الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 64 ] حجة القول الثاني: (أنه ليس له الرجوع):

        1- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته كالعائد في قيئه".

        ونوقش: بأن هذا عام خص منه الوالد; للأدلة السابقة.

        2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الرجل أحق بهبته ما لم يثب عليها".

        وجه الاستدلال: أن قوله: "ما لم يثب عليها" أي: يعوض، وصلة الرحم عوض معنوي; لأنه سبب التناصر والتعاون في الدنيا، وسبب الثواب في الآخرة، فكان أقوى من المال.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الوجه الأول: أنه ضعيف لا يثبت مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

        الوجه الثاني: أن هذا التأويل ينتقض بهبة الأجنبي؛ فإن فيها أجرا وثوابا، والرجوع جائز عند الحنفية.

        الوجه الثالث: أن هذا النوع من المعاوضة لا نظير له في التبرع حتى تعتبر به، فإن المعروف أن ذوي الأرحام يبيع بعضهم لبعض، ويؤجر بعضهم لبعض، ولم يقل أحد من العلماء: إن لذي الرحم أن يقول لذي رحمه: إن ثمن المبيع الفلاني الذي اشتريت منك عوض عن قرابتك لي، ونحو ذلك، بل لو قال له ذلك لعد شطحا من القول، وبعدا عن جادة الصواب، وعلى قولهم هذا يسلم قول ذلك القائل من الاعتراض. [ ص: 65 ]

        الوجه الرابع: أنه لو صح فيحمل على هبة الثواب المادي لا المعنوي كما زعموا.

        3- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحلبن أحد شاة أحد إلا بإذنه".

        ونوقش: بأنه عام خص منه رجوع الوالد.

        4- قصة عطية أبي بكر لابنته عائشة -رضي الله عنها- حيث قالت: "نحلني أبو بكر -رضي الله عنه- جاد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضره الموت حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا بنية: إن أحب الناس إلي أنت، وأعزهم علي فقرا أنت، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي بالغابة، وإنك لم تكوني قبضتيه، ولا حزتيه، وإنما هو مال الورثة، وإنما هما أخواك وأختاك، قالت: فقلت: فإنما هي أم عبد الله، يعني أسماء، قال: ذو بطن: بنت خارجة، أراها جارية".

        وجه الاستدلال منه: أن أبا بكر -رضي الله عنه- رجع في هبته لعائشة ; لأنها لم [ ص: 66 ] تحزها وتقبضها، ولو قبضتها لما رجع فيها، بدليل قوله: "وإنك لم تكوني قبضتيه ولا حزتيه" ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة، فكان إجماعا على أن الهبة للوالد يفوت فسخها بقبضه لها.

        واعترض على وجه الاستدلال بهذه القصة من وجوه:

        الوجه الأول: أن كون أبي بكر نحلها جذاذ عشرين وسقا لا يخلو ضرورة من واحد من أمرين: أن يكون أراد نخلا تجذ منها عشرين وسقا، وإما أن يكون أراد بها عشرين وسقا مجذوذة، وأي الأمرين كان فهو عدة، والعدة لا تلزم -على القول بلزومها- إلا إذا كانت في معين، وهي هنا ليست في معين من النخل ولا في معين من التمر.

        الوجه الثاني: أن هذه القصة هي من رواية عروة بن الزبير، فقد رواها القاسم بخلاف ما رواها عروة، فقد روى القاسم بن محمد بن أبي بكر -رضي الله عنه- وهو مساو لعروة أن أبا بكر -رضي الله عنه- قال لعائشة -رضي الله عنها-: "إني أخاف أن أكون آثرتك على ولدي، وإنك لم تكوني احتزتيه، فرديه على ولدي، فقالت: أبتاه لو كان لي خبير بجذاذها لرددتها".

        وروى مسروق، وهو أجل من عروة، ومن أخص الناس بأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قال لي أبو بكر حين أحضر: إني قد كنت أبنتك بنحل، فإن شئت أن تأخذي منه قطاعا أو قطاعين، ثم ترديه إلى الميراث، قالت: قد فعلت". [ ص: 67 ]

        ففي أثر مسروق: أنه إنما استرده بإذنها، بل إنه يفهم منه أنها لم ترده كله، وإنما أخذت منه قطاعا أو قطاعين.

        وفي أثر القاسم بن محمد: أنه إنما رده خوف أن يكون آثرها على بقية ولده، لا لكونها لم تقبض.

        وأجيب: بأن ما قاله ابن حزم -رحمه لله تعالى- نظر فيما يبدو لي، والله أعلم; وذلك لأمور:

        الأول: أن عروة مقدم في الرواية عن عائشة -رضي الله عنها- وذلك لأسباب:

        السبب الأول: أنه مكثر عنها.

        السبب الثاني: أنها خالته، والإنسان أعلم بأهل بيته غالبا، وهذه طريقة يسلكها بعض أئمة الحديث وعلله، من ذلك ترجيح البخاري -رحمه الله- لوصل حديث: (لا نكاح إلا بولي) قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وإنما حكم له بالاتصال لمعان أخرى رجحت عنده حكم الموصول".

        ومنها: أن يونس بن أبي إسحاق وابنيه إسرائيل وعيسى رووه عن أبي إسحاق موصولا، ولا شك أن آل الرجل أخص به من غيره.

        الثاني: أن الأئمة جعلوه أخص الناس بعائشة -رضي الله عنها- كما قال سفيان بن عيينة: "كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن".

        قال ابن القيم: "يا لله العجب كيف يكون تغليط أعلم الناس بحديثها؟! وهو عروة". [ ص: 68 ]

        وقال الحافظ ابن حجر عنه: "عروة هو أعلم الناس بحديثها".

        الثالث: أنه تابعه عليه القاسم بن محمد كما تقدم، ومعلوم أن كثرة العدد من المرجحات، وهذا لا يحتاج إلى تدليل.

        الرابع: أن رواية عروة أخرجها الإمام مالك وغيره، بخلاف رواية مسروق التي أخرجها ابن الجهم، ومعلوم ما بينهما من فرق.

        الخامس: أن ابن حزم نفى الخلاف في مسروق، وهذا لا يسلم، وقد تكلم فيه ابن عيينة.

        قال ابن القيم رحمه لله: "وأما تصحيح ابن حزم له، فما أجدره بظاهريته، وعدم التفاته إلى العلل والقرائن التي تمنع ثبوت الحديث بتصحيح مثل هذا الحديث وما دونه في الشذوذ والنكارة! فتصحيحه للأحاديث المعلولة، وإنكاره لنقلتها نظير إنكاره للمعاني والمناسبات والأقيسة; التي يستوي فيها الأصل والفرع".

        الوجه الثالث: أن مقتضى هذا الأثر أن الولد إذا نحله أبوه عطية، فلم يقبضها حتى مرض والده مرض الموت أنها تكون من الميراث، ومفهوم ذلك أنه إذا قبضها لا تكون مال وارث وإنما تكون ملكا له، وليس فيه ما يمنع على الوالد من الرجوع فيما وهبه لولده، ثم إنه لو قيل: بأن مفهومه يمنع ذلك، فإنه لا يعارض صريح قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد لولده".

        التالي السابق


        الخدمات العلمية