الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                القاعدة السادسة العادة محكمة .

                قال القاضي : أصلها قوله صلى الله عليه وسلم { ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن } قال العلائي : ولم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال ، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود موقوفا عليه أخرجه أحمد في مسنده .

                [ ص: 90 ] اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه ، في مسائل لا تعد كثرة .

                فمن ذلك : سن الحيض ، والبلوغ ، والإنزال ، وأقل الحيض ، والنفاس ، والطهر وغالبها وأكثرها ، وضابط القلة والكثرة في الضبة ، والأفعال المنافية للصلاة ، والنجاسات المعفو عن قليلها ، وطول الزمان وقصره في موالاة الوضوء ، في وجه والبناء على الصلاة في الجمع ، والخطبة ، والجمعة ، وبين الإيجاب والقبول ، والسلام ورده ، والتأخير المانع من الرد بالعيب ، وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول ، والأنهار المملوكة ، إقامة له مقام الإذن اللفظي ، وتناول الثمار الساقطة ، وفي إحراز المال المسروق ، وفي المعاطاة على ما اختاره النووي ، وفي عمل الصناع على ما استحسنه الرافعي وفي وجوب السرج والإكاف في استئجار دابة للركوب ، والحبر ، والخيط ، والكحل على من جرت العادة بكونها عليه ، وفي الاستيلاء في الغصب ، وفي رد ظرف الهدية وعدمه ، وفي وزن أو كيل ما جهل حاله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الأصح أنه يراعى فيه عادة بلد البيع ، وفي إرسال المواشي نهارا وحفظها ليلا ، ولو اطردت عادة بلد بعكس ذلك ، اعتبرت العادة في الأصح .

                وفي صوم يوم الشك ، لمن له عادة ، وفي قبول القاضي الهدية ممن له عادة ، وفي القبض ، والإقباض ، ودخول الحمام ، ودور القضاة ، والولاة ، والأكل من الطعام المقدم ضيافة بلا لفظ ، وفي المسابقة ، والمناضلة إذا كانت للرماة عادة في مسافة تنزل المطلق عليها ، وفيما إذا اطردت عادة المتبارزين بالأمان ، ولم يجر بينهما شرط فالأصح أنها تنزل منزلة الشرط .

                وفي ألفاظ الواقف والموصي ، وفي الأيمان وسيأتي ذكر أمثلة من ذلك ويتعلق بهذه القاعدة مباحث :

                الأول : فيما تثبت به العادة ، وفي ذلك فروع :

                أحدها : الحيض . قال الإمام والغزالي وغيرهما : العادة في باب الحيض ، أربعة أقسام أحدها : ما تثبت فيه بمرة بلا خلاف وهو الاستحاضة لأنها علة مزمنة فإذا وقعت فالظاهر دوامها ، وسواء في ذلك المبتدئة ، والمعتادة ، والمتحيرة .

                الثاني : ما لا يثبت فيه بالمرة ، ولا بالمرات المتكررة ، بلا خلاف ، وهي المستحاضة إذا انقطع دمها فرأت يوما دما ويوما نقاء واستمر لها أدوار هكذا ثم أطبق الدم على لون واحد ، فإنه لا يلتقط لها قدر أيام الدم بلا خلاف ، وإن قلنا باللقط بل نحيضها بما كنا نجعله حيضا بالتلفيق ، وكذا لو ولدت مرارا ولم تر نفاسا ثم ولدت وأطبق الدم [ ص: 91 ] وجاوز ستين يوما فإن عدم النفاس لا يصير عادة لها ، بلا خلاف بل هذه مبتدأة في النفاس .

                الثالث : ما لا يثبت بمرة ولا بمرات ، على الأصح ، وهو التوقف عن الصلاة ، ونحوها بسبب تقطع الدم إذا كانت ترى يوما دماء ويوما نقاء .

                الرابع : ما يثبت بالثلاث وفي ثبوته بالمرة والمرتين خلاف ، والأصح الثبوت وهو قدر الحيض والطهر .

                الثاني : الجارحة في الصيد لا بد من تكرار يغلب على الظن أنه عادة ، ولا يكفي مرة واحدة قطعا ، وفي المرتين والثلاث خلاف .

                الثالث : القائف لا خلاف في اشتراط التكرار فيه ، وهل يكتفى بمرتين ، أو لا بد من ثلاث ؟ وجهان رجح الشيخ أبو حامد وأصحابه اعتبار الثلاث .

                وقال إمام الحرمين : لا بد من تكرار يغلب على الظن به أنه عارف .

                الرابع : اختبار الصبي قبل البلوغ بالمماكسة ، قالوا : يختبر مرتين ، فصاعدا ، حتى يغلب على الظن رشده .

                الخامس : عيوب البيع ، فالزنا يثبت الرد بمرة واحدة لأن تهمة الزنا لا تزول ، وإن تاب ، ولذلك لا يحد قاذفه والإباق كذلك .

                قال القاضي حسين وغيره : يكفي المرة الواحدة منه في يد البائع وإن لم يأبق في يد المشتري ، قال الرافعي : والسرقة قريب من هذين . وأما البول في الفراش فالأظهر اعتبار الاعتياد فيه .

                السادس : العادة في صوم الشك ، كما إذا كان له عادة بصوم يوم الاثنين أو الخميس فصادف يوم الشك أحدهما ، بماذا تثبت العادة ؟

                قال الشيخ تاج الدين السبكي : لم أر فيه نقلا ، وقال الإمام في الخادم : لم يتعرضوا لضابط العادة فيحتمل ثبوتها بمرة ، أو بقدر يعد في العرف متكررا .

                السابع : العادة في الإهداء للقاضي قبل الولاية . قال ابن السبكي : لم أر فيه نقلا بماذا تثبت به ؟

                قال : وكلام الأصحاب يلوح بثبوتها بمرة واحدة . ولذلك عبر الرافعي بقوله : تعهد منه الهدية ، والعهد صادق بمرة .

                الثامن : العادة في تجديد الطهر لمن يتيقن طهرا وحدثا وكان قبلهما متطهرا ، فإنه يأخذ بالضد ، إن اعتاد التجديد ، وبالمثل إن لم يعتده .

                لم يبينوا بم تثبت به العادة لكن ذكر السبكي في شرح المنهاج : أن من ثبتت له عادة محققة ، كمن اعتاده [ ص: 92 ] فيأخذ بالضد . وظاهر هذا الاكتفاء فيه بالمرة ونحوها .

                التاسع : إنما يستدل بحيض الخنثى وإمنائه على الأنوثة والذكورة بشرط التكرار ليتأكد الظن ، ويندفع توهم كونه اتفاقيا . قال الإسنوي : وجزم في التهذيب ، بأنه لا يكفي مرتان : بل لا بد أن يصير عادة .

                قال : ونظير التحاقه بما قيل في كلب الصيد .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية