الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              114 (باب منه)

                                                                                                                              وقال النووي : (باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ "الكفر"، على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق) وهو في الجزء الأول من شرحه لمسلم.

                                                                                                                              [ ص: 524 ] (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 65 - 66 ج 2 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "يا معشر النساء! تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار"

                                                                                                                              فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟!

                                                                                                                              قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن". قالت: يا رسول الله! وما نقصان العقل والدين؟

                                                                                                                              قال: "أما نقصان العقل، فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل. وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان. فهذا نقصان الدين."
                                                                                                                              .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح) (عن عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما، (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "يا معشر النساء! تصدقن") .

                                                                                                                              قال أهل اللغة: " المعشر ": هم الجماعة الذين أمرهم واحد. أي: مشتركون.

                                                                                                                              وهو اسم يتناولهم: كالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر، والنساء معشر، ونحو ذلك. وجمعه: " معاشر ".

                                                                                                                              [ ص: 525 ] فيه: الحث على الصدقة.

                                                                                                                              (وأكثرن الاستغفار) .

                                                                                                                              وفيه: الحث على الاستغفار، من الذنوب الصغيرة والكبيرة. والأمر بالإكثار من ذلك.

                                                                                                                              (فإني رأيتكن أكثر أهل النار)

                                                                                                                              بنصب " أكثر ". إما على أن هذه الرؤية تتعدى إلى مفعولين.

                                                                                                                              وإما على الحال، على مذهب ابن السراج وأبي علي الفارسي وغيرهما، ممن قال إن "أفعل"، لا يتعرف بالإضافة.

                                                                                                                              وقيل: هو بدل من الكاف في: " رأيتكن".

                                                                                                                              (فقالت امرأة منهن جزلة) بفتح الجيم وإسكان الزاي. أي: ذات عقل ورأي.

                                                                                                                              قال ابن دريد : " الجزالة ": العقل والوقار.

                                                                                                                              (وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار ؟) منصوب إما على الحكاية، وإما على الحال.

                                                                                                                              (قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير ") بفتح العين وكسر الشين.

                                                                                                                              وهو في الأصل: " المعاشر " مطلقا. والمراد هنا: " الزوج".

                                                                                                                              ("ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أغلب لذي لب") هو العقل.

                                                                                                                              والمراد: كمال العقل.

                                                                                                                              ("منكن" قالت: يا رسول الله! وما نقصان العقل والدين؟ قال:

                                                                                                                              [ ص: 526 ] "أما نقصان العقل، فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. فهذا نقصان العقل) أي: علامة نقصانه.

                                                                                                                              (وتمكث الليالي ما تصلي) . أي: ليالي وأياما، بسبب الحيض، (وتفطر في رمضان) بسبب الحيض. (فهذا نقصان الدين) .

                                                                                                                              وفي هذا الحديث جمل من العلوم:

                                                                                                                              منها: الحث على الصدقة وأفعال البر، والإكثار من الاستغفار وسائر الطاعات. وهذا ظاهر لا يخفى.

                                                                                                                              وفيه: (أن الحسنات يذهبن السيئات) كما قال عز وجل.

                                                                                                                              وفيه: أن كفران العشير والإحسان، من الكبائر. فإن الوعد بالنار، من علامة كون المعصية كبيرة.

                                                                                                                              وفيه: أن اللعن أيضا، من المعاصي الشديدة القبح. وليس فيه أنه كبيرة، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تكثرن اللعن".

                                                                                                                              قال النووي : والصغيرة إذا كثرت صارت كبيرة. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لعن المؤمن كقتله". انتهى.

                                                                                                                              وأقول: ليس في هذا الحديث، وحديث الباب، ما يدل على كون الصغيرة كبيرة عند الإكثار والتكرار، كما حققناه في موضعه.

                                                                                                                              [ ص: 527 ] وكذلك؛ ليس إكثار الكبيرة وتكرارها بمخفر، كما هو المشهور في أصول العقائد عند المتكلمين.

                                                                                                                              بل الصغيرة صغيرة، والكبيرة كبيرة، وإن تكررت ألف مرار.

                                                                                                                              وهذا من غاية رحمة الله على عباده المؤمنين، وتمام نعمه، وسعة لطفه وكرمه، ونهاية منه وإحسانه علينا، معشر المسلمين.

                                                                                                                              نعم، حديث: "لعن المؤمن كقتله"، له دلالة على كون اللعن كبيرة من الكبائر. وأين هذا من ذاك؟

                                                                                                                              قال النووي : واتفق العلماء على تحريم اللعن ". فإنه في اللغة: "الإبعاد والطرد ". وفي الشرع: " الإبعاد عن رحمة الله ".

                                                                                                                              فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله تعالى، من لا يعرف حاله وخاتمة أمره، معرفة قطعية.

                                                                                                                              فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحد بعينه: مسلما كان أو كافرا، أو دابة، إلا من علمنا بنص شرعي، أنه مات على الكفر، أو يموت عليه، كأبي جهل وإبليس.

                                                                                                                              وأما اللعن بالوصف، فليس بحرام.

                                                                                                                              لعن الواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة، وآكل الربا، ومؤكله، والمصورين، والظالمين، والفاسقين، والكافرين.

                                                                                                                              ولعن من غير منار الأرض، ومن تولى غير مواليه، ومن انتسب إلى غير أبيه، ومن أحدث في الإسلام حدثا، أو آوى "محدثا".

                                                                                                                              [ ص: 528 ] وغير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية، بإطلاقه: على الأوصاف إلا على الأعيان. والله أعلم.

                                                                                                                              وفيه: إطلاق الكفر، على غير الكفر بالله تعالى: كفر العشير، والإحسان، والنعمة، والحق.

                                                                                                                              ويؤخذ من ذلك: صحة تأويل الكفر، في الأحاديث المتقدمة في الكتاب.

                                                                                                                              وفيه: زيادة الإيمان ونقصانه.

                                                                                                                              وفيه: وعظ الإمام، وأصحاب الولايات، وكبراء الناس: "رعاياهم".

                                                                                                                              وتحذيرهم المخالفات. وتحريضهم على الطاعات.

                                                                                                                              وفيه: بيان مراجعة المتعلم العالم، والتابع المتبوع، فيما قاله. إذا لم يظهر له معناه، كمراجعة هذه الجزلة "رضي الله عنها": رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              وفيه: جواز إطلاق: "رمضان". من غير إضافة إلى الشهر. وإن كان الاختبار: إضافته.

                                                                                                                              قال المازري: في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " شهادة امرأتين، تغير شهادة رجل": تنبيه منه صلى الله عليه وآله وسلم على ما وراءه) .

                                                                                                                              وهو ما نبه الله تعالى عليه في كتابه، بقوله تعالى: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى أي: إنهن قليلات الضبط.

                                                                                                                              [ ص: 529 ] قال: وقد اختلف الناس في "العقل "، ما هو ؟

                                                                                                                              فقيل: هو العلم. وقيل: بعض العلوم الضرورية. وقيل: قوة يتميز بها بين حقائق المعلومات. هذا كلامه.

                                                                                                                              قال النووي : والاختلاف في حقيقة العقل، وأقسامه كثير معروف، ولا حاجة بنا إلى الإطالة به.

                                                                                                                              واختلفوا في " محله "؛ فقال أصحابنا المتكلمون: هو في القلب.

                                                                                                                              وقال بعض العلماء: هو في الرأس.

                                                                                                                              وأما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم النساء: بنقصان الدين، لتركهن الصلاة والصوم في زمن الحيض، فقد يستشكل معناه.

                                                                                                                              وليس بمشكل، بل هو ظاهر. فإن الدين، والإيمان، والإسلام: ألفاظ مشتركة في معنى واحد. وإن الطاعات تسمى: إيمانا ودينا.

                                                                                                                              وإذا ثبت هذا، علمنا أن من كثرت عبادته، زاد إيمانه ودينه. ومن نقصت عبادته، نقص دينه.

                                                                                                                              ثم نقص الدين، قد يكون على وجه يأثم به: كمن ترك الصلاة، أو الصوم، أو غيرهما من العبادات الواجبة عليه، بلا عذر.

                                                                                                                              وقد يكون على وجه لا إثم فيه: كمن ترك الجمعة، أو الغزو، أو غير ذلك "مما لا يجب عليه" لعذر.

                                                                                                                              وقد يكون على وجه هو مكلف به: ترك الحائض الصلاة والصوم.

                                                                                                                              [ ص: 530 ] فإن قيل: فإن كانت معذورة: فهل تثاب على الصلاة في زمن الحيض، وإن كانت لا تقضيها ؟ كما يثاب المريض والمسافر، ويكتب له في مرضه وسفره: مثل نوافل الصلوات، التي كان يفعلها في صحته وحضره.

                                                                                                                              فالجواب: أن ظاهر هذا الحديث: أنها لا تثاب.

                                                                                                                              والفرق: أن المريض والمسافر، كان يفعلها بنية الدوام عليها، مع أهليته لها.

                                                                                                                              والحائض ليست كذلك. بل نيتها: ترك الصلاة في زمن الحيض، بل يحرم عليها نية الصلاة في زمن الحيض.

                                                                                                                              فنظيرها: مسافر أو مريض، كان يصلي النافلة في وقت، ويترك في وقت، غير ناو الدوام عليها.

                                                                                                                              فهذا؛ لا يكتب له في سفره ومرضه، في الزمن الذي لم يكن يتنفل فيه. انتهى كلام النووي .




                                                                                                                              الخدمات العلمية