو أحدث ناسيا انتقض ، وفي مس الفرج وجه ضعيف : أنه لا ينقض ناسيا .

                وإذا نوعت هذه الصورة إلى أسباب الحدث الأربعة والجماع كثرت الصور .

                الثاني الإكراه على إفساد الماء بالاستعمال أو النجاسة أو مغير طاهر ، فإنه يفسد وهو أيضا من باب الإتلاف ، إذ لا فرق فيه بين العمد وغيره .

                الثالث : قال في الروضة : لو ألقي إنسان في نهر مكرها ، فنوى فيه رفع الحدث . صح وضوءه .

                وقال في شرح المهذب : قال الشيخ أبو علي : أطلق الأصحاب صحة وضوئه ; ولا بد فيه من تفصيل .

                فإن نوى رفع الحدث ، وهو يريد المقام فيه ، ولو لحظة . صح ; لأنه فعل يتصور قصده .

                وإن كره المقام ، وتحقق الاضطرار من كل وجه . لم يصح وضوءه . إذ لا تتحقق النية به .

                الرابع ، والخامس : الإكراه على غسل النجاسة ، ودبغ الجلد .

                السادس : الإكراه على التحول عن القبلة في الصلاة ، فتبطل .

                السابع : الإكراه على الكلام فيها : فتبطل في الأظهر ، لندوره .

                [ ص: 204 ] الثامن : الإكراه على فعل ينافي الصلاة ، فتبطل قطعا ، لندوره .

                التاسع : الإكراه على ترك القيام ، في الفرض .

                العاشر : الإكراه على تأخير الصلاة عن الوقت ، فتصير قضاء .

                الحادي عشر : الإكراه على تفرق المتصارفين قبل القبض فيبطل ، كما ذكره في الاستقصاء وغيره ، وكذلك يبطل مع النسيان ، كما نص عليه ، والجهل ، كما صرح به الماوردي .

                قال الزركشي : وقياسه في رأس مال السلم كذلك .

                الثاني عشر : لو ضربا في خيار المجلس حتى تفرقا ففي انقطاع الخيار قولا حنث المكره .

                الثالث عشر : الإكراه على إتلاف مال الغير ، فإنه يطالب بالضمان . وإن كان القرار على المكره في الأصح .

                الرابع عشر : الإكراه على إتلاف الصيد كذلك ، بخلاف ما لو حلق شعر محرم مكرها لا يكون للمحرم طريقا في الضمان على الأظهر ; لأنه لم يباشر .

                الخامس عشر : الإكراه على الأكل في الصوم ، فإنه يفطر في أحد القولين ، وصححه الرافعي في المحرر .

                السادس عشر : الإكراه على الجماع في الصوم فيه الطريقان الآتيان .

                السابع عشر : الإكراه على الجماع في الإحرام فيه طريقان في أصل الروضة ، بلا ترجيح .

                أحدهما : يفسد قطعا ، بناء على أن إكراه الرجل على الوطء لا يتصور .

                والثاني : فيه وجهان ، بناء على الناسي .

                الثامن عشر : الإكراه على الخروج من المعتكف فإنه يبطل في أحد القولين ، كالأكل في الصوم .

                التاسع عشر : الإكراه على إعطاء الوديعة لظالم ، فإنه يضمن في الأصح ، ثم يرجع على من أخذ منه .

                العشرون : الإكراه على الذبح ، أو الرمي من محرم ، ومجوسي ، لحلال ومسلم .

                الحادي والعشرون : إكراه الحربي ، على الإسلام .

                الثاني والعشرون : إكراه المرتد عليه .

                الثالث والعشرون : إكراه الذمي على وجه ، الأصح : خلافه .

                الرابع والعشرون : الإكراه على تخليل الخمر بلا عين .

                قال الإسنوي : يحتمل إلحاقه بالمختار ، ويحتمل القطع بالطهارة .

