الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثامن والمائة بين قاعدة الأرباح تضم إلى أصولها في الزكاة فيكون حول الأصل حول الربح ولا يشترط في الربح حول يخصه كان الأصل نصابا أم لا عند مالك رحمه الله ووافقه أبو حنيفة رضي الله عنه إذا كان الأصل نصابا ومنع الشافعي رضي الله عنه مطلقا وبين قاعدة الفوائد التي لم يتقدم لها أصل عند المكلف كالميراث والهبة وأرش الجناية وصدقات الزوجات ونحو ذلك فهذا يعتبر فيه الحول بعد حوزه وقبضه )

والفرق عندنا عضده قول عمر رضي الله عنه للساعي عد عليهم السخلة يحملها الراعي ولا تأخذها والسخلة عين متمولة نشأت عن عين متمولة زكوية كما نشأ الربح وهو عين زكوية عن عين زكوية وهو أصله فكما ضم أحدهما إلى أصله وجعل حوله حولا له كذلك الآخر الذي هو الربح ، وقولنا [ ص: 200 ] زكوية احترازا من أجر العقار فإنه لا يزكى ، وإن كان متمولا نشأ عن متمول ، غير أنه غير زكوي - أعني الأصل - وههنا قاعدة وهي سر الفرق بين الأرباح والفوائد يحتاج إليها بعد تقرر الأحكام فيها وهي أن صاحب الشرع متى أثبت حكما حالة عدم سببه ، أو شرطه فإن أمكن تقديرهما معه فهو أقرب من إثباته دونهما فإن إثبات المسبب دون سببه والمشروط بدون شرطه خلاف القواعد فإن ألجأت الضرورة إلى ذلك وامتنع التقدير عد ذلك الحكم مستثنى من تلك القواعد كما أثبت الشارع الميراث في دية الخطأ .

والميراث في الشريعة مشروط بتقدم ملك الميت على المال الموروث ، قدر العلماء رحمهم الله الملك في الدية متقدما على الموت بالزمن الفرد حتى يصح حكم التوريث فيها وكذلك إذا صححنا عتق الإنسان عن غيره في كفارة أو تطوع بإذنه ، أو بغير إذنه خلافا للشافعي رضي الله عنه في اشتراط الإذن قدرنا ثبوت الملك قبل صدور صيغة العتق بالزمن الفرد حتى تبرأ ذمة المعتق عنه [ ص: 201 ] من الكفارة الواجبة عليه فإن الواجب من الكفارات لا يبرأ منه بعتق غير مملوكه حتى يثبت له الولاء أيضا فإن الولاء لا يثبت أصله عن غير مملوك للمعتق عنه ، أما غير أصالة بطريق الإذن فيحصل بغير تملك ، ههنا هو أصالة فتعين تقدير المالك للعتق عنه قبيل صدور صيغة العتق بالزمن الفرد لضرورة ثبوت هذه الأحكام ، فإذا قال له : أعتق عبدك عني ، نقدر هذه الصيغة مشتملة على التوكيل في شراء عبد له من نفسه وأنه يتولى طرفي العقد ، ومشتملة أيضا على أنه وكله أن يعتقه عنه عن كفارته بعد استقرار الملك له فهي صيغة مشتملة على وكالتين وكالة المعاوضة ووكالة العتق ، فضرورة ثبوت حكم العتق عن الغير يحوج إلى هذه التقادير ، ونظائره كثيرة في الشريعة وهذه القاعدة تعرف بقاعدة التقديرات [ ص: 202 ] وهو إعطاء الموجود حكم المعدوم ، وإعطاء المعدوم حكم الموجود وقد تقدم بسطها في قاعدة خطاب الوضع وهي يحتاج إليها إذا دل دليل على ثبوت الحكم مع عدم سببه ، أو شرطه ، أو قيام مانعه .

وإذا لم تدع الضرورة إليها لا يجوز التقدير حينئذ ؛ لأنه خلاف الأصل وههنا لما دل الأثر على وجوب الزكاة في الأرباح تعين تقدير الربح والسخال في الماشية في أول الحول تحقيقا للشرط في وجوب الزكاة وهو دوران الحول فإن الحول لم يدر عليهما فيفعل ذلك محافظة على الشرط بحسب الإمكان ، واختلف في هذين التقديرين ابن القاسم وأشهب رحمهما الله فابن القاسم يقدر حالة الشراء ؛ لأنه سبب الربح فقدره ابن القاسم عنده لملازمة السبب لمسببه وعند أشهب يقدر يوم الحصول لئلا يجمع بين تقديرين تقدير الشراء والأعيان التي حصلت في الربح ، والتقدير على خلاف الأصل فيقتصر منه على ما تدعو الضرورة إليه ، وعند المغيرة التقدير يوم ملك أصل المال ؛ لأنه السبب .

وعلى هذه التقادير تتخرج مسألة المدونة إذا حال الحول على عشرة فأنفق منها خمسة واشترى سلعة بخمسة فباعها بخمسة عشر قال ابن القاسم : تجب الزكاة إن تقدم الشراء على الإنفاق فإن التقدير حينئذ كان المال عشرة وهذه عشرة ربح فكمل النصاب حينئذ ، وإلا فلا تجب وأسقطها أشهب مطلقا ؛ لأن التقدير عنده يوم الحصول ويوم الحصول لم تكن إلا خمسة عشر وأوجبها المغيرة مطلقا ؛ لأنه يقدر يوم ملكه العشرة ولا عبرة بتقديم الإنفاق وعدمه وعن مالك مثل قول الشافعي رضي الله عنهما فلا يحتاج [ ص: 203 ] إلى هذه القاعدة مطلقا فهذه القاعدة - وهي قاعدة التقادير - يحتاج إليها في الفرق بين قاعدة الأرباح وقاعدة الفوائد إن قلنا بالفرق بينهما ، وإلا فلا والله أعلم .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال : ( الفرق الثامن والمائة بين قاعدة " الأرباح تضم إلى أصولها في الزكاة فيكون حول الأصل حول الربح ولا يشترط في الربح حول يخصه كان الأصل نصابا أم لا عند مالك رحمه الله تعالى ووافقه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا كان الأصل نصابا ومنع الشافعي رضي الله تعالى عنه مطلقا " وبين قاعدة " الفوائد التي لم يتقدم لها أصل عند المكلف كالميراث والهبة وأرش الجناية وصدقات الزوجات ونحو ذلك فهذا يعتبر فيه الحول بعد حوزه وقبضه إلى قوله [ ص: 200 ] غير أنه غير ذكوي أعني الأصل " ) قلت : مسألة المالكية القياس على السخال كما ذكر وللشافعية فروق فيها نظر قال ( وههنا قاعدة وهي سر الفرق بين الأرباح والفوائد يحتاج إليها بعد تقرر الأحكام فيها إلى قوله عد مستثنى من تلك القواعد ) .

قلت : فيما قاله من ذلك نظر قال ( كما أثبت الشارع الميراث في دية الخطأ ، والميراث في الشريعة مشروط بتقدم ملك الميت على المال الموروث قدر العلماء الملك في الدية متقدما على الموت بالزمن الفرد حتى يصح حكم التوريث فيها ) قلت ليس ملك المقتول خطأ للدية مقدرا عندي بل هو محقق ، وإنما المقدر ملك المقتول عمدا للدية وقد سبق التنبيه على ذلك .

قال : ( وكذلك إذا صححنا عتق الإنسان عن غيره في كفارة أو تطوع بإذنه ، أو بغير إذنه خلافا للشافعي رضي الله عنه في اشتراط الإذن قدرنا ثبوت الملك قبل صدور صيغة العتق بالزمن الفرد حتى تبرأ ذمة المعتق عنه [ ص: 201 ] من الكفارة الواجبة عليه إلى قوله لضرورة ثبوت هذه الأحكام ) قلت : لا حاجة إلى تقدير الملك للمعتق عنه ولا دليل عليه فإن مثل هذا من الأمور المالية تصح فيه النيابة اتفاقا وقد تقدم التنبيه على ذلك أيضا .

قال : ( فإذا قال له : أعتق عبدك عني نقدر هذه الصيغة مشتملة على التوكيل في شراء عبد له من نفسه ، وأنه يتولى طرفي العقد ) .

قلت : لا يصح الشراء هنا بوجه فإنه لا عوض فلا وجه لتوكيله على الشراء قال ( ومشتملة أيضا على أنه وكله أن يعتقه عنه عن كفارته بعد استقرار الملك له فهي صيغة مشتملة على وكالتين وكالة المعاوضة ووكالة العتق ) .

قلت : ولا تصح أيضا وكالته على العتق فإنه لم يسبقه ملك قال ( فضرورة ثبوت حكم العتق عن الغير يحوج إلى هذه التقادير ، ونظائره كثيرة في الشريعة ) .

قلت : لا حاجة إلى شيء مما ذكره من التقادير في هذه المسألة أما في غيرها فربما احتيج إلى ذلك ، وكيف يقول : إن الصيغة مشتملة على التوكيل ، وأي صيغة فيما إذا أعتق عنه بغير إذنه ؟ هذا كله لا يصح .

قال ( وهذه القاعدة تعرف بقاعدة التقديرات [ ص: 202 ] وهو إعطاء الموجود حكم المعدوم ، وإعطاء المعدوم حكم الموجود إلى قوله محافظة على الشرط بحسب الإمكان ) .

قلت : ما قاله في ذلك صحيح وليست مسألة عتق الإنسان عن غيره من ذلك فإنها لم تدع فيها إلى ذلك ضرورة وما قاله بعد حكاية أقوال وتوجيهها ، ولا كلام في ذلك وما قاله في الفرق بعده صحيح [ ص: 203 ] .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثامن والمائة بين قاعدة الأرباح تضم إلى أصولها في الزكاة فيكون حول الأصل حول الربح ولا يشترط في الربح حول يخصه كان الأصل نصابا أم لا عند مالك رحمه الله ووافقه أبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهما إذا كان الأصل نصابا ، وإلا فحوله من حين كمل النصاب ومنع الشافعي رضي الله عنه مطلقا وبين قاعدة الفوائد التي لم يتقدم لها أصل عند المكلف كالميراث والهبة وأرش الجناية وصدقات الزوجات ونحو ذلك فهذا يعتبر فيه الحول بعد حوزه وقبضه ) .

لا فرق بين الربح والفائدة عند الشافعي ولا على مقابل مشهور مالك فقد روي عنه مثل قول الشافعي رضي الله عنهما ، وإنما الفرق بينهما على مشهور مالك وقول أبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهم وهو مبني على قاعدة التقادير وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم ، وإعطاء [ ص: 199 ] المعدوم حكم الموجود وقد تقدم بسطها في قاعدة خطاب الوضع نعم التقدير من حيث إنه خلاف الأصل لا يجوز إلا إذا دعت الضرورة إليه بأن يدل الدليل على ثبوت الحكم مع عدم سببه أو شرطه ، أو قيام مانعه وههنا قد دعت الضرورة إليه فإن قول عمر اعتد عليهم بالسخلة ولا تأخذها منهم كما في الموطإ وقول علي عد عليهم الصغار والكبار ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة كما في كشاف القناع والمنتقى للباجي يدل على وجوب الزكاة في الأرباح ضرورة أن ربح التجارة كذلك معنى إذ السخلة كما أنها عين متمولة نشأت عن عين متمولة زكوية كذلك الربح عين زكوية نشأت عن عين زكوية وهو أصله فوجب أن يكون مثله حكما فكما تضم السخال إلى أصلها ويجعل حوله حولا لها كذلك يضم الربح إلى أصله ويجعل حوله حولا له وشرط وجوب الزكاة دوران الحول وهو لم يدر على الربح والسخال فتعين تقدير الربح في التجارة والسخال في الماشية في أول الحول تحقيقا للشرط في وجوب الزكاة ومحافظة على الشرط بحسب الإمكان وليست الفائدة كذلك إذ لا أصل لها يقدر حوله حولا لها . نعم في كون هذين التقديرين في يوم الشراء ؛ لأنه سبب الربح .

والسبب يلازم مسببه وهو مذهب ابن القاسم ، أو في يوم الحصول لئلا يجمع بين تقديرين : تقدير الشراء والأعيان التي حصلت في الربح . والتقدير على خلاف الأصل فيقتصر منه على ما تدعو الضرورة إليه وهو مذهب أشهب ، أو في يوم ملك أصل المال لأنه السبب وهو مذهب المغيرة خلاف تتخرج عليه مسألة المدونة إذا حال الحول على عشرة فأنفق منها خمسة واشترى سلعة بخمسة فباعها بخمسة عشر فقال ابن القاسم إن تقدم الشراء على الإنفاق وجبت الزكاة فإن التقدير حينئذ والمال عشرة وهذه عشرة ربح فيكمل النصاب حينئذ ، وإلا فلا تجب وأسقطها أشهب مطلقا لأن التقدير عنده يوم الحصول ويوم الحصول لم تكن إلا خمسة عشر وأوجبها المغيرة مطلقا لأنه يقدر يوم ملكه العشرة ولا عبرة بتقديم الإنفاق على الشراء وعدمه ، وفي الموطإ قال مالك إذا بلغت الغنم بأولادها ما تجب فيه الصدقة فعليه فيها الصدقة وذلك أن أولاد الغنم منها وذلك مخالف لما أفيد منها باشتراء أو هبة أو ميراث .

ومثل ذلك العرض لا يبلغ ثمنه ما تجب فيه الصدقة فيصدق ربحه مع رأس المال ولو كان ربحه فائدة ، أو ميراثا لم تجب فيه الصدقة حتى يحول عليه الحول من يوم أفاده أو ورثه قال مالك فغذاء الغنم أي سخالها منها كما أن ربح المال منه قال مالك غير أن ذلك يختلف في وجه آخر أنه إذا كان للرجل من الذهب ، أو الورق ما تجب فيه الزكاة ثم أفاد إليه مالا ، ترك ماله الذي أفاد فلم يزكه مع ماله الأول حين يزكيه حتى يحول على الفائدة الحول من يوم أفادها ، ولو كانت لرجل غنم أو بقر أو إبل تجب في كل صنف منها الصدقة ، ثم أفاد إليها بعيرا أو بقرة أو شاة صدقها مع صنف ما أفاد من ذلك حين يصدقه إذا كان عنده من ذلك الصنف الذي أفاد نصاب ماشية قال مالك : وهذا أحسن ما سمعت في هذا كله ا هـ .

قال الباجي : يريد أن الفائدة لا يكمل بها النصاب ويكمل بالنسل ، وقاسه مالك على نماء العين منه فإذا بلغ الربح مع الأصل النصاب وجبت فيه الزكاة ، وإن لم يبلغه إلا بفائدة لم يزك حتى يحول الحول على [ ص: 200 ] الفائدة وهذا قياس صحيح لم يسلم له أن نصاب الحولين يتم بربحه ، وإنما سلمه الشافعي فيمن اشترى بمائة درهم سلعة قيمتها مائتا درهم ، ثم باعها بمائتي درهم بعد أن حال الحول من يوم اشتراها فإن الزكاة فيها وهذا أصل يصح قياسنا عليه ولا يخل بالقياس المذكور اختلاف حكم العين والماشية في الفوائد من جهة أن الماشية إذا أفاد منها شيئا وعنده نصاب من جنسها كان حكم الفائدة في الحول حكم أصل النصاب الذي كان عنده بخلاف العين فإنه يزكي الفائدة لحولها والنصاب الذي كان عنده لحوله ، وذلك لأنه ليس من شرط الفرع إذا قيس على الأصل لعلة جامعة بينهما في حكم من الأحكام أن يقاس عليه في سائر أحكامه .

وإنما يلزم أن يدل الدليل على أن العلة التي جمعت بينهما في ذلك الحكم لها اختصاص بذلك الحكم دون غيره ، وإن فارق الأصل الفرع في أحكام غيرها لا تعلق لها بتلك العلة لأن ما من فرع إلا وهو يخالف الأصل الذي قيس عليه في عدة أحكام ، وفي مسألتنا قاس إتمام نصاب الماشية بنمائها الذي هو أولادها على إتمام نصاب العين بنمائه لعلة صحيحة وهي أن هذا أي الأولاد نماء حادث من العين التي تجب فيها الزكاة وهي الماشية وهو من جنسها فوجب أن يكمل بها نصابها كالعين وهذه علة تختص بالنماء دون الفوائد فاختلاف العين والماشية في الفوائد لا في النماء لا يمنع اجتماعهما في النماء الذي هو من جنس الأصل ، وإنما اختلف في الفوائد لأنها ليست من الأصل وزكاة الماشية لها تعلق بالساعي فإذا لم تجب زكاتها لزكاة الأصل لم يمكن تكرر الساعي ونعمت المعدلة بين أرباب الأموال والمساكين فإن الفائدة إذا أضيفت إلى أقل من النصاب زكيت بعد استكمال حول الفائدة ، وإذا أضيفت إلى النصاب زكيت لحول النصاب وليس كذلك العين فإن رب المال يخرج زكاته فيمكن إخراجه عند حلول حوله المختص به فلم تدع ضرورة إلى اعتباره لحول النصاب فتعجل قبل حلوله ، ولا أن يضاف إلى أقل من النصاب فيزكى إلى أكثر من حوله فلذلك افترقا والله أعلم وأحكم ا هـ بتصرف ما .




الخدمات العلمية