الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2170 باب ما يلزم من أحرم بالحج، ثم قدم مكة : من الطواف والسعي

                                                                                                                              وقال النووي : ( باب استحباب طواف القدوم للحاج، والسعي بعده).

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 217 ج8 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن وبرة، قال: كنت جالسا عند ابن عمر، فجاءه رجل فقال: أيصلح لي: أن أطوف بالبيت، قبل أن آتي الموقف؟

                                                                                                                              فقال: نعم. فقال: فإن (ابن عباس) يقول: لا تطف بالبيت، حتى تأتي الموقف. فقال ابن عمر: فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم: فطاف بالبيت، قبل أن يأتي الموقف. فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحق أن تأخذ، أو بقول ابن عباس، إن كنت صادقا؟].

                                                                                                                              [ ص: 405 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 405 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن وبرة) بفتح الباء، يعني: ابن عبد الرحمن. (قال: كنت جالسا عند ابن عمر ، فجاءه رجل فقال: أيصلح لي: أن أطوف بالبيت؛ قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن " ابن عباس ، يقول: لا تطف بالبيت، حتى تأتي الموقف. فقال ابن عمر : فقد حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: فطاف بالبيت ، قبل أن يأتي الموقف) .

                                                                                                                              هذا الذي قاله ( ابن عمر ) ، هو إثبات طواف القدوم للحاج .

                                                                                                                              قال النووي : وهو مشروع، قبل الوقوف بعرفات . وبهذا، قال العلماء كافة. سوى ابن عباس .

                                                                                                                              وكلهم يقولون: إنه سنة، ليس بواجب. إلا بعض أصحابنا، ومن وافقه، فيقولون: واجب، يجبر تركه بالدم. والمشهور: أنه: (سنة) ، ولا دم في تركه.

                                                                                                                              فإن وقف بعرفات قبل طواف القدوم : فات.

                                                                                                                              فإن طاف بعد ذلك، بنية طواف القدوم: لم يقع عن طواف القدوم. بل يقع: (عن طواف الإفاضة) ، إن لم يكن طاف للإفاضة. فإن كان طاف للإفاضة: وقع الثاني تطوعا، لا عن القدوم.

                                                                                                                              قال: ولطواف القدوم أسماء: طواف القدوم، والقادم، والورود. والوارد. والتحية.

                                                                                                                              [ ص: 406 ] وليس في العمرة: طواف قدوم. بل الطواف الذي يفعله فيها: يقع ركنا لها. حتى لو نوى به طواف القدوم: وقع ركنا ولغت نيته. كما لو كان عليه: حجة واجبة، فنوى حج تطوع، فإنها: تقع واجبة.

                                                                                                                              هذا آخر كلام النووي (رحمه الله). وأقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم -، عرف الناس: مناسك حجهم، الذي أمر الله سبحانه، في كتابه العزيز بقوله: ولله على الناس حج البيت . وقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" .

                                                                                                                              فكل ما فعله -صلى الله عليه وسلم -، فهو واجب بالقرآن والسنة. وليست المناسك، إلا هذه المأخوذة: من فعله -صلى الله عليه وسلم -. ولم يعلم الناس بها، إلا منه -صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                              وإذا تقرر لك هذا، فقد ثبت ثبوتا متواترا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم -، طاف (في حجته، التي علم الناس فيها كيف يحجون): طواف القدوم. فدل ذلك على: أنه منسك واجب، لمن كان حجه مثل حجته -صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                              والقائل بعدم الوجوب، عليه: الدليل، الموجب لتخصيص ما قدمنا، من القرآن والسنة: المبينين بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                              و كان طوافه -صلى الله عليه وسلم -، داخل المسجد، خارج الحجر. وهذا يكفي، في الاستدلال على هذه الصفة، مع ما يفيده: ما صح عنه -صلى الله عليه وسلم -، من الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما: أنه قال: "الحجر من البيت" .

                                                                                                                              [ ص: 407 ] قال (في شرح المنتقى): اعلم أنه: قد اختلف في وجوب طواف القدوم؛ فذهب مالك ، وأبو ثور ، وبعض أصحاب الشافعي : إلى أنه فرض. لقوله تعالى: وليطوفوا بالبيت العتيق "). ولفعله -صلى الله عليه وسلم -. ولقوله: "خذوا عني مناسككم" .

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : إنه سنة. وقال الشافعي : هو كتحية المسجد.

                                                                                                                              قالا: لأنه: ليس فيه إلا فعله -صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يدل على الوجوب.

                                                                                                                              وأما الاستدلال على الوجوب بالآية، فقال شارح البحر: إنها لا تدل على طواف القدوم. لأنها في طواف الزيارة، إجماعا.

                                                                                                                              قال: والحق: الوجوب. لأن فعله -صلى الله عليه وسلم -، مبين لمجمل واجب. وهو قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت "). وقوله -صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" . وقوله: "حجوا كما رأيتموني أحج" .

                                                                                                                              وهذا الدليل، يستلزم: وجوب كل فعل فعله -صلى الله عليه وسلم -، في حجه. إلا ما خصه دليل. فمن ادعى: عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج: فعليه الدليل على ذلك.

                                                                                                                              قال: وهذه كلية، فعليك ملاحظتها في جميع الأبحاث، التي ستمر بك. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 408 ] (فبقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، أحق أن تأخذ، أو بقول ابن عباس، إن كنت صادقا؟) .

                                                                                                                              قال النووي : معناه؛ إن كنت صادقا، في إسلامك واتباعك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فلا تعدل: عن فعله وطريقته: إلى قول ابن عباس وغيره. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وفيه: دليل، على تقديم السنة على التقليد . وهكذا، كان صنيع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فيما روينا عنهم.

                                                                                                                              ولا شك: أن اتباع السنة المطهرة، هو العدل: الذي قامت به السماوات والأرض. ولكن طالما ذهبت تلك السنن، وحدثت مكانها البدع والفتن، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا.

                                                                                                                              وفي رواية أخرى بلفظ: (سأل رجل: ابن عمر (رضي الله عنهما): أطوف بالبيت، وقد أحرمت بالحج؟ فقال: وما يمنعك؟ قال: إني رأيت ابن فلان يكرهه، وأنت أحب إلينا منه. رأيناه: قد فتنته الدنيا. فقال: وأينا (أو أيكم) لم تفتنه الدنيا؟ ثم قال: رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة . فسنة الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم -: أحق أن تتبع، من سنة فلان، إن كنت صادقا) .

                                                                                                                              [ ص: 409 ] وإنما قال: فتنته الدنيا. لأنه: تولى البصرة . والولايات محل الخطر والفتنة. وأما ابن عمر ، فلم يتول شيئا.

                                                                                                                              وأما قوله: (وأينا لم تفتنه الدنيا؟). فهذا من زهده، وتواضعه، وإنصافه.

                                                                                                                              ولعل ( ابن عباس ) رضي الله عنهما، لم يبلغه فعل النبي -صلى الله عليه وسلم -، أو نسي، أو سها: فكره ذلك.

                                                                                                                              وإلا، فهو أعلم الصحابة، وحبر الأمة، وترجمان القرآن.

                                                                                                                              وفي هذا دليل: على تطرق الخطأ والنسيان، إلى نوع الإنسان.

                                                                                                                              وفي قول ابن عمر : (فسنة الله إلخ) ، حجة واضحة: على وجوب اتباع السنة، وترك الرأي من أي امرئ كان، وأينما كان، وفيما كان، من أمور الدين والإيمان، فضلا عمن لم تكن له في علم الكتاب والحديث يدان. وبالله التوفيق. وهو المستعان. وعليه التكلان.




                                                                                                                              الخدمات العلمية