                [ ص: 205 ] الخامس والعشرون - إلى الثلاثين : الإكراه على الوطء ، فيحصل الإحصان ، ويستقر المهر ، وتحل للمطلق ثلاثا ، ويلحقه الولد ، وتصير أمته به مستولدة ، ويلزمه المهر في غير الزوجة .

                قلته تخريجا ، ثم رأيت الإسنوي ذكر بحثا أنه كإتلاف المال .

                الحادي والثلاثون : الإكراه على القتل ، فيجب القصاص على المكره في الأظهر .

                الثاني والثلاثون : الإكراه على الزنا لا يبيحه .

                الثالث والثلاثون : وعلى اللواط .

                الرابع والثلاثون : ويوجب الحد في قول .

                الخامس والثلاثون : الإكراه على شهادة الزور ، والحكم بالباطل في قتل ، أو قطع ، أو جلد .

                السادس والثلاثون : الإكراه على فعل المحلوف عليه ، في أحد القولين .

                السابع والثلاثون والثامن والتاسع والثلاثون : الإكراه على طلاق زوجة المكره أو بيع ماله ، أو عتق عبده ; لأنه أبلغ في الإذن .

                أما لو أكره أجنبي الوكيل على بيع ما وكل فيه ، ففي نظيره من الطلاق احتمالان للروياني حكاهما عنه في الروضة وأصلها ، أصحهما عنده : عدم الصحة ; لأنه المباشر .

                الأربعون : الإكراه على ولاية القضاء .

                الحادي والأربعون : لو أكره المحرم ، أو الصائم على الزنا . قال الإسنوي : لا يحضرني فيها نقل ، والمتجه : أنه يفسد عبادته ; لأنه لا يباح بالإكراه . قال : إلا أن عدم وجوب الحد ، قد يرجح عدم الإفساد .

                الثاني والأربعون : لو أكره على ترك الوضوء ، فتيمم .

                قال الروياني : لا قضاء . قال النووي : وفيه نظر .

                قال : لكن الراجح ما ذكره ; لأنه في معنى من غصب ماؤه .

                قال الإسنوي : والمتجه خلافه ; لأن الغصب كثير معهود ، بخلاف الإكراه على ترك الوضوء ، فعلى هذا يستثنى .

                الثالث والأربعون : الإكراه على السرقة : لا يسقط الحد في قول .

                الرابع والأربعون : لا يرث القاتل مكرها ، على الصحيح .

                الخامس والسادس والأربعون : الإكراه على الإرضاع : يحرم اتفاقا ، ويوجب المهر إذا انفسخ به النكاح على المرضعة ، على الأصح ، [ ص: 206 ] قال الإسنوي : وفيه نظر .

                السابع والأربعون : الإكراه على القذف : يوجب الحد في وجه .

                الثامن والأربعون : الإكراه بحق له ، وتحت ذلك صور : الإكراه على الأذان ، وعلى فعل الصلاة ، والوضوء وأركان الطهارة ، والصلاة ، والحج ، وأداء الزكاة ، والكفارة ، والدين ، وبيع ما له فيه ، والصوم ، والاستئجار للحج ، والإنفاق على رقيقه ، وبهيمته ، وقريبه ، وإقامة الحدود ، وإعتاق المنذور عتقه كما صرح به في البحر ، والمشتري بشرط العتق ، وطلاق المولى ، إذا لم يطأ ، واختيار من أسلم على أكثر من أربع ، وغسل الميت والجهاد ، فكل ذلك يصح مع الإكراه .

                فهذه أكثر من عشرين صورة في ضابط الإكراه بحق ، ومنه فيما ذكر الإسنوي : أن يأذن أجنبي للعبد في بيع ماله . فيمتنع ، فيكرهه السيد ، فلا شك في الصحة ; لأن للسيد غرضا صحيحا في ذلك : إما لتقليد إمامه ، أو أخذ أجرة .

                فهذه أكثر من سبعين صورة ، لا أثر للإكراه فيها ، وفي بعض صورها ما يقتضي التعدد باعتبار أنواعه ، فيبلغ بذلك المائة . وفيها نحو عشر صور على رأي ضعيف .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية