الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 232 ] وقوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) : قال ابن عباس ، وعائشة ـ رضي الله عنهما ـ وغيرهما: المراد بذلك: المتعة التي كانت مباحة، ثم نسخت، قال ابن عباس : نسختها: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [الطلاق:1].

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن المسيب : نسخ المتعة آية الميراث، لأن المتعة لا ميراث فيها، وإنما هي أن يقول لها: أتزوجك يوما على أنه لا عدة عليك، ولا ميراث بيننا، ولا طلاق، ولا شهود، ولا ولي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إنما نسخت المتعة بالخبر الثابت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتحريمها.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن عباس أيضا: إن قوله: (فما استمتعتم به منهن) يعني: النكاح، وأن لها الصداق كاملا إذا دخل بها، وبنحوه قال مالك، قال: ويدل عليه قوله: (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن) : هذا هو في المهر [ ص: 233 ] بغير اختلاف، ومن جعل الآية في المتعة; فمعنى (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) عنده: لا جناح عليكم إذا تم الأجل أن تزيده في الأجل، ويزيدها في المتعة قبل أن يستبرئن أرحامهن.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يروى عن ابن عباس في إجازة المتعة غير صحيح وقوله: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) يعني: نكاح الإماء، وهو جائز للحر إذا خشي العنت، كما قال الله تعالى، هذا مذهب مالك ، وغيره من العلماء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النخعي، وقتادة، والثوري : إذا خاف أن يبغي بها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشافعي، وابن حنبل، وغيرهما: لا ينكح أمة وهو يجد طولا إلى حرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشعبي، و مسروق : لا يحل نكاحها إلا لمضطر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز مالك لمن تحته حرة أن ينكح أمة، قال: وتخير الحرة، بعد أن كان يقول: لا يجوز، ويفسخ.

                                                                                                                                                                                                                                      ولم ير ابن المسيب ، والحسن، والشافعي، وغيرهم نكاح الأمة على الحرة قال عطاء: إلا أن تأذن له الحرة، قال: فإن اجتمعتا عنده; فللحرة ثلثا القسمة، [ ص: 234 ] وللأمة الثلث.

                                                                                                                                                                                                                                      وله ـ في قول مالك ، والزهري، وأبي حنيفة، وغيرهم ـ نكاح أربع من الإماء إذا خشي على نفسه العنت، ولم يكفه أقل من أربع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة، والشافعي، وغيرهما: لا ينكح أكثر من واحدة من الإماء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال حماد بن أبي سليمان: لا يتزوج منهن أكثر من اثنتين.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله: (من فتياتكم المؤمنات) : دليل على تحريم تزوج الإماء المشركات، وهو قول أكثر العلماء، وأجازه أبو حنيفة وأصحابه في إماء أهل الكتاب، وجعلوا قوله: (من فتياتكم المؤمنات) على وجه الندب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) معنى (أحصن) في قول أكثر العلماء ههنا: أسلمن; لأن العبودية إنما أوجبها الكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن عباس ، والزهري: أن المعنى: تزوجن.

                                                                                                                                                                                                                                      الزهري : تحد الأمة المتزوجة بالكتاب، وغير المتزوجة بالسنة.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس ، وطاووس: لا تحد إذا لم تتزوج.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (نصف ما على المحصنات) يعني: الحرائر الأبكار، سمين [ ص: 235 ] (محصنات) ; لأن الإحصان يكون بهن، ولا يصح أن يراد بـ (المحصنات) هنا: المتزوجات; لأن الرجم الذي عليهن لا يتبعض.

                                                                                                                                                                                                                                      (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) : قد تقدم القول فيه في (البقرة) .

                                                                                                                                                                                                                                      قال عكرمة، والحسن في هذه الآية: نهى بعضهم عن أكل طعام بعض، ثم نسخ بقوله: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم) الآية [النور: 61].

                                                                                                                                                                                                                                      والتراضي في قول الشافعي، وغيره من العلماء: بيع الخيار ما لم يفترقا ، والتراضي عند مالك ، وأبي حنيفة، وأصحابه: هو التراضي بعقد البيع.

                                                                                                                                                                                                                                      الطبري: في هذه الآية دليل على فساد قول من ينكر طلب الأقوات بالتجارات والصناعات من المتصوفة الجهلة; لأن الله ـ تعالى ـ حرم أكل الأموال بالباطل، وأحلها بالتجارة والصناعة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 236 ] (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) : أعلم الله ـ تعالى ـ أنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن مسعود ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال في الكبائر: "هي أن تدعو لله ندا وقد خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك، وأن تزني بحليلة جارك، وتلا قول الله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [الفرقان: 68].

                                                                                                                                                                                                                                      وعنه صلى الله عليه وسلم : "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وقول الزور، والغلول، والسحر، وأكل الربا، واليمين الغموس) .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن عباس في الكبائر: هي إلى السبعين أقرب، وفي خبر آخر عنه:

                                                                                                                                                                                                                                      هي إلى سبع مئة أقرب.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عمر: هي تسع: قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، والسحر، والإلحاد في البيت.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 237 ] ومن الكبائر عند العلماء: القمار، والسرق، وشرب الخمر، وسب السلف الصالح، وعدول الحكام عن الحق، واتباع الهوى، واليمين الفاجرة، والقنوط من رحمة الله، واستسباب الإنسان لأبويه; بأن يسب رجلا، فيسب ذلك الرجل أبويه، والسعي في الأرض فسادا في الأموال، أو في الدين، والإصرار على الصغائر من الكبائر، وقد بسطت هذا الباب في "الكبير".

                                                                                                                                                                                                                                      والكبائر عند أهل السنة تغفر لمن أقلع عنها قبل الموت، وقد تغفر لمن مات عليها من المسلمين; كما قال الله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 48]، والمراد بذلك: من مات على الذنوب، ولو كان المراد: من تاب قبل الموت; لم يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى; إذ التائب من الشرك قبل الموت أيضا مغفور له.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) [النساء: 93] ونظائره مذكور في مواضعه.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) : قال بعض العلماء: هذا نهي عن الحسد الذي يتمنى الإنسان أن يكون معه ما لأخيه، وأن يزول عن صاحبه [ ص: 238 ] ويصير له، فأما أن يتمنى مثله من غير أن يريد زواله عن صاحبه; فليس بحسد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة: سبب نزول هذه الآية: قول النساء حين جعل الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين: (هلا جعلت أنصباؤنا كأنصباء الرجال) ، وقول الرجال: (إنا لنرجو أن نفضل بحسناتنا على النساء في الآخرة، كما فضلنا في الدنيا في الميراث) .

                                                                                                                                                                                                                                      فمعنى (وللنساء نصيب مما اكتسبن) على هذا: أن المرأة تجزى بالحسنة عشر أمثالها; كالرجل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: قالت أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله; فضل الله الرجال على النساء في الغزو وفي الميراث) ، فنزلت الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: قال النساء: (للرجال نصيبان من الذنوب، كما لهم نصيبان من الميراث) ، فنزلت الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: للرجال نصيب من الأجر، خصوا بذلك; كالغزو، وشبهه، [ ص: 239 ] وللنساء نصيب خصصن به; كحفظها غيب زوجها، وشبهه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية