الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                المبحث الرابع - بع العرف الذي تحمل عليه الألفاظ ، إنما هو المقارن السابق دون المتأخر . قال الرافعي : العادة الغالبة إنما تؤثر في المعاملات ، لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج في النفقة غالبا ولا يؤثر في التعليق والإقرار ، بل يبقى اللفظ على عمومه فيها .

                أما في التعليق فلقلة وقوعه . وأما في الإقرار : فلأنه إخبار عن وجوب سابق ، وربما يقدم الوجوب على العرف الغالب ، فلو أقر بدراهم وفسرها بغير سكة البلد ، قبل .

                قال الإمام : وكذا الدعوى بالدراهم لا تنزل على العادة كما أن الإقرار بها لا ينزل على العادة بل لا بد من الوصف ، وكذا قال الشيخ أبو حامد والماوردي والروياني وغيرهم ، وفرقوا بما سبق أن الدعوى والإقرار إخبار عما تقدم ، فلا يفيده العرف المتأخر بخلاف العقد فإنه أمر باشره في الحال ، فقيده العرف .

                ولو أقر بألف مطلقة في بلد دراهمه ناقصة ، لزمه الناقصة في الأصح وقيل يلزمه وافية لعرف الشرع ، ولا خلاف أنه لو اشترى بألف في هذه البلد لزمه الناقصة لأن البيع معاملة والغالب : أن المعاملة تقع بما يروج فيها بخلاف الإقرار .

                [ ص: 97 ] ومن الفروع المخرجة على هذا الأصل ما سبق في مسألة البطالة ، فإذا استمر عرف بها في أشهر مخصوصة حمل عليه ما وقف بعد ذلك لا ما وقف قبل هذه العادة .

                ومنها : كسوة الكعبة . نقل الرافعي عن ابن عبدان أنه منع من بيعها وشرائها ، وقال ابن الصلاح : الأمر فيها إلى رأي الإمام ; واستحسنه النووي وقال العلائي وغيره : الذي يقتضيه القياس أن العادة استمرت بأنها تبدل كل سنة وتؤخذ تلك العتيقة فيتصرف فيها بيعا وغيره ، ويقرهم الأئمة على ذلك في كل عصر فلا تردد في جوازه .

                وأما بعد ما اتفق في هذا القرن : من وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها في كسوة الكعبة ، فلا يتردد في جواز ذلك لأن الوقف بعد استقرار هذه العادة والعلم بها فينزل لفظ الواقف عليها .

                ومنها : الأوقاف القديمة المشروط نظرها للحاكم ، وكان الحاكم إذ ذاك شافعيا ثم إن الملك الظاهر أحدث القضاة الأربعة ، سنة أربع وستين وستمائة ، فما كان موقوفا قبل ذلك اختص نظره بالشافعي فلا يشاركه غيره ، وما أطلق من النظر بعد ذلك فمحمول عليه أيضا لأن أهل العرف غالبا لا يفهمون من إطلاق الحاكم غير الشافعي .

                قال السبكي في فتاويه : ذكر الشيخ برهان الدين بن الفركاح قال : وقفت على فتيا صورتها : أنه جعل النظر لحاكم دمشق وكان حينئذ في دمشق حاكم واحد على مذهب معين ، ثم ولى السلطان في دمشق أربع قضاة ومات القاضي الذي كان موجودا حين الوقف . وبعد ذلك ولي القضاة الأربعة وأحدهم على مذهب الذي كان حين الوقف أولا . وقد كتب عليها جماعة ، منهم الشيخ زين الدين الفارقي والصفي الهندي وآخرون : أنه يختص بذلك الذي هو على مذهب الموجود حين الوقف .

                قال السبكي : ومستند ذلك أنه لما حصلت التولية في زمن الملك الظاهر حصلت لثلاثة مع القاضي الذي كان حين الوقف ، وذلك القاضي لم ينعزل عن نظره ، ولا جعل الثلاثة مزاحمين له في كل ما يستحق ، بل أفرد هو بالأوقاف ، والأيتام والنواب وبيت المال وجعل الثلاثة مشاركين في الباقي ، كأنهم نواب له في بعض الأشياء ، وفصل الحكومات على مذهبهم ، لا في الأنظار ، ثم لما مات ذلك القاضي تولى واحد مكانه على عادته فينتقل إليه كل ما كان بيد الذي قبله ، ولا يشاركه فيه واحد من الثلاثة .

                قال : وأيضا فإن قول الواقف : النظر للحاكم إن حمل على العموم اقتضى دخول النواب والعرف بخلافه ، فإنما يحمل على المعهود ، والمعهود هو ذلك الشخص والحمل عليه بعيد لأنه لا يدوم فوجب أن يحمل عليه وعلى من كان مكانه ، فكأنه هو بالنوع ، لا بالشخص والذي ولي معه ليس مكانه ولا هو من نوعه ، وإنما أريد بولايته إقامة من يحكم بذلك المذهب المتجدد ، فيما لا يمكن الحاكم المستمر الحكم به ، لكونه خلاف مذهبه ، فلا مدخل للأنظار في ذلك .

                [ ص: 98 ] قال : فإن قلت : لو قال : لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي فالأصح أنه لا يتعين ذلك القاضي ، بل قاضي تلك البلد من كان حالة اليمين أو بعدها .

                قلت : نعم . وكذا أقول : لا يتعين قاضي حالة الوقف ، بل هو أو من تولى مكانه والثلاثة لم يولوا مكانه .

                قال : فإن قلت : لو كان حال اليمين في البلد قاضيان ، بر بالرفع إلى من شاء منهما فقياسه إذا شرط النظر للقاضي ، وهناك قاضيان أن يشتركا فيه .

                قلت : المقصود في اليمين : الرفع إلى من يغير المنكر ، وكلاهما يغير المنكر فكل منهما يحصل به الغرض ، والمقصود باشتراط النظر فعل مصلحة الوقف والاشتراك يؤدي إلى المفسدة باختلاف الآراء ، فوجب الصرف إلى واحد وهو الكبير .

                قال : وقد وقع في بعض الأوقاف وقف بلد على الحرم وشرط النظر فيه للقاضي وأطلق ففيه احتمالات : -

                أحدها : أنه قاضي الحرم .

                والثاني : أنه قاضي البلد الموقوفة قال : وهذان الاحتمالان يشبهان الوجهين في أنه كان اليتيم في بلد وماله في بلد آخر . والأصح عند الرافعي : أن النظر لقاضي بلد اليتيم ، وعند الغزالي أنه لقاضي بلد المال فعلى ما قال الرافعي : يكون لقاضي الحرم .

                والثاني أن يكون لقاضي بلد السلطان ، كما في اليمين .

                فعلى هذا : هل يكون قاضي بلد السلطان الأصلية التي هي مصر ، أو قاضي البلد التي كان السلطان بها حين الوقف .

                قال : والذي يترجح أن يكون النظر لقاضي البلد الموقوفة ; لأنه أعرف بمصالحها ، فالظاهر أن الواقف قصده وبه تحصل المصلحة ، لا سيما إذا كان السلطان حين الوقف فيها .

                قلت : الظاهر احتمال رابع ، وهو أن يكون لقاضي البلد التي جرى الوقف بها ، والظاهر أنه مراد السبكي ببلد السلطان بقرينة تشبيهه بمسألة اليتيم ، والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية