الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأمر الرابع: هبة السكران:

        السكران لا يخلو من حالتين:

        [ ص: 130 ] الحال الأولى: أن يكون معذورا بسكره كمن شرب مسكرا ظنه عصيرا، أو كان مكرها على شربه، ونحو ذلك، فلا تصح هبته باتفاق الفقهاء.

        لما يأتي من الأدلة على عدم صحة هبته إذا كان السكران غير معذور، فالمعذور من باب أولى.

        الحال الثانية: أن لا يكون معذورا بسكره بأن يشرب المسكر عالما مختارا.

        إذا وهب السكران غير المعذور بسكره فهل تصح هبته، وتترتب عليها آثارها أو لا؟.

        خلاف بين الفقهاء على أقوال:

        القول الأول: عدم صحة هبة السكران:

        هو قول الكرخي، والطحاوي من الحنفية، وقول للشافعية، ورواية عند الحنابلة، خرجها الأصحاب على عدم وقوع طلاق السكران، وهو قول الظاهرية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.

        [ ص: 131 ] القول الثاني: صحة هبة السكران:

        وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية، وهو قول شاذ عند المالكية، وهو المذهب عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، خرجها الأصحاب على وقوع طلاق السكران ) ، وهي المذهب.

        في تيسير التحرير: "وإن كان طريقه - أي: السكر - محرما... فلا يبطل التكليف فيلزم الأحكام، وتصح به عباراته من الطلاق، والعتاق، والبيع، والإقرار، والتزويج، والإقراض.....".

        القول الثالث: أن هبة السكران صحيحة، إلا أن العقد غير لازم: وبهذا قال الإمام مالك وعامة أصحابه.

        القول الرابع: تصح هبة السكران، ولا يصح اتهابه:

        وهذا قول للشافعية.

        [ ص: 132 ] الأدلة:

        أدلة القول الأول: (عدم صحة هبة السكران ) :

        استدل من قال بعدم صحة هبة السكران بالأدلة الآتية:

        1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .

        وجه الاستدلال من الآية: أن الله سبحانه وتعالى جعل قول السكران غير معتبر; لأنه لا يعلم ما يقول، وعليه فلا تصح هبته.

        وأيضا: فإن النهي عن قربان الصلاة مع السكر دليل على بطلان عبادته، فترتب على ذلك بطلان سائر عقوده لانعدام مناط التكليف.

        (45 ) 2 - ما رواه مسلم من طريق سليمان بن بريدة، عن أبيه عنه قال: جاء ماعز بن مالك رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله طهرني...، قال: "مم أطهرك؟" قال: من الزنى. فسأل رسول الله: "أبه جنون؟" فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: "أشرب خمرا؟" فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أزنيت؟ » قال: نعم. فأمر به فرجم".

        وجه الاستدلال من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشم ريح فم ماعز ليعلم هل هو سكران أو لا؟ فإن كان سكران لم يصح إقراره، وإذا لم يصح إقراره علم أن أقواله باطلة كأقوال المجانين، فلا تصح هبته.

        [ ص: 133 ] ونوقش هذا الاستدلال: بأن درء الحد عن ماعز لوجود الشبهة في إقراره، والحدود تدرأ بالشبهات.

        وأجيب: بأن استنكاه ماعز خشية الشبهة في إقراره دليل على اعتبار العقل الذي هو مناط التكليف.

        (46 ) 3 - ما رواه البخاري من طريق علي بن الحسين، أن حسين بن علي رضي الله عنهما أخبره أن عليا أخبره قال: "كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر....، فإذا شارفي قد جبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، فقلت: يا رسول الله عدا حمزة على ناقتي، وها هو ذا في بيت معه شرب، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد ثمل، فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه، وخرجنا معه".

        وجه الاستدلال من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ حمزة بما قال، مع أن هذا القول لو قاله غير سكران لكان ردة وكفرا.

        قال ابن حجر رحمه الله - : "وهو من أقوى أدلة من لم يؤاخذ السكران بما يقع منه في حال سكره من طلاق وغيره".

        ونوقش هذا الاستدلال: من الحديث بأن الخمر حينئذ كانت مباحة، فبذلك سقط عن حمزة رضي الله عنه حكم ما نطق به في تلك الحال.

        [ ص: 134 ] وأجيب عنه: بأن الاحتجاج من هذا الحديث إنما هو بعدم مؤاخذة السكران بما يصدر منه، ولا يفترق الحال بين أن يكون الشرب مباحا أو لا.

        4 - حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل".

        وجه الدلالة: دل الحديث على أن فاقد العقل غير مؤاخذ، فكذا السكران; لانعدام مناط التكليف.

        ونوقش: بأنه قياس مع الفارق، حيث إن انعدام مناط التكليف في المنصوص عليهم قهرا، بخلاف السكران فإنه باختياره وإرادته فيغلظ عليه.

        وأجيب: بأن العبرة انعدام مناط التكليف; لاشتراط القصد في العقود والأقوال المتحقق في العقل من غير تفريق بين مختار وغيره.

        (47 ) 5. ما رواه الترمذي من طريق عطاء بن عجلان، عن عكرمة بن خالد المخزومي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه، والمغلوب على عقله" (ضعيف جدا ) .

        [ ص: 135 ] والسكران داخل في المغلوب على عقله.

        ونوقش: بضعف الحديث.

        (48 ) 6 - ما رواه أبو داود من طريق محمد بن عبيد، عن أبي صالح... قال: خرجت مع عدي بن عدي الكندي حتى قدمنا مكة، فبعثني إلى صفية بنت شيبة... قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" (ضعيف ) .

        [ ص: 136 ] وجه الدلالة: أن المغلق عليه لا يقع طلاقه، وكذا هبته، والسكران داخل في ذلك لزوال مناط التكليف.

        (49 ) 7 - قال البخاري: وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "ليس لمجنون ولا سكران طلاق".

        قال ابن المنذر: "هذا ثابت عن عثمان، ولا نعرف أحدا من الصحابة خالفه".

        وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا ثابت عن أمير المؤمنين عثمان ابن عفان، ولم يثبت عن الصحابة خلافه فيما أعلم".

        (50 ) 8 - قال البخاري: وقال ابن عباس رضي الله عنه: "طلاق السكران والمستكره ليس بجائز".

        [ ص: 137 ] أي: ليس بواقع.

        فهذه الفتوى من الصحابة - رضوان الله عليهم - تدل على أن تلفظ السكران بصيغة الطلاق لغو لا يترتب عليها حكم، ويقاس على صيغة الطلاق سائر صيغ العقود كالهبة; إذ لا فرق مؤثر في الحكم بينهما.

        9 - أن السكران زائل العقل مفقود الإرادة، وشرط التكليف العقل وهو مفقود، فأشبه المجنون والنائم والمكره.

        ونوقش هذا القياس من وجهين:

        أحدهما: أن مع المكره والمجنون علما ظاهرا يدل على فقد الإرادة هما فيه معذوران، بخلاف السكران.

        الثاني: أن المكره والمجنون والنائم غير مؤاخذين بالإكراه والجنون والنوم، فلم يؤاخذوا بما أحدثوا فيها، كما أن من قطع يد سارق فسرت إلى نفسه لا يؤاخذ بالسراية; لأنه غير مؤاخذ بالقطع، ولو كان متعديا بالقطع.

        [ ص: 138 ] لكان مؤاخذا بالسراية كما كان مؤاخذا بالقطع بخلاف السكران، فإنه لما كان متعديا بالسكر كان مؤاخذا بما حدث فيه.

        وأجيب: بما أجيب به عن المناقشة الواردة على الدليل الرابع.

        10 - أن عبادات السكران كالصلاة لا تصح بالنص والإجماع; لأنه لا يعلم ما يقول كما دل على ذلك القرآن الكريم.

        والقاعدة: أن كل من بطلت عبادته لعدم عقله فبطلان عقوده أولى وأحرى، كالنائم والمجنون ونحوهما، فإنه قد تصح عبادات من لا يصح تصرفه لنقص عقله كالصبي والمحجور عليه لسفه.

        11 - أن جميع الأقوال والعقود مشروطة بوجود التمييز والعقل، فمن لا تمييز له ولا عقل ليس لكلامه في الشرع اعتبار أصلا; (51 ) لما روى البخاري ومسلم من طريق الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".

        فإذا كان القلب قد زال عقله الذي به يتكلم ويتصرف، فكيف يجوز أن يجعل له أمر ونهي أو إثبات، وهذا معلوم بالعقل مع تقرير الشارع له.

        12 - أن العقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالمقصود; (52 ) لما روى البخاري ومسلم من طريق علقمة بن وقاص الليثي يقول: [ ص: 139 ] سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات".

        وجه الاستدلال: أن اللفظ وغيره من التصرفات مشروط بالقصد، فكل لفظ من المتكلم لسهو وسبق لسان وعدم عقل لا يترتب عليه حكم.

        فكل لفظ من المتكلم لسهو وسبق لسان وعدم عقل، فإنه لا يترتب عليه حكم.

        أدلة الرأي الثاني: (صحة هبة السكران ) :

        استدلوا بالأدلة الآتية:

        1 - قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .

        وجه الاستدلال من الآية:

        دلت الآية على أن السكران مكلف من وجهين:

        أحدهما: تسميتهم بالمؤمنين ونداؤهم بالإيمان، ولا ينادى به إلا مكلف.

        والوجه الثاني: نهيهم في حال السكر أن يقربوا الصلاة، ولا ينهى إلا مكلف.

        [ ص: 140 ] ونوقش وجه الاستدلال من الآية من وجوه:

        الوجه الأول: بعدم التسليم بأن الخطاب في الآية موجه للسكران حال سكره; لأن من لا عقل له ولا يفهم الخطاب لا يدري عن الشرع ولا غيره، فكيف يؤمر وينهى، بل أدلة الشرع والعقل تنفي أن يخاطب مثل هذا.

        وأجيب: بأن الخطاب إذا لم يكن موجها لسكران حال سكره، فهو موجه له قبل السكر، وهذا يستلزم أن يكون مخاطبا في حال سكره; لأنه لا يقال إذا جننت فلا تفعل كذا، وهذا المعنى فاسد.

        وبذلك تعين أن يكون الخطاب في الآية موجها للسكارى حال سكرهم، فلا يكون السكر منافيا للخطاب.

        ورد هذا الجواب: بأنه مبني على أن معنى الآية: إذا سكرتم فلا تقربوا الصلاة، وهذا المعنى غير صحيح، بل المعنى يكون إذا أردتم الصلاة فلا تسكروا، فهو نهي لهم أن يسكروا سكرا يفوتون به الصلاة، أو نهي لهم عن الشرب قريب الصلاة.

        الوجه الثاني: أنه يحتمل أن الخطاب موجه لمن يدب فيه أوائل النشوة، وأما حال السكر، فلا يخاطب بحال.

        الوجه الثالث: أن تخصيصهم بالخطاب لانفرادهم بالصلاة عن غيرهم من اليهود ونحوهم، فإنهم لا يصلون سكارى ولا صحاة.

        [ ص: 141 ] الوجه الرابع: أن الله وصفهم بالإيمان لكمال حكمته مع عباده، وليس من باب التوبيخ والمحاسبة.

        2 - ما رواه الترمذي من طريق عطاء بن عجلان، عن عكرمة بن خالد المخزومي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه، والمغلوب على عقله".

        وكذا الهبة.

        ونوقش هذا الاستدلال: بضعف الحديث، ولو صح: فالمعنى في كليهما واحد، وهو تغطية العقل.

        3 - أن الصحابة - رضوان الله عليهم - أجمعوا على تكليف السكران; (53 ) قال الإمام مالك: عن ثور بن زيد الديلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي رضي الله عنه: "نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى أن يحد حد المفتري ثمانين".

        [ ص: 142 ] [ ص: 143 ] وجه الاستدلال: أن الزيادة على الأربعين لافترائه في سكره، ولو كان غير مكلف لما أوجبوا عليه حد المفتري، ولا كان مؤاخذا بافترائه، وفي مؤاخذته به دليل على تكليفه، فإذا ثبت أنه مكلف وجب الاعتداد بأقواله وتصحيحها.

        ونوقش هذا الدليل من وجهين: أحدهما: أن هذا الخبر المنسوب لعلي رضي الله عنه لا يصح البتة.

        قال أبو محمد ابن حزم: "هذا خبر مكذوب قد نزه الله عليا، وعبد الرحمن بن عوف عنه; لأنه لا يصح إسناده، ثم عظيم ما فيه من المناقضة; لأن فيه إيجاب الحد على من هذى، والهاذي لا حد عليه".

        الوجه الثاني: أن الزيادة على الأربعين ليست من أجل الافتراء، ولكن لما كان الإقدام على السكر - الذي هو مظنة الافتراء - يلحقه بالإقدام على الافتراء أعطي حكم المفتري; إقامة لمظنة الحكمة مقام الحقيقة; لأن الحكمة هنا خفية مستترة; لأنه قد لا يعلم افتراءه، ولا متى يفتري، ولا على من يفتري، كما أن المضطجع يحدث ولا يدري هل هو أحدث أو لا، فقام النوم مقام الحدث.

        وإذا تبين أن الزيادة ليست لأجل الافتراء فلا يكون السكران مكلفا.

        [ ص: 144 ] 4 - أن في تصحيح هبة السكران وإنفاذ عقوده عقوبة له.

        ونوقش هذا الدليل من وجهين:

        أحدهما: أن كون السكران معاقبا أو غير معاقب ليس له تعلق بصحة عقوده وفسادها; فإن العقود ليست من باب العبادات التي يثاب عليها، ولا الجنايات التي يعاقب عليها، بل هي من التصرفات التي يشترك فيها البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وهي من لوازم وجود الخلق; فإن العهود والوفاء بها لا تتم مصلحة الآدميين إلا بها; لاحتياج بعض الناس إلى بعض في جلب المنافع ودفع المضار، وإنما تصدر عن العقل، فمن لم يكن له عقل ولا تمييز لم يكن قد عاهد ولا حلف ولا باع ولا نكح ولا طلق ولا أعتق.

        والوجه الثاني: أن الحد الشرعي للسكران كاف لعقوبته، ولا يعهد عن الشريعة العقوبة بتصحيح العقود وإنفاذها.

        ثم إن الأمر قد يعود بالنفع للسكران، كما لو اشترى سلعة أثناء سكره، فزاد ثمنها أضعافا مضاعفة بعد العقد.

        ه - أنه لا يعلم زوال عقل السكران إلا بقوله، وهو فاسق مردود الخبر بشربه المسكر، وربما تساكر تصنعا، فلا يقبل قوله في عدم العقل والسكر، ويبقى الحكم على الأصل، وهو صحة هبته ونفاذ العقد.

        [ ص: 145 ] ونوقش هذا الدليل: بأنه يفيد بطلان صيغ السكران في الباطن وصحتها في الظاهر; لأن السكران لما كان فاسقا سقطت دعواه بزوال عقله، فنفذ العقد لصحة الصيغة.

        ثم إن من لازم هذا الدليل التفريق بين العقود التي ينفرد بها السكران، وبين العقود التي لا ينفرد بها; لأن من حضر صدور الصيغة من السكران قد يشهد بسكره وزوال عقله، وأصحاب هذا الدليل لا يقولون بالفرق.

        6 - أن نفاذ هبة السكران من قبيل ربط الأحكام بالأسباب الذي هو خطاب الوضع.

        ونوقش: بأن من لازمه صحة هبة من سكر مكرها أو جاهلا بأن ما شربه خمر، وصحة هبة المجنون والنائم، والمستدل لا يقول بهذا.

        ثم يقال: وهل ثبت أن صدور هبة من السكران سبب حتى يربط الحكم به؟ وهل النزاع إلا في هذا؟.

        7 - أن السكران مؤاخذ بسكره، فوجب أن يكون مؤاخذا بما حدث عن سكره، ومن ذلك صيغه التي يصدرها في البيع والإجارة والطلاق والهبة ونحوها، وهذا مثل سراية الجناية لما كان مؤاخذا بها كان مؤاخذا بسراية الجناية.

        ونوقش هذا الدليل: بأن السكر ليس من فعل السكران، وإنما هو من فعل الله تعالى فيه، فكيف صار منسوبا إليه، ومؤاخذا به؟.

        [ ص: 146 ] وأجيب: بأن السكران هو المتسبب بالسكر; حيث إن الشرب من فعله، فصار ما حدث عنه. وإن كان من فعل الله تعالى - منسوبا إلى فعله، كما أن سراية الجناية لما حدثت عن فعله نسبت إليه، وكان مؤاخذا بها، وإن كان من فعل الله تعالى فيه.

        8 - قياس هبة السكران على سائر جناياته كالقتل والقذف ونحوها، فكما يؤاخذ السكران عليها يؤاخذ على عقد الهبة.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن هذا قياس مع الفارق; لافتقار الأقوال للعقل بخلاف الجنايات فإنها مبنية على الفعل المتسبب في إقامة الحد; لمخاطبته في صحوه بعدم السكر المؤدي إلى الجناية التي لا يعذر بفعلها.

        الوجه الثاني: أن المقيس عليه موضع خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من قال بأن أقواله كأفعاله لا يترتب عليها حكم العمد لفقد القصد.

        9 - القياس على إلزامه الصلاة الواجبة حال سكره، فوجب صحة هبته.

        ونوقش من وجوه:

        الوجه الأول: أن إلزام السكران بقضاء الصلاة الفائتة حال سكره موضع خلاف بين أهل العلم.

        [ ص: 147 ] الوجه الثاني: أن إلزامه بالقضاء حال سكره دليل على عدم صحة صلاته حال سكره; مما يدل على عدم تكليفه، لتغطية عقله.

        الوجه الثالث: أن إلزامه بالقضاء حال سكره لا يلزم منه صحة هبته بدليل النائم يجب عليه قضاء الصلاة، ولا تصح هبته بالإجماع.

        دليل القول الثالث: (صحة هبته مع عدم لزوم العقد ) :

        استدل القائلون بصحة ما يصدره السكران من هبة مع عدم لزوم العقد:

        أن السكران بسكره يقصر تمييزه في معرفته بالمصالح عن السفيه، والسفيه لا يلزمه العقد، فالسكران من باب أولى; لنقصان عقله بالسكر.

        ونوقش هذا الاستدلال: بالفرق بين السكران والسفيه; إذ السفيه عقله باق بخلاف السكران فعقله مغطى عليه.

        ودليل القول الرابع: (صحة هبته، ولا يصح اتهابه ) :

        أنه تصح هبته، ولا يصح اتهابه تغليظا عليه; لتسببه في إزالة عقله بمحرم قصدا.

        ونوقش: بأن العقوبة الشرعية تكفي عقابا وتغليظا على السكران، ولم يعهد عن الشريعة العقاب بهذا الجنس من تصحيح قوله في العقود التي عليه كهبته، وبطلانها في العقود التي له.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - عدم صحة هبة السكران; لقوة أدلته، وموافقتها [ ص: 148 ] لقواعد الشريعة التي تشترط العقل والتمييز لصحة العقود، وترتب آثارها عليها.

        فرع:

        شروط صحة هبة السكران عند القائلين بصحتها:

        يشترط لصحة هبة السكران - عند القائلين بصحتها - توفر الشروط الآتية:

        الشرط الأول: أن يكون غير معذور في سكره، كأن يشرب الخمر ونحوها طائعا مختارا غير مضطر ولا مكره.

        أما إن كان معذورا بسكره كسكر المكره بإكراه ملجئ، وسكر المضطر، وسكر من شرب دواء فسكر به.

        فالسكران في هذه الحالات معذور شرعا لا يقام عليه الحد، ولأجل هذا تلغى جميع أقواله التي نطق بها حال السكر، ولا يترتب عليها أي حكم شرعي فلا تنفذ هبته.

        ويعد السكران في هذه الحالة كالنائم والمغمى عليه في أحكام التصرفات; لقيام عذره، وانتفاء قصده باتفاق الأئمة الأربعة.

        الشرط الثاني: أن يكون السكران مميزا، أي: معه بقية عقل، أما إذا ذهب عقله جملة، فلا يصح منه نطق; لأنه والحالة هذه كالمجنون.

        جاء في مواهب الجليل: "السكران قسمان: سكران لا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة، فلا خلاف أنه كالمجنون في جميع أحواله وأقواله"، وتقدم في أول هذه المسألة بيان ضابط السكران الذي يؤاخذ بسكره.

        [ ص: 149 ] جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي: "الشارب له ثلاثة أحوال:

        أولها: هزة ونشاط يأخذه إذا دبت فيه ولم تستول عليه بعد، ولا يزال العقل في هذه الحالة، فهذا ينفذ طلاقه وتصرفاته; لبقاء عقله.

        الثانية: نهاية السكر، وهو أن يصير طافحا، ويسقط كالمغشي عليه لا يكاد يتكلم ولا يتحرك، فلا ينفذ طلاقه ولا غيره; لأنه لا عقل له.

        الثالثة: حالة متوسطة، وهو أن تختلط أحواله، ولا تنتظم أقواله وأفعاله، ويبقى تمييز وفهم وكلام، فهذه الثالثة سكر، وفيها القولان..".

        الشرط الثالث: أن يكون الشراب المسكر مطربا، وأما السكران بشرب دواء غير مطرب كشارب البنج وما في معناه، فلا تصح هبته حتى ولو قصد بتناوله السكر.

        وهذا الشرط وجه عند الشافعية.

        [ ص: 150 ] وعللوا: بأن الشراب المطرب يدعو النفس إلى تناوله، فغلظ حكمه زجرا عنه بوقوع الطلاق ونحوه، كما غلظ بالحد.

        أما غير المطرب فالنفس منه نافرة، ولذلك لم يغلظ بالحد، فلم يغلظ بوقوع الطلاق ونفاذ العقود كالهبة وغيرها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية