الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                القول في الملك وفيه مسائل . الأولى : في تفسيره قال ابن السبكي : هو حكم شرعي يقدر في عين أو منفعة . يقتضي تمكن من ينسب إليه ، من انتفاعه ، والعوض عنه من حيث هو كذلك ، فقولنا " حكم شرعي " ; لأنه يتبع الأسباب الشرعية .

                وقولنا " يقدر " ; لأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع ، والتعلق عدمي ، ليس وصفا حقيقيا بل يقدر في العين أو المنفعة ، عند تحقق الأسباب المفيدة للملك وقولنا ( في عين ، أو منفعة ) لأن المنافع تملك كالأعيان وقولنا " يقتضي انتفاعه " يخرج تصرف القضاة ، والأوصياء ، فإنه في أعيان أو منافع لا يقتضي انتفاعهم ولأنهم لا يتصرفون لانتفاع أنفسهم ، بل لانتفاع المالكين . وقولنا " والعوض عنه " يخرج الإباحات في الضيافات ، فإن الضيافة مأذون فيها ، ولا تملك . ويخرج أيضا : الاختصاص بالمساجد ، والربط ; ومقاعد الأسواق ; إذ لا ملك فيها مع التمكن من التصرف .

                وقولنا " من حيث هو كذلك " إشارة إلى أنه قد يتخلف لمانع لعرض ، كالمحجور عليهم ، لهم الملك وليس لهم التمكن من التصرف ، لأمر خارجي .

                [ ص: 317 ] الثانية قال في الكفاية : أسباب التملك ثمانية : المعاوضات . والميراث . والهبات . والوصايا . والوقف . والغنيمة . والإحياء . والصدقات . قال ابن السبكي : وبقيت أسباب أخر . منها ، تملك اللقطة بشرطه . ومنها : دية القتيل ، يملكها أولا ، ثم تنقل لورثته ، على الأصح . ومنها : الجنين . الأصح : أنه يملك الغرة . ومنها : خلط الغاصب المغصوب بماله ، أو بمال آخر لا يتميز ، فإنه يوجب ملكه إياه . ومنها : الصحيح : أن الضيف يملك ما يأكله .

                وهل يملك بالوضع بين يديه ، أو في الفم أو بالأخذ ، أو بالازدراد يتبين حصول الملك قبيله ؟ أوجه ومنها : الوضع بين يدي الزوج المخالع على الإعطاء ومنها : ما ذكره الجرجاني في المعاياة : أن السابي إذا وطئ المسبية كان متملكا لها ، وهو غريب عجيب . قلت : الأخير - إن صح - داخل في الغنيمة ، والذي قبله داخل في المعاوضات كسائر صور الخلع ، وكذا الصداق .

                وأما مسألة الضيف : فينبغي أن يعبر عنها بالإباحة : لتدخل هي وغيرها من الإباحات التي ليست بهبة ، ولا صدقة . ويعبر عن الدية والغرة بالجناية . ليشمل أيضا دية الأطراف والمنافع والجرح والحكومات .

                وقد قلت قديما

                : وفي الكفاية أسباب التملك خذ ثمانيا ، وعليها زاد من لحقه     الإرث ، والهبة ، الإحيا ، الغنيمه
                والمعاوضات ، الوصايا ، الوقف ، والصدقه     والوضع بين يدى زوج يخالعها
                والضيف ، والخلع للمغصوب والسرقه     كذا الجناية مع تمليك لقطته
                والوطء للسبي فيما قال من سبقه     قلت : الأخيرة إن صحت فداخله
                في الغنم . والخلع في التعويض كالصدقه

                الثالثة قال العلائي : لا يدخل في ملك الإنسان شيء بغير اختياره ، إلا في الإرث اتفاقا ، والوصية . إذا قيل : إنها تملك بالموت ، لا بالقبول . والعبد ، إذا ملك شيئا ، فإنه يصح قبوله بغير إذن السيد في أحد الوجهين فيدخل في ملك السيد بغير اختياره وكذلك غلة [ ص: 318 ] الموقوف عليه ، ونصف الصداق إذا طلق قبل الدخول ; والمعيب إذا رد على البائع به . وأرش الجناية ، وثمن النقص إذا تملكه الشفيع .

                والمبيع إذا تلف قبل القبض ، دخل الثمن في ملك المشتري ، وكذلك بما ملكه من الثمار ، والماء النابع في ملكه . وما يسقط فيه من الثلج ، أو ينبت فيه من الكلإ ; ونحوه . قلت : وما يقع فيه من صيد ، وصار مقدورا عليه ، بتوحيل وغيره ، على وجه . والإبراء من الدين ، إذا قلنا : إنه تمليك لا يحتاج إلى قبول ، في الأصح المنصوص ، ولا يرتد بالرد على الأصح في زوائد الروضة الرابعة المبيع ونحوه من المعاوضات يملك بتمام العقد ، فلو كان خيار مجلس ، أو شرط . فهل الملك في زمن الخيار للبائع ، استصحابا لما كان أو المشتري ، لتمام البيع بالإيجاب والقبول ، أو موقوف إن تم البيع ، بان أنه للمشتري من حين العقد ، وإلا فللبائع ؟ أقوال .

                وصحح الأول فيما إذا كان الخيار للبائع وحده .

                والثاني : إذا كان للمشتري وحده .

                والثالث : إذا كان لهما . وهذه المسألة من غرائب الفقه ، فإن لها ثلاثة أحوال ، وفي كل حال ثلاثة أقوال ، وصحح في كل حال من الثلاثة . ويقرب منها : الأقوال في ملك المرتد فالأظهر : أنه موقوف إن مات مرتدا بان زواله من الردة وإن أسلم بان أنه لم يزل ; لأن بطلان أعماله : يتوقف على موته مرتدا ، فكذلك ملكه .

                والثاني : أنه يزول بنفس الردة ; لزوال عصمة الإسلام ، وقياسا على النكاح . والثالث : لا ، كالزاني المحصن .

                قال الرافعي : والخلاف في زوال ملكه يجري أيضا في ابتداء التملك إذا اصطاد ، واحتطب ، فعلى الزوال لا يدخل في ملكه ، ولا يثبت الملك فيه لأهل الفيء ، بل يبقى على الإباحة ، كما لا يملك المحرم الصيد إذا اصطاده ، ويبقى على الإباحة ، وعلى مقابله يملكه ، كالحربي ، وعلى الوقف موقوف . ويقرب من ذلك أيضا : ملك الموصى له والموصى به ، وفيه أقوال . أحدها : يملك بالموت .

                والثاني : بالقبول ، والملك قبله للورثة ، وفي وجه : للميت .

                [ ص: 319 ] والثالث : - وهو الأظهر - موقوف . إن قبل ، بان أنه ملكه بالموت ، وإلا بان أنه كان للوارث . ويقرب من ذلك أيضا : الموهوب ، وفيه أقوال . أظهرها : يملك بالقبض ، وفي القديم بالعقد ، كالبيع .

                والثالث : موقوف . إن قبضه ، بان أنه ملكه بالعقد . ويقرب من ذلك أيضا : الأقوال في أن الطلاق الرجعي ، هل يقطع النكاح ؟ ففي قول : نعم ، وفي قول : لا . وفي قول موقوف ، إن راجع بان بقاء النكاح ، وإلا بان زواله من حين الطلاق .

                فوائد : الخلاف ينبني عليه في المبيع ، والموصى به : كسب العبد ، وما في معناه ، كاللبن ، والبيض ، والثمرة ، ومهر الجارية الموطوءة بشبهة ، وسائر الزوائد ، فهي مملوكة لمن له الملك . وموقوفة عند الوقف . وينبني عليه أيضا : النفقة . والفطرة ، وسائر المؤن ، كما صرح به الرافعي في الموصى به ، وابن الرفعة في المبيع ، خلافا لقول الجيلي : إنها على قول الوقف عليهما ، أو ينبني على الخلاف في المرتد صحة تصرفاته ، فعلى الزوال : لا يصح منه بيع ، ولا شراء ، ولا إعتاق ، ولا وصية ، ولا غيرها .

                وعلى مقابله : هو ممنوع من التصرف ، محجور عليه كحجر المفلس ، فيصح منه ما يصح من المفلس ، دون غيره . وعلى الوقف : يوقف كل تصرف يحتمل الوقف ، كالعتق والتدبير والوصية . وما لا يقبله : كالبيع والهبة والكتابة ونحوها باطلة . ولا يصح نكاحه ولا إنكاحه لسقوط ولايته .

                وفي وجه : أنه يجوز أن يزوج أمته ، بناء على بقاء الملك . وعلى الأقوال كلها : يقضى منه دين لزمه قبلها ، وقال الإصطخري : لا ; بناء على الزوال وينفق عليه منه .

                وفي وجه : لا ; بناء على الزوال وينفق على زوجات وقف نكاحهن ، وقريب ويقضى منه غرامة ما أتلفه في الردة وفي وجه : لا بناء على الزوال .

                [ ص: 320 ] تنبيه : دخل فيما ذكرناه أولا : الإجارة ، فتملك الأجرة أيضا بنفس العقد ، سواء كانت معينة أو في الذمة . كما صرح به القاضي حسين وغيره . ويملك المستأجر المنفعة في الحال أيضا ، وتحدث على ملكه . وفي البحر : وجه غريب أنها تحدث على ملك المؤجر . وبنى على ذلك : إجارة العين من مؤجرها بعد القبض ، فإن قلنا : تحدث على ملك المؤجر ، لم يجز لئلا يؤدي إلى أنه يملك منفعة ملكه كما لا يتزوج بأمته ، وإن قلنا : يحدث على ملك المستأجر ، جاز .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية