الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 107 ] ( الفرق الثامن والسبعون الفرق بين قاعدة من يجوز له أن يفتي وبين قاعدة من لا يجوز له أن يفتي ) اعلم أن طالب العلم له أحوال الحالة الأولى أن يشتغل بمختصر من مختصرات مذهبه فيه مطلقات مقيدة في غيره وعمومات مخصوصة في غيره ومتى كان الكتاب المعين حفظه وفهمه كذلك أو جوز عليه أن يكون كذلك حرم عليه أن يفتي بما فيه وإن أجاده حفظا وفهما إلا في مسألة يقطع فيها أنها مستوعبة التقييد وأنها لا تحتاج إلى معنى آخر من كتاب آخر فيجوز له أن ينقلها لمن يحتاجها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان وتكون هي عين الواقعة المسئول عنها لا أنها تشبهها ولا تخرج عليها بل هي هي حرفا بحرف لأنه قد يكون هنالك فروق تمنع من الإلحاق أو تخصيص أو تقييد يمنع من الفتيا بالمحفوظ فيجب الوقف .

الحالة الثانية أن يتسع تحصيله في المذهب بحيث يطلع من تفاصيل الشروحات والمطولات على تقييد المطلقات وتخصيص العمومات ولكنه مع ذلك لم يضبط مدارك إمامه ومسنداته في فروعه ضبطا متقنا بل سمعها من حيث الجملة من أفواه الطلبة والمشايخ فهذا يجوز له أن يفتي بجميع ما ينقله ويحفظه في مذهبه اتباعا لمشهور ذلك المذهب بشروط الفتيا ولكنه إذا وقعت له واقعة ليست في حفظه لا يخرجها على محفوظاته ولا يقول هذه تشبه المسألة الفلانية لأن ذلك إنما يصح ممن أحاط بمدارك إمامه وأدلته وأقيسته وعلله التي اعتمد عليها مفصلة ومعرفة رتب تلك العلل ونسبتها إلى المصالح الشرعية وهل هي من باب المصالح الضرورية أو الحاجية أو التتميمية وهل هي من باب المناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم أو جنسه في جنس الحكم وهل هي من باب المصلحة المرسلة التي هي أدنى رتب المصالح أو من قبيل ما شهدت لها أصول الشرع بالاعتبار أو هي من باب قياس الشبه أو المناسب أو قياس الدلالة أو قياس الإحالة أو المناسب القريب إلى غير ذلك من تفاصيل الأقيسة ورتب العلل في نظر الشرع عند المجتهدين وسبب ذلك أن الناظر في مذهبه والمخرج على أصول إمامه نسبته إلى مذهبه وإمامه كنسبة إمامه إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه والتخريج على مقاصده فكما أن إمامه لا يجوز له أن يقيس مع قيام الفارق لأن الفارق مبطل للقياس والقياس الباطل لا يجوز الاعتماد عليه فكذلك هو أيضا لا يجوز له أن يخرج على مقاصد إمامه فرعا على فرع نص عليه إمامه مع قيام الفارق بينهما لكن الفروق

[ ص: 108 ] إنما تنشأ عن رتب العلل وتفاصيل أحوال الأقيسة فإذا كان إمامه أفتى في فرع بني على علة اعتبر فرعها في نوع الحكم لا يجوز له هو أن يخرج على أصل إمامه فرعا مثل ذلك الفرع لكن علته من قبيل ما شهد جنسه لجنس الحكم فإن النوع على النوع مقدم على الجنس في النوع ولا يلزم من اعتبار الأقوى اعتبار الأضعف وكذلك إذا كان إمامه قد اعتبر مصلحة سالمة عن المعارض لقاعدة أخرى فوقع له هو فرع فيه عين تلك المصلحة لكنها معارضة بقاعدة أخرى أو بقواعد فيحرم عليه التخريج حينئذ لقيام الفارق أو تكون مصلحة إمامه التي اعتمد عليها من باب الضروريات فيفتي هو بمثلها ولكنها من باب الحاجات أو التتمات وهاتان ضعيفتان مرجوحتان بالنسبة إلى الأولى ولعل إمامه راعى خصوص تلك القوية والخصوص فائت هنا ومتى حصل التردد في ذلك والشك .

وجب التوقف كما أن إمامه لو وجد صاحب الشرع قد نص على حكم ومصلحة من باب الضروريات حرم عليه أن يقيس عليه ما هو من باب الحاجات أو التتمات لأجل قيام الفارق فكذلك هذا المقلد له لأن نسبته إليه في التخريج كنسبة إمامه لصاحب الشرع والضابط له ولإمامه في القياس والتخريج أنهما متى جوزا فارقا يجوز أن يكون معتبرا حرم القياس ولا يجوز القياس إلا بعد الفحص المنتهي إلى غاية أنه لا فارق هناك ولا معارض ولا مانع يمنع من القياس وهذا قدر مشترك بين المجتهدين والمقلدين للأئمة المجتهدين فمهما جوز المقلد في معنى ظفر به في فحصه واجتهاده أن يكون إمامه قصده أو يراعيه حرم عليه التخريج فلا يجوز التخريج حينئذ إلا لمن هو عالم بتفاصيل أحوال الأقيسة والعلل ورتب المصالح وشروط القواعد وما يصلح أن يكون معارضا وما لا يصلح وهذا لا يعرفه إلا من يعرف أصول الفقه معرفة حسنة فإذا كان موصوفا بهذه الصفة وحصل له هذا المقام تعين عليه مقام آخر وهو النظر وبذل الجهد في تصفح تلك القواعد الشرعية وتلك المصالح وأنواع الأقيسة وتفاصيلها فإذا بذل جهده فيما يعرفه ووجد ما يجوز أن يعتبره إمامه فارقا أو مانعا أو شرطا وهو ليس في الحادثة التي يروم تخريجها حرم عليه التخريج وإن لم يجد شيئا بعد بذل الجهد وتمام المعرفة جاز له التخريج حينئذ .

وكذلك القول في إمامه مع صاحب الشرع لا بد أن يكون إمامه موصوفا بصفات الاجتهاد التي بعضها ما تقدم اشتراطه في حق المقلد المخرج ثم بعد اتصافه بصفات الاجتهاد ينتقل إلى مقام بذل الجهد فيما علمه من القواعد وتفاصيل المدارك فإذا بذل جهده ووجد حينئذ ما يصلح أن يكون فارقا أو مانعا أو شرطا قائما في الفرع الذي يروم قياسه على كلام صاحب الشرع حرم عليه [ ص: 109 ] القياس ووجب التوقف .

وإن غلب على ظنه عدم جميع ذلك وأن الفرع مساو للصورة التي نص عليها صاحب الشرع وجب عليه الإلحاق حينئذ وكذلك مقلده وحينئذ بهذا التقرير يتعين على من لا يشتغل بأصول الفقه أن لا يخرج فرعا أو نازلة على أصول مذهبه ومنقولاته وإن كثرت منقولاته جدا فلا تفيد كثرة المنقولات مع الجهل بما تقدم كما أن إمامه لو كثرت محفوظاته لنصوص الشريعة من الكتاب والسنة وأقضية الصحابة رضي الله عنهم ولم يكن عالما بأصول الفقه حرم عليه القياس والتخريج على المنصوصات من قبل صاحب الشرع بل حرم عليه الاستنباط من نصوص الشارع لأن الاستنباط فرع معرفة أصول الفقه فهذا الباب المجتهدون والمقلدون فيه سواء في امتناع التخريج بل يفتي كل مقلد وصل إلى هذه الحالة التي هي ضبط مطلقات إمامه بالتقييد وضبط عمومات مذهبه بمنقولات مذهبه خاصة من غير تخريج إذا فاته شرط التخريج كما أن إمامه لو فاته شرط أصول الفقه وحفظ النصوص واستوعبها يصير محدثا ناقلا فقط لا إماما مجتهدا كذلك هذا المقلد فتأمل ذلك فالناس مهملون له إهمالا شديدا ويقتحمون على الفتيا في دين الله تعالى والتخريج على قواعد الأئمة من غير شروط التخريج والإحاطة بها فصار يفتي من لم يحط بالتقييدات ولا بالتخصيصات من منقولات إمامه وذلك لعب في دين الله تعالى وفسوق ممن يتعمده أو ما علموا أن المفتي مخبر عن الله تعالى وأن من كذب على الله تعالى أو أخبر عنه مع ضبط ذلك الخبر فهو عند الله تعالى بمنزلة الكاذب على الله فليتق الله تعالى امرؤ في نفسه ولا يقدم على قول أو فعل بغير شرطه .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثامن والسبعون بين قاعدة من يجوز له أن يفتي وبين قاعدة من لا يجوز له أن يفتي ) اعلم أن المفتي في اصطلاح الأصوليين كما في تحرير الكمال هو المجتهد المطلق وهو الفقيه قال الصيرفي موضوع لمن قام للناس بأمر دينهم وعلم جمل عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه وكذلك في السنن والاستنباط ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها وقال ابن السمعاني هو من استكمل فيه ثلاثة شرائط الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل وللمتساهل حالتان إحداهما أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر

[ ص: 117 ] وهذا مقصر في حق الاجتهاد ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز والثانية أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة فهذا متجوز في دينه وهو آثم من الأول ا هـ .

لكن قال من وصفه الشيخ تاج الدين السبكي في توشيح الترشيح بالمجتهد المطلق الإمام تقي الدين بن دقيق العيد توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم واسترسال الخلق في أهوائهم فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك فعل علي رضي الله عنه حين أرسل المقداد في قصة المذي وفي مسألتنا أظهر فإن مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ممكنة ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد اليوم أي لطول المدة بيننا وبين زمن الأئمة المجتهدين مع ضعف العلم وغلبة الجهل سيما وقد ادعى الإمام محمد بن جرير الطبري وكان إماما جليلا متضلعا من العلوم المنطوق والمفهوم ومن أهل القرن الرابع بلوغه رتبة الاجتهاد المطلق فلم يسلموا له فما بالك بغيره ممن هو في هذه الأعصار البعيدة كما في رسالة كيفية الرد على أهل الزيغ لشيخ شيوخنا السيد أحمد دخلان وفي الحطاب عن ابن عرفة أن استعاذة الفخر في المحصول وتبعه السراج في تحصيله والتاج في حاصله في قولهم في كتاب الاجتهاد ما نصه ولو بقي من المجتهدين والعياذ بالله واحد كان قوله حجة ا هـ .

وإن بنى على بقاء الاجتهاد في عصرهم والفخر توفي سنة ست وستمائة لكنهم قالوا في كتاب الاستفتاء انعقد الإجماع في زماننا على تقليد الميت إذ لا مجتهد فيه ا هـ وإذا انعقد الإجماع على أنه لا مجتهد في القرن السابع فكيف لا ينعقد بالأولى في القرن الرابع عشر وقد قال العطار وفي عصرنا وهو القرن الثالث عشر ضعف الطالب والمطلوب بتراكم عظائم الخطوب نسأل السلامة ا هـ .

ثم قال السبكي لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق مراتب إحداها أن يصل إلى رتبة الاجتهاد المقيد فيستقل بتقرير مذهب إمام معين ونصوصه أصولا يستنبط منها نحو ما يفعله بنصوص الشارع وهذه صفة أصحاب الوجوه والذي أظنه قيام الإجماع على جواز فتيا هؤلاء وأنت ترى علماء المذهب ممن وصل إلى هذه الرتبة هل منعهم أحد الفتوى أو منعوا هم أنفسهم عنها ؛ الثانية

[ ص: 118 ] من لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ للمذهب قائم بتقريره غير أنه لم يرتض في التخريج والاستنباط كارتياض أولئك وقد كانوا يفتون ويخرجون كأولئك ا هـ وفي جواز إفتاء من في هذه الرتبة وهو الأصح وثالثها عند عدم المجتهد كما حكاه شافعي متأخر عنه الثالثة من لم يبلغ هذا المقدار ولكنه حافظ لواضحات المسائل غير أن عنده ضعفا في تقرير أدلتها فعلى هذا الإمساك فيما يغمض فهمه فيما لا نقل عنده فيه وليس هذا الذي حكينا فيه الخلاف فإنه لا اطلاع له على المأخذ وكل هؤلاء غير عوام ا هـ وهذا يشير إلى أن له الإفتاء فيما لا يغمض فهمه قال متأخر شافعي وينبغي أن يكون هذا راجعا لمحل الضرورة لا سيما في هذه الأزمان ا هـ .

وثاني الأقوال فيه المنع مطلقا وثالثها الجواز عند عدم المجتهد وعدم الجواز عند وجود المجتهد وقيل الصواب إن كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا ولا يحل لهذا أن ينصب نفسه للفتوى مع وجود هذا العالم وإن لم يكن في بلده أو ناحيته غيره فلا ريب أن رجوعه إليه أولى من أن يقدم على العمل بلا علم أو يبقى مرتبكا في حيرته مترددا في عماه وجهالته بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها وهو حسن إن شاء الله تعالى .

( أما العامي ) إذا عرف حكم حادثة بدليلها فهل له أن يفتي به ويسوغ لغيره تقليده ففيه أوجه للشافعية وغيرهم أحدها لا مطلقا لعدم أهليته للاستدلال وعدم علمه بشروطه وما يعارضه ولعله يظن ما ليس بدليل دليلا وهذا في بحر الزركشي الأصح ثانيها نعم مطلقا لأنه قد حصل له العلم به كما للعالم وتميز العالم عنه لقوة يتمكن بها من تقرير الدليل ودفع المعارض له أمر زائد على معرفة الحق بدليله ثالثها إن كان الدليل كتابا أو سنة جاز وإلا لم يجز لأنهما خطاب لجميع المكلفين فيجب على المكلف العمل بما وصل إليه منهما وإرشاد غيره إليه رابعها إن كان نقليا جاز وإلا فلا قال السبكي ( وأما العامي ) الذي عرف من المجتهد حكم مسألة ولم يدر دليلها كمن حفظ مختصرا من مختصرات الفقه فليس له أن يفتي ورجوع العامي إليه إذا لم يكن سواه أولى من الارتباك في الحيرة .

وكل هذا في من لم ينقل عن غيره أما الناقل فلا يمنع فإذا ذكر العامي أن فلانا المفتي أفتاني بكذا لم يمنع من نقل هذا القدر . ا هـ .

لكن ليس للمذكور له العمل به على ما في الزركشي لا يجوز للعامي أن يعمل بفتوى مفت لعامي مثله أفاد جميع هذا أمير الحاج في موضعين من شرحه على التحرير الأصولي [ ص: 119 ] مع زيادة وتوضيح المقام على ما يرام أن الإفتاء كان في القرون الثلاثة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله { خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } من خواص المجتهد المطلق ضرورة أن الاجتهاد استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم والفقيه هو المجتهد المطلق وتحقق ماهية المجتهد المطلق لا يوجد إلا بشروط منها ما هي صفة فيه وهي ما ذكره في جمع الجوامع بقوله مع توضيح من شرح المحلي وغيره ( هو البالغ العاقل ) أي ذو الملكة التي يدرك بها المعلوم أي ما من شأنه أن يعلم ( فقيه النفس ) أي شديد الفهم بالطبع لمقاصد الكلام وإن أنكر القياس ( العارف بالدليل العقلي ) أي البراءة الأصلية والتكليف به في الحجية بأن يعلم أنا مكلفون بالتمسك باستصحاب العدم الأصلي إلى أن يصرف عنه دليل شرعي من نص أو إجماع أو قياس ( ذو الدرجة الوسطى ) أو الكاملة لغة وعربية من نحو وتصريف وأصولا بأن يكون عارفا بالقواعد الأصولية وبلاغة من معان وبيان وما تتعلق الأحكام به بدلالته عليها من كتاب وسنة وإن لم يحفظ المتون ليتأتى له الاستنباط المقصود بالاجتهاد أما علمه بآيات الأحكام وأحاديثها أي مواقعها .

وإن لم يحفظها فلأنها المستنبط منه وأما علمه بأصول الفقه فلأنه يعرف به كيفية الاستنباط وغيرها لما يحتاج إليه وأما علمه بالباقي فلأنه لا يفهم المراد من المستنبط منه إلا به لأنه عربي بليغ ومنها ما هو شرط في الاجتهاد لا صفة في المجتهد وهي ما نقله ابن السبكي عن والده في جمع الجوامع من كونه خبيرا بمواقع الإجماع كي لا يخرقه وبالناسخ والمنسوخ ليقدم الأول على الثاني وبأسباب النزول لترشده إلى فهم المراد وبشرط المتواتر والآحاد المحقق لهما ليقدم الأول على الثاني وبالصحيح والضعيف من الحديث أي ماصدقات الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة لا مفاهيمها فإن ذلك اصطلاح حادث ليقدم ماصدق الصحيحة والحسنة على ماصدق الضعيفة وبحال الرواة في القبول والرد ليقدم المقبول على المردود ويشترط لاعتماد قوله لا لاجتهاده العدالة واختلفوا في كون البحث عن المعارض كالمخصص والمقيد والناسخ .

وعن اللفظ هل معه قرينة تصرفه عن ظاهره ليسلم ما يستنبطه عن تطرق الخدش إليه لو لم يبحث واجبا أو أولى فيجوز له أن يتمسك بالعام قبل البحث عن المخصص على الأصح ا هـ وهذه الشروط قد اتفقوا على تسليم تحققها في علماء تلك القرون ولم يعارضوا من ادعى الاجتهاد المطلق منهم .

وأما علماء القرن الرابع وعلماء من بعده من القرون إلى هذا [ ص: 120 ] القرن فوقع الاختلاف في تسليم تحقق تلك الشروط في بعضهم وعدم تسليم ذلك فادعى جماعة من علماء القرن الرابع فما بعده تحقق تلك الشروط فيه وأنه بلغ درجة الاجتهاد المطلق بناء على أمور أحدها قول ابن السبكي في جمع الجوامع مع توضيح من المحلي ويكفي الخبرة بحال الرواة في زماننا الرجوع إلى أئمة ذلك من المحدثين كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم فيعتمد عليهم في التعديل والتجريح لتعذرهما في زماننا إلا بواسطة وهم أولى من غيرهم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

وثانيها قول العلامة المحقق الشيخ جلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي رحمه الله تعالى في رسالته الرد على من أخلد إلى الأرض أن الاجتهاد المطلق قسمان مستقل وغير مستقل والمستقل هو الذي استقل بقواعده لنفسه يبني عليها الفقه خارجا عن قواعد المذاهب المقررة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم من مجتهدي القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية قال السيوطي .

وهذا القسم قد فقد من دهر بل لو أراده الإنسان اليوم لامتنع عليه ولم يجز له نص عليه غير واحد قالابن برهان في كتابه في الأصول أصول المذاهب وقواعد الأدلة منقولة عن السلف فلا يجوز أن يحدث في الأعصار خلافها ا هـ كلام ابن برهان وهو من أصحابنا الشافعية .

وقال ابن المنير وهو من أئمة المالكية اتباع الأئمة الآن الذين حازوا شروط الاجتهاد مجتهدون ملتزمون أن لا يحدثوا مذهبا أما كونهم مجتهدين فلأن الأوصاف قائمة بهم .

وأما كونهم ملتزمين أن لا يحدثوا مذهبا فلأن إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين متعذر الوجود لاستيعاب المتقدمين سائر الأساليب ا هـ كلامه وذكر نحوه ابن الحاج في المدخل وهو مالكي أيضا والمجتهد غير المستقل هو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد المذكورة التي اتصف بها المجتهد المستقل إلا أنه لم يبتكر لنفسه قواعد بل سلك طريقة إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد قال النووي في شرح المهذب تبعا لابن الصلاح في كتابه آداب الفتيا وهذا لا يكون مقلد الإمامة لا في المذهب ولا في دليله لاتصافه بصفة المستقل وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد وادعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا فحكى عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذهب أئمتهم تقليدا لهم ثم قال والصحيح الذي عليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليدا له بل [ ص: 121 ] لما وجدوا طريقه في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي وذكر أبو علي السنجي نحو هذا فقال اتبعنا الشافعي دون غيره لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها لا أنا قلدناه

قال النووي .

هذا الذي ذكره موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله مع إعلامه بنهيه عن تقليد غيره قال ثم فتوى المفتي في هذا النوع كفتوى المستقل في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف ا هـ كلام النووي قال السيوطي فالمطلق أعم مطلقا من المستقل فكل مستقل مطلق وليس كل مطلق مستقلا والذي ادعيناه هو الاجتهاد المطلق لا الاستقلال بل نحن تابعون للإمام الشافعي رضي الله عنه وسالكون طريقه في الاجتهاد امتثالا لأمره ومعدودون من أصحابه وكيف يظن أن اجتهادنا مقيد والمجتهد المقيد إنما ينقص عن المطلق بإخلاله بالحديث والعربية وليس على وجه الأرض من مشرقها إلى مغربها أعلم بالحديث والعربية مني إلا أن يكون الخضر أو القطب أو أولياء الله فإن هؤلاء لم أقصد دخولهم في عبارتي والله أعلم ا هـ كلام السيوطي الأمر الثالث أن الاجتهاد المطلق فرض كفاية فكيف يدعي خلو الأرض عمن يقوم به فيأثم جميع الأمة المحمدية كما في رسالة السيوطي المذكورة وفي حاشية الباجوري على ابن قاسم وادعى الجلال السيوطي بقاءه إلى آخر الزمان واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم { يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها } ومنع الاستدلال بأن المراد بمن يجدد أمر الدين من يقرر الشرائع والأحكام لا المجتهد المطلق ا هـ .

والجمهور على أن شروط الاجتهاد المطلق المذكورة لم تتحقق في شخص من علماء القرن الرابع فما بعده وأن من ادعى بلوغها منهم لا تسلم له دعواه ضرورة أن بلوغها لا يثبت بمجرد الدعوى وأن فرض الكفاية لا يجب على المكلفين به تحصيله وإنما يجب عليهم الاجتهاد في تحصيل شروطه بقدر ما في طاقاتهم البشرية فإذا تعذر عليهم تحصيلها كيف يدعي تأثيم جميعهم قال ابن أبي الدم عالم الأقطار الشامية بعد سرده شروط الاجتهاد المطلق : هذه الشروط يعز وجودها في زماننا في شخص من العلماء بل لا يوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق .

وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه الوسيط .

وأما شروط الاجتهاد المعتبرة في القاضي فقد تعذرت في وقتنا وفي الإنصاف من كتب السادة الحنابلة أنه من زمن طويل عدم المجتهد المطلق [ ص: 122 ]

وقال الفخر الرازي والرافعي والنووي إن الناس كالمجمعين اليوم على أنه لا مجتهد وقد تقدم عن شيخ شيوخنا في رسالته كيفية الرد على أهل الزيغ أن الإمام محمد بن جرير الطبري قد ادعى بلوغه رتبة الاجتهاد المطلق فلم يسلموا له وهو إمام جليل متضلع من العلوم المنطوق والمفهوم ومن أهل القرن الرابع فما بالك بغيره ممن هو في هذه الأعصار البعيدة وعلى أن المجتهد المطلق لا يكون إلا مستقلا وأن من له أن يفتي عبارة عن غير العامي ومن ليس له أن يفتي عبارة عن العامي وأن غير العامي إما مجتهد غير مستقل وله مرتبتان المرتبة الأولى أشار لها في جمع الجوامع بقوله مع الشرح ودونه أي دون المجتهد المطلق المتقدم مجتهد المذهب وهو المتمكن من تخريج الوجوه التي يبديها على نصوص إمامه في المسائل ا هـ .

وقال النووي في شرح المهذب تبعا لابن الصلاح أيضا وهو ما يكون مستقلا بتقرير أصوله بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده وشرطه كونه عالما بالفقه وأصوله وأدلة الأحكام تفصيلا بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني تام الارتياض في التخريج والاستنباط قيما بإلحاق ما ليس منصوصا عليه لإمامه بأصوله ولا يعرى عن شوب تقليد له لإخلاله ببعض أدوات المستقل بأن يخل بالحديث أو العربية وكثيرا ما أخل بهما المقيد ثم يتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها كفعل المستقل بنصوص الشرع وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه ولا يبحث عن معارض كفعل المستقل في النصوص وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه والعامل بفتوى هذا مقلد لإمامه لا له ثم ظاهر كلام الأصحاب أن من هذا حاله لا يتأدى به فرض الكفاية قال ابن الصلاح ويظهر تأدي الفرض به في الفتوى وإن لم يتأد في إحياء العلوم التي منها استمداد للفتوى ا هـ .

ومراده بقوله وهذه صفة أصحابنا إلخ مثل المزني والبويطي صاحبي الشافعي وابن القاسم وأشهب صاحبي مالك وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة والإمام الخلال وإبراهيم الحربي والشيخ حنبل وصالح بن الإمام أحمد من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل ولا خلاف في جواز إفتاء من في هذه المرتبة والأصل لم يتعرض لمن في هذه المرتبة ولعله لعدم وجوده سيما في هذه الأعصار قال شيخ شيوخنا في رسالته المذكورة لا يجوز لأهل هذه الأعصار الاستنباط في شيء من الآيات والأحاديث بل يجب عليهم الأخذ بأقوال أئمة الدين واتباعهم في كل ما يقولون من الأحكام الفقهية وتفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية .

ولو لم نقل ذلك لزم [ ص: 123 ] الزيغ والضلال والإلحاد في الدين لأن كثيرا من الآيات والأحاديث يعارضها مثلها من الآيات والأحاديث ولا إطلاع لغير المجتهدين على ذلك إلا بالنقل عنهم وبعضها منسوخ وبعضها مخصوص وبعضها مجمل وبعضها متشابه إلى غير ذلك من الأقسام ا هـ المراد وهو مبني على قول الأكثرين من جواز خلو الزمان حتى عن مجتهد المذهب ففي العطار على محلي جمع الجوامع قال الصفي الهندي المختار عند الأكثرين أنه يجوز خلو عصر من الأعصار عن الذي يمكن تفويض الفتوى إليه سواء كان مجتهدا مطلقا أو كان مجتهدا في مذهب المجتهدين المطلق ومنع منه الأقلون كالحنابلة ا هـ سم سيما ونحن الآن في القرن الرابع عشر وقد قال الشيخ الأخضري في سلمه المنورق لا سيما في عاشر القرون ذي الجهل والفساد والفتون المرتبة الثانية أشار لها في جمع الجوامع بقوله مع الشرح ودونه إلخ أي دون مجتهد المذهب مجتهد الفتيا وهو المتبحر في مذهب إمامه المتمكن من ترجيح قول له على آخر أطلقهما ا هـ .

وسماه العلامة السيوطي في رسالته المذكورة مجتهد الترجيح وقال النووي في شرح المهذب تبعا لابن الصلاح أيضا وهو من لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريرها يصور ويحرر ويقرر ويمهد ويزيف ويرجح لكنه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب أو الارتياض في الاستنباط ومعرفة الأصول ونحوها من أدلتها ا هـ .

وقال شيخ شيوخنا في رسالته ومجتهدو الفتوى من كملوا في العلم والمعرفة من أرباب المذهب حتى وصلوا لرتبة الترجيح للأقوال وهم كثيرون كالرافعي والنووي وابن حجر والرملي في مذهب الشافعي ا هـ بتوضيح .

وقال شيخ والدي الشيخ إبراهيم الباجوري على ابن قاسم إن الرملي وابن حجر لم يبلغا مرتبة الترجيح بل هما مقلدان فقط نعم قال بعضهم بل لهما ترجيح في بعض المسائل بل والشبراملسي أيضا ا هـ وكالمازري وابن رشد واللخمي وابن العربي والقرافي في مذهب الإمام مالك وكابن نجيم والسرخسي والكمال بن الهمام والطحاوي في مذهب أبي حنيفة وكأبي يعلى وابن قدامة وأبي الخطاب والقاضي علاء الدين في مذهب الإمام أحمد بن حنبل وقال الأصل وحال من في هذه المرتبة أن يحيط بتقييد جميع مطلقات المذهب وتخصيص جميع عموماته وبمدارك إمامه ومستنداته وحكمه أنه يفتي بما يحفظه ويخرج ويقيس بشروط القياس ما لا يحفظه على ما يحفظه ا هـ .

وهذا أصح الأقوال الثلاثة المتقدمة وأما [ ص: 124 ] عالم غير مجتهد بأن لم يبلغ درجة مجتهد الفتوى ولا ينزل إلى درجة العامي وسماه العلامة السيوطي في رسالته المذكورة مجتهد الفتيا نظرا لما تقدم عن ابن دقيق العيد وعن شارح التحرير الأصولي من أنه رتبة ثالثة لغير المجتهد المطلق من العلماء المقلدين إلا أن كلام شارح التحرير المار وكلام ابن رشد الآتي على أنه ليس بمجتهد فتيا بل مجتهد الفتيا هو مجتهد الترجيح فتأمل قال النووي في شرح المهذب تبعا لابن الصلاح أيضا وهو من يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه وما لا يجده منقولا إن وجد في المنقولات معناه بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق بينهما جاز إلحاقه به والفتوى به وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط مجتهد في المذهب وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه ا هـ .

وهذا هو الراجح من الأقوال الأربعة المتقدمة وهو مثل قول الأصل وحال هذا أن يتسع إطلاعه بحيث يعلم بتقييد المطلقات وتخصيص العمومات لكنه لم يضبط مدارك إمامه ومستنداته وحكمه أنه يفتي بما يحفظه وينقله من مذهبه اتباعا لمشهور ذلك المذهب بشروط الفتيا لا بكل قول فيه إذ لا يعرى مذهب من المذاهب عن قول خالف فيه المجتهد الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لكنه قد يقل وقد يكثر .

وهذا النوع لا يجوز للمقلد أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله تعالى وذلك لأنه لو حكم به حاكم لنقضناه ولا نقره شرعا وإن تأكد بحكمه فأولى أن نقره شرعا إذا لم يتأكد ولا يعلم في مذهبه إلا من عرف القواعد الشرعية والقياس الجلي والنص الصريح وعدم المعارض لذلك بالمبالغة في تحصيل مسائل الفقه بأصولها مع معرفة علم أصول الفقه معرفة حسنة لا بمجرد معرفة أصول الفقه فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلا وذلك هو الباعث على وضع هذا الكتاب المسمى كتاب الأنوار والقواعد السنية لأضبط تلك القواعد حسب طاقتي ولاعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتوى فتأمل ذلك فهو أمر لازم وكذلك كان السلف رضي الله عنهم متوقفين في الفتيا توقفا شديدا .

وقال مالك لا ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلا لذلك ويرى هو نفسه أهلا لذلك يريد تثبت أهليته عند العلماء ويكون هو بيقين [ ص: 125 ] مطلعا على ما قاله العلماء في حقه من الأهلية لأنه قد يظهر من الإنسان أمر على ضد ما هو عليه إذا كان مطلعا على ما وصفه به الناس حصل اليقين في ذلك وما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكا لأن التحنيك وهو اللثام بالعمائم تحت الحنك شعار العلماء حتى إن مالكا سئل عن الصلاة بغير تحنيك فقال لا بأس بذلك وهو إشارة إلى تأكد التحنيك وهذا هو شأن الفتيا في الزمن القديم .

وأما اليوم فقد انخرق هذا السياج وسهل على الناس أمر دينهم فتحدثوا فيه بما يصلح وما لا يصلح وعسر عليهم اعترافهم بجهلهم وأن يقول أحدهم لا يدري فلا جرم آل الحال للناس إلى هذه الغاية بالاقتداء بالجهال والمتجرئين على دين الله تعالى ا هـ .

قال الحطاب في شرحه على المختصر والظاهر أن قوله بحيث يعلم تقييد المطلقات وتخصيص العمومات يعني يغلب على ظنه ذلك وأما القطع بأن هذه الرواية ليست مقيدة فبعيد ويكفي الآن في ذلك وجود المسألة في التوضيح أو في ابن عبد السلام قال ابن فرحون قال المازري في كتاب الأقضية الذي يفتي في هذا الزمان أقل مراتبه في نقل المذهب أن يكون قد استبحر في الاطلاع على روايات المذهب وتأويل الشيوخ لها وتوجيههم لما وقع فيها من اختلاف ظواهر واختلاف مذاهب وتشبيههم مسائل بمسائل قد يسبق إلى النفس تباعدها وتفريقهم بين مسائل ومسائل قد يقع في النفس تقاربها وتشابهها إلى غير ذلك مما بسطه المتأخرون في كتبهم وأشار إليه المتقدمون من أصحاب مالك في كثير من رواياتهم فهذا لعدم النظار يقتصر على نقله عن المذهب ا هـ .

وفي آخر خطبة البيان والتحصيل لابن رشد قال إذا جمع الطالب المقدمات إلى هذا الكتاب يعني البيان والتحصيل حصل على معرفة ما لا يسع جهله من أصول الديانات وأصول الفقه وعرف العلم من طريقه وأخذه من بابه وسبيله وأحكم رد الفرع إلى الأصل واستغنى بمعرفة ذلك كله عن الشيوخ في المشكلات وحصل مرتبة من يجب تقليده في النوازل المعضلات ودخل في زمرة العلماء الذين أثنى الله عليهم في غير ما آية من كتابه ووعدهم فيه بترفيع الدرجات ا هـ كلام الحطاب بتغيير ما .

قال وجعل القرافي أن ما خالف فيه الإمام النص نظير ما خالف فيه الإجماع في عدم جواز نقله للناس وإفتائهم به ليس بشيء لنص مالك في كتاب الجامع من العتبية وغيره على مخالفة نص الحديث الصحيح إذا كان العمل بخلافه ا هـ وهو مبني على جعل قوله السالم عن المعارض الراجح وصفا لخصوص القياس الجلي لا له وللنص وإلا [ ص: 126 ] لم يرد عليه ذلك فتأمل بإنصاف .

هذا وقال الأصل وما ليس محفوظا من روايات المذهب لمن في هذه المرتبة لا يجوز له تخريجه على ما هو محفوظ له منها وإن كثرت منقولاته جدا إلا إذا حصلت له شروط التخريج من حفظه قواعد الشريعة بالمبالغة في تحصيل مسائل الفقه بأصولها ومعرفته علم أصول الفقه وكتاب القياس وأحكامه وترجيحاته وشرائطه وموانعه معرفة حسنة وعلمه بأن قول إمامه المخرج عليه ليس مخالفا للإجماع ولا للقواعد ولا لنص ولا لقياس جلي سالم عن معارض راجح وكثير من الناس يقدمون على التخريج دون هذه الشروط بل صار يفتي من لم يحط بالتقييدات ولا بالتخصيصات من منقول إمامه وذلك فسق ولعب في دين الله تعالى ممن يتعمده ا هـ ويتعين جعل قوله سالم عن معارض راجح وصفا لكل من القياس الجلي والنص لا لخصوص القياس الجلي حتى يتوجه عليه إيراد الحطاب فافهم .

وأما العامي فله مرتبتان المرتبة الأولى أن يعرف من المجتهد حكم حادثة بدليلها وفي جواز إفتائه بما عرفه مطلقا وأن يقلده غيره فيه ثالثها إن كان الدليل كتابا أو سنة رابعها إن كان نقليا والأصح منها كما في بحر الزركشي الثاني أي المنع مطلقا المرتبة الثانية أن يعرف من المجتهد حكم مسألة ولم يدر دليلها أو يحفظ مختصرا من مختصرات الفقه فلا يجوز له أن يفتي بما عرفه نعم رجوع العامي إليه إذا لم يكن سواه أولى من الارتباك في الحيرة ويجوز له أن ينقل ما أفتاه به المجتهد لغيره نعم في بحر الزركشي لا يجوز للعامي أن يعمل بفتوى مفت لعامي مثله وإلى حال من في هذه المرتبة الثانية وحكم فتواه أشار الأصل بقوله أن يحفظ كتابا فيه عمومات مخصصة في غيره ومطلقات مقيدة في غيره فهذا يحرم عليه أن يفتي بما فيه إلا في مسألة يقطع أنها مستوفية للقيود وتكون هي الواقعة بعينها ا هـ .

وإلى حكم فتوى من في المرتبة الأولى يشير قوله إلا في مسألة يقطع أنها مستوفية إلخ فتأمل بدقة إذا علمت هذا علمت أن كلام الأصل في هذا الفرق وجواب ابن رشد لما سئل عن الفتوى وصفة المفتي قد حصراه في مجتهد الفتوى والترجيح والعالم الذي لم يبلغ درجته وصاحب المرتبة الثانية من مرتبتي العامي المارتين مع إدماج صاحب المرتبة الأولى منهما مع صاحب الثانية وحاصل كلام الأصل كما في الحطاب على متن سيدي خليل أن لطالب العلم ثلاث حالات الأولى أن يحفظ كتابا فيه عمومات مخصصة في غيره ومطلقات مقيدة في غيره فهذا يحرم عليه أن يفتي بما فيه إلا في [ ص: 127 ] مسألة يقطع أنها مستوفية القيود وتكون هي الواقعة بعينها الثانية أن يتسع اطلاعه بحيث يعلم بتقييد المطلقات وتخصيص العمومات لكنه لم يضبط مدارك إمامه ومستنداته فهذا يفتي بما يحفظه وينقله من المشهور في ذلك المذهب ولا يخرج مسألة ليست منصوصة على ما يشبهها الثالثة أن يحيط بذلك وبمدارك إمامه ومستنداته وهذا يفتي بما يحفظه ويخرج ويقيس بشروط القياس ما لا يحفظه على ما يحفظه ا هـ .

وجواب ابن رشد كما في شرح الحطاب على خليل نقلا عن وثائق ابن سلمون أن الجماعة التي تنسب إلى العلوم وتتميز عن جملة العوام في المحفوظ والمفهوم تنقسم على ثلاثة طوائف طائفة منهم اعتقدت صحة مذهب مالك تقليدا بغير دليل فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه دون التفقه في معانيها بتمييز الصحيح منها والسقيم فهذه لا يصح لها الفتوى بما علمته وحفظته من قول مالك وقول أحد من أصحابه إذ لا علم عندها بصحة شيء من ذلك إذ لا يصح الفتوى بمجرد التقليد من غير علم ويصح لها في خاصتها إن لم تجد من يصح لها أن تستفتيه أن تقلد مالكا أو غيره من أصحابه فيما حفظته من أقوالهم وإن لم يعلم من نزلت به نازلة من يقلده فيها من قول مالك وأصحابه فيجوز للذي نزلت به النازلة أن يقلده فيما حكاه له من قول مالك في نازلته ويقلد مالكا في الأخذ بقوله فيها وذلك أيضا إذا لم يجد في عصره من يستفتيه في نازلته فيقلده فيها .

وإن كانت النازلة قد علم فيها اختلافا من قول مالك وغيره فأعلمه بذلك كان حكمه في ذلك حكم العامي إذا استفتى العلماء في نازلته فاختلفوا عليه فيها وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال أحدها أن يأخذ بما شاء من ذلك الثاني أن يجتهد من ذلك فيأخذ من ذلك بقول أعلمهم الثالث أن يأخذ بأغلظ الأقوال والطائفة الثانية منهم اعتقدت صحة مذهب مالك بما بان لها من صحة أصوله التي بناه عليها فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه وتفقهت في معانيها فعلمت الصحيح منها الجاري على أصوله من السقيم الخارج إلا أنها لم تبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول وهذه يصلح لها إذا استفتيت أن تفتي بما علمته من قول مالك وقول غيره من أصحابه إذا كانت قد بانت لها صحته كما يجوز لها في خاصتها الأخذ بقوله إذا بانت لها صحته ولا يجوز لها أن تفتي بالاجتهاد فيما لا تعلم فيه نصا من قول مالك أو قول غيره من أصحابه وإن كانت قد بانت لها [ ص: 128 ] صحته إذ ليست ممن كمل لها آلات الاجتهاد الذي يصح لها بها قياس من الفروع على الأصول والطائفة الثالثة منهم اعتقدت صحة مذهبه بما بان لها أيضا من صحة أصوله لكونها عالمة أحكام القرآن عارفة للناسخ والمنسوخ والمفصل والمجمل والخاص من العام عالمة بالسنن الواردة في الأحكام مميزة بين صحيحها من معلولها عالمة بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار وبما اتفقوا عليه واختلفوا فيه عالمة من علم اللسان بما يفهم به معاني الكلام عالمة بوضع الأدلة في مواضعيها وهذه هي التي يصح لها الفتوى عموما بالاجتهاد والقياس على الأصول التي هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة بالمعنى الجامع بينها وبين النازلة وعلى ما قيس عليها إن قدم القياس عليها ومن القياس جلي وخفي لأن المعنى الذي يجمع بين الأصل والفرع قد يعلم قطعا بدليل قاطع لا يحتمل التأويل وقد يعلم بالاستدلال فلا يوجب إلا غلبة الظن ولا يرجع إلى القياس الخفي إلا بعد القياس الجلي وهذا كله يتفاوت العلماء في التحقيق بالمعرفة به تفاوتا بعيدا وتفترق أحوالهم أيضا في جودة الفهم لذلك وجودة الذهن فيه افتراقا بعيدا إذ ليس العلم الذي هو الفقه في الدين بكثرة الرواية والحفظ وإنما هو نور يضعه الله حيث يشاء فمن اعتقد في نفسه أنه ممن تصح له الفتوى بما آتاه الله عز وجل من ذلك النور المركب على المحفوظ المعلوم جاز له أن يفتي وإذا اعتقد الناس فيه ذلك جاز له أن يفتي فمن الحق للرجل أن لا يفتي حتى يرى نفسه أهلا لذلك على ما حكى مالك عن ابن هرمز أشار بذلك على من استشاره السلطان فاستشاره في ذلك ا هـ .




الخدمات العلمية