الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأدلة:

        دليل القول الأول:

        1- قوله تعالى: من بعد وصية يوصي بها أو دين

        وجه الدلالة: أن الآية جاءت عامة للديون كلها، وأنها تقدم قبل الميراث، والزكاة دين الله -عز وجل- فتدخل في عموم الآية، وتخرج من رأس المال.

        2- حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، فدين الله أحق أن يقضى».

        [ ص: 98 ] وفي رواية أخرى: «اقضوا دين الله فالله أحق بالوفاء».

        ففي هذين اللفظين دليل واضح على أن ديون الله -عز وجل- أحق بالقضاء والوفاء، ومنها الزكاة الواجبة في ذمة الميت، فيجب قضاؤها من تركته نيابة عنه؛ تنفيذا لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقضاء ديون الله -عز وجل- عامة.

        3- قياس الزكاة الواجبة على ديون الآدميين.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أنه قياس في عبادة، والقياس في العبادات لا يصح.

        الثاني: أنه قياس مع الفارق، فديون الله -عز وجل- مبنية على المسامحة، أما ديون الآدميين فهي مبنية على المشاحة.

        4- أن متعلق الزكاة إما الذمة، وإما عين المال، ولا سبيل إلى قسم ثالث.

        فإن قيل: إنها في عين المال صار أهل الزكاة شركاء للورثة فيه، فكيف نبطل حقهم ونبقي ديون الآدميين الآخرين؟!

        وإن قيل: إنها في ذمة الميت فكيف نسقطها بالموت.

        فثبت عقلا -بعد ثبوت ذلك شرعا- أنها واجبة في تركته.

        أدلة القول الثاني:

        (278) 1- ما رواه مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يقول العبد: مالي مالي! إنما له من ماله [ ص: 99 ] ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس».

        وجه الدلالة: يفهم من الحديث أن أي مال لم يمضه الإنسان في حياته في صدقة أو سواها، فليس له، بل هو مال الوارث بعد موته; وذلك لانقطاع علاقته بماله بالموت.

        ونوقش هذا الاستدلال: أن انقطاع صلة الإنسان بماله بالموت صحيح، بل هو عين الواقع.

        لكن ليس معنى ذلك أن ما عليه من الديون تنتفي علاقتها بماله، بل تقضى من هذا المال، والأولى بالقضاء ديون الله -عز وجل- لما جاء في السنة من أن الله أولى بالوفاء، وقد سبق قريبا.

        2- أن المال يصير بالموت ملكا للوارث، ولم يجب على الوارث شيء ليؤخذ ملكه به.

        ونوقش هذا الاستدلال: كون المال يصير بالموت ملكا للوارث ليس على إطلاقه، بل بعد الديون والوصايا ونحوهما من الأمور التي تتعلق بعين التركة، ثم يأتي الميراث في المقام الأخير، فكيف يقال: إن المال بالموت يصبح ملكا للوارث؟!

        3- أن حقوق الله -عز وجل- إذا اجتمعت مع حقوق العباد في محل قدمت حقوق العباد عليها; لأن حقوق الله -عز وجل- مبنية على العفو، والمسامحة، [ ص: 100 ] بينما حقوق العباد مبنية على المشاحة، والتركة هنا تعلقت بها حقوق الورثة فتقدم على حقوق الله عز وجل.

        ونوقش هذا الاستدلال: تقديم حقوق العباد على حقوق الله -عز وجل- من المسائل المختلف فيها، وقد حرر ذلك في مبحث المحاصة بين الوصايا.

        4- أن الواجب على المزكي إخراج الزكاة بنفسه، والوارث لا يمكن أن يجعل نائبا في أداء الزكاة; لأنها عبادة، ومعنى العبادة لا يتحقق إلا بنية وفعل ممن وجبت عليه حقيقة أو حكما.

        ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم; إذ تجوز النيابة في تفريق الزكاة بالإجماع.

        5- أن الزكاة إذا لم يوص بها الميت تسقط; إذ من شرطها النية قياسا على الصوم، ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الأول: أن القياس في العبادات ليس مسلما به على سبيل الإطلاق.

        الثاني: أنه قياس مع الفارق; ذلك أن الصوم عبادة بدنية محضة، بخلاف الزكاة فهي عبادة مالية محضة، فقياس أحدهما على الآخر -مع هذا الفارق القوي- لا يستقيم.

        6- قياس الميت على المفلس، وبيان ذلك:

        أن محل الزكاة هو المال ذاته; لقوله تعالى: وفي أموالهم حق للسائل والمحروم

        [ ص: 101 ] والشيء يفوت بفوات محله، فإذا مات صاحب المال فاتت الزكاة لفوات محلها، قياسا على سقوط الدين بموت من هو عليه مفلسا.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس مع الفارق; وذلك لأن المفلس لا مال له يقضى به دينه، بخلاف الميت الذي يخلف ما تقضى منه ديونه، سواء كانت لله -عز وجل- أو للآدميين، وإذا ثبت الفارق بطل القياس.

        7- قياسها على باقي الوصايا، وأنها وصية من الوصايا، والوصايا تخرج من الثلث.

        8- بأنه لو جعلت في رأس المال لكان في إمكان كل واحد أن يحرم ورثته الإرث إذا شاء بترك الزكاة طيلة حياته حتى إذا دنا من الموت أوصى بها، فتخرج من رأس المال، ولا يبقى للورثة شيء، فسدا لهذه الذريعة لا تنفذ الوصية بالواجبات الدينية فيما زاد على الثلث، إلا بإجازة الورثة.

        يجاب على هذه التعليلات جميعها بأن يقال: إنها تعليلات مصادمة لعموم الكتاب والسنة الصحيحة.

        أدلة القول الثالث:

        الظاهر من مذهب المالكية: التفريق بين زكاة الماشية والنقدين، فإن كان المال ماشية فلا زكاة فيها إذا مات مالكها قبل مجيء الساعي، وبنوا قولهم هذا على أن مجيء الساعي شرط لوجوب زكاة الماشية.

        ومن ثم إذا لم يأت الساعي ويقبضها فلا زكاة في الماشية أصلا على من مات قبل ذلك.

        [ ص: 102 ] أما إذا كانت دراهم فإنهم قالوا بأن لا زكاة فيها بموت المورث إلا بالوصية.

        ونوقش هذا الاستدلال: بالنسبة لقولهم في الماشية بـ «أن مجيء الساعي شرط» قول فيه غرابة، بل يحتاج إلى دليل.

        أما قولهم في الدراهم ونحوها، فهو مذهب الحنفية، وقد سبقت مناقشته.

        الترجيح:

        الراجح -والله أعلم- وجوب إخراج الزكاة أوصى بها الميت أو لم يوص; لأن الأصل الوجوب وبقاؤه في الذمة، ولتعلق حق الفقراء.

        [ ص: 103 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية