الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              2200 176 \ 2114 - وعن طاووس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وثلاثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس : نعم .

                                                              وأخرجه مسلم والنسائي .

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: قال البيهقي: هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم، فأخرجه مسلم وتركه البخاري، وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الروايات، عن ابن عباس - وساق الروايات عنه - ثم قال: فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير، ورويناه عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري، كلهم عن ابن عباس، أنه أجاز الثلاث وأمضاهن.

                                                              قال ابن المنذر: فغير جائز أن نظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم يفتي بخلافه.

                                                              وقال الشافعي: فإن كان معنى قول ابن عباس إن الثلاث كانت [ ص: 529 ] تحتسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة يعني أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيء فنسخ.

                                                              قال البيهقي: ورواية عكرمة، عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل. يريد البيهقي الحديث الذي ذكره أبو داود في باب نسخ المراجعة وقد تقدم.

                                                              وقال أبو العباس بن سريج: يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث، وهو أن يفرق بين اللفظ كأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق.

                                                              وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر والناس على صدقهم وسلامتهم، لم يكن ظهر فيهم الخب والخداع، فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التوكيد، ولا يريدون الثلاث.

                                                              ولما رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت، منع من حمل اللفظ على التكرار، فألزمهم الثلاث.

                                                              وقال بعضهم: إن ذلك إنما جاء في غير المدخول بها، وذهب إلى هذا جماعة من أصحاب ابن عباس، ورأوا أن الثلاث لا تقع على غير المدخول بها، لأنها بالواحدة تبين، فإذا قال: أنت طالق بانت، وقوله "ثلاثا" وقع بعد البينونة فلا يعتد به، وهذا مذهب إسحاق بن راهويه.

                                                              [ ص: 530 ] وقال بعضهم: قد ثبت عن فاطمة بنت قيس أن أبا حفص بن المغيرة طلقها ثلاثا ؟ فأبانها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لها نفقة ولا سكنى. وفي حديث ابن عمر: أنه قال: يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثا ؟ قال: إذن عصيت ربك وبانت منك امرأتك رواه الدارقطني.

                                                              وعن علي أنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق امرأته البتة، فغضب وقال: يتخذون آيات الله هزوا ؟ من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره . رواه الدارقطني أيضا.

                                                              قالوا: وهذه الأحاديث أكثر وأشهر من حديث أبي الصهباء، وقد عمل بها الأئمة، فالأخذ بها أولى.

                                                              وقال بعضهم: المراد أنه كان المعتاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تطليقة واحدة، وقد اعتاد الناس الآن التطليقات الثلاث، والمعنى: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثا يوقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة.

                                                              وقال بعضهم: ليس في هذا الحديث أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فيقر عليه، والحجة إنما هي في إقراره بعد بلوغه. ولما بلغه طلاق ركانة امرأته البتة استحلفه: ما أردت بها إلا واحدة ؟ ولو كان الثلاث واحدة لم يكن لاستحلافه معنى، فإنها واحدة، سواء أراد بها الثلاث أو الواحدة.

                                                              [ ص: 531 ] وقال بعضهم: الإجماع منعقد على خلاف هذا الحديث، والإجماع معصوم من الغلط والخطأ، دون خبر الواحد.

                                                              وقال بعضهم: إنما هذا في طلاق البتة. فإنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يراد بها الواحدة، كما أراد بها ركانة، ثم تتايع الناس فيها، فأرادوا بها الثلاث، فألزمهم عمر إياها.

                                                              فهذه عشرة مسالك للناس في رد هذا الحديث.

                                                              وقال أبو بكر بن العربي المعافري في كتابه "الناسخ والمنسوخ": (غائلة ) قال تعالى: الطلاق مرتان : زل قوم في آخر الزمان، فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة لا يلزم، وجعلوه واحدة، ونسبوه إلى السلف الأول، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطاة الضعيف المنزلة، المغموز المرتبة، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل.

                                                              وغوى قوم من أهل المسائل، فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه، وقالوا: إن [ ص: 532 ] قوله: "أنت طالق ثلاثا" كذب، لأنه لم يطلق ثلاثا، كما لو قال: "طلقت ثلاثا"، ولم يطلق إلا واحدة، وكما لو قال: "أحلف ثلاثا"، كانت يمينا واحدة.

                                                              (منبهة ) : لقد طوفت في الآفاق، ولقيت من علماء الإسلام وأرباب المذاهب كل صفاق، فما سمعت لهذه المقالة بخبر، ولا أحسست لها بأثر، إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزا ولا يرون الطلاق واقعا.

                                                              ولذلك قال فيهم ابن سكرة الهاشمي:


                                                              يا من يرى المتعة في دينه حلا، وإن كانت بلا مهر ولا يرى تسعين تطليقة
                                                              تبين منه ربة الخدر من هاهنا طابت مواليدكم
                                                              فاغتنموها يا بني النظر



                                                              وقد اتفق علماء الإسلام، وأرباب الحل والعقد في الأحكام، على أن الطلاق الثلاث في كلمة - ، وإن كان حراما في قول بعضهم، وبدعة في قول الآخرين - ، لازم، وأين هؤلاء البؤساء من عالم الدين، وعلم الإسلام [ ص: 533 ] محمد بن إسماعيل البخاري، وقد قال في "صحيحه": باب جواز الثلاث لقوله تعالى : الطلاق مرتان ، وذكر حديث اللعان : فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم يغير عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقر على الباطل، ولأنه جمع ما فسح له في تفريقه فألزمته الشريعة حكمه.

                                                              وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب، ولا رواية له عن أحد.

                                                              وقد أدخل مالك في "موطئه"، عن علي " أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة " فهذا في معناها، فكيف إذا صرح بها ؟!

                                                              وأما حديث الحجاج بن أرطاة فغير مقبول في الملة، ولا عند أحد من الأئمة.

                                                              فإن قيل: ففي "صحيح مسلم"، عن ابن عباس - وذكر حديث أبي الصهباء هذا.

                                                              قلنا: هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه:

                                                              الأول: أنه حديث مختلف في صحته، فكيف يقدم على إجماع الأمة ؟ ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد [ ص: 534 ] سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم، فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم فعل العدل، عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا.

                                                              الثاني: إن هذا الحديث لم يرو إلا عن ابن عباس، ولم يرو عنه إلا من طريق طاووس. فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد، وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد ؟ وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس؟ وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا طاووسا؟!

                                                              الثالث: يحتمل أن يراد به قبل الدخول. وكذلك تأوله النسائي، فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة. وذكر هذا الحديث بنصه.

                                                              الرابع: أنه يعارضه حديث محمود بن لبيد، قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان، ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله ؟ رواه النسائي.

                                                              فلم يرده النبي صلى الله عليه وسلم بل أمضاه، وكما في حديث عويمر في اللعان حيث [ ص: 535 ] أمضى طلاقه الثلاث ولم يرده.

                                                              الخامس: وهو قوي في النظر والتأويل، أنه قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة ، يحتمل أن يريد به: كان حكم الثلاث إذا وقعت أن تجعل واحدة، وأن يريد به: كانت عبارة الثلاث على عهده أن تذكر واحدة، فلما تتايع الناس في الطلاق وذكروا الثلاث بدل الواحدة، أمضى ذلك عمر، كما أمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عويمر حين طلق ثلاثا. فلا يبقى في المسألة إشكال. فهذا أقصى ما يرد به هذا الحديث.




                                                              الخدمات العلمية