الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              231 [ ص: 278 ] (باب ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي)

                                                                                                                              ولفظ النووي (باب بدء الوحي إلى رسول الله).

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 197 - 204 ج2 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: أقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، ثم قال [ ص: 279 ] لخديجة أي خديجة ما لي؟ وأخبرها الخبر، قال: لقد خشيت على نفسي، قالت له خديجة: كلا؛ أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق؛ فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة أي عم اسمع من ابن أخيك، قال ورقة بن نوفل: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رآه، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم، يا ليتني فيها جذعا يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟! قال ورقة نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها قالت:

                                                                                                                              هذا الحديث، من مراسيل الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن عائشة لم تدرك هذه القضية، فتكون قد سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابي.

                                                                                                                              وقد تقرر أن مرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء. إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني.

                                                                                                                              [ ص: 280 ] "كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي" "من لبيان الجنس، أو للتبعيض، ذكرهما القاضي "الرؤيا الصادقة". وعند

                                                                                                                              البخاري:

                                                                                                                              "الرؤيا الصالحة" وهما بمعنى واحد "في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" بفتح الفاء واللام. وكذا "فرق الصبح": هو ضياؤه.

                                                                                                                              وإنما يقال: هذا في الشيء الواضح المبين.

                                                                                                                              قال عياض وغيره من أهل العلم: إنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم "بالرؤيا"؛ لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة، فلا يحتملها قوى البشرية، فبدئ بأول خصال النبوة وتباشير الرسالة، وطلائع الكرامة، من صدق الرؤيا. وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضوء، وسماع الصوت؛ وسلام الحجر، والشجر، عليه بالنبوة.

                                                                                                                              "ثم حبب إليه الخلاء" بالمد. وهو "الخلوة"، وهي شأن الصالحين، وعباد الله العارفين.

                                                                                                                              قال الخطابي: حبب إليه صلى الله عليه وسلم العزلة؛ لأن معها فراغ القلب؛ وهي معينة على التفكير، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشع قلبه، والله أعلم.

                                                                                                                              "فكان يخلو بغار حراء" ؛ "الغار": الكهف، والنقب في الجبل، وجمعه "غيران" والمغار، والمغارة. معنى "الغار" وتصغير الغار "غوير".

                                                                                                                              "وحراء" بكسر الحاء، وتخفيف الراء وبالمد. مصروف ومذكر. هذا هو الصحيح.

                                                                                                                              [ ص: 281 ] وقال عياض فيه "لغتان" التذكير والتأنيث، والتذكير أكثر. فمن ذكره صرفه ومن أنثه لم يصرفه.

                                                                                                                              أراد "البقعة، أو الجهة"، التي فيها الجبل.

                                                                                                                              وقال بعضهم: "حرى" بفتح الحاء، والقصر. وهذا ليس بشيء.

                                                                                                                              قال "أبو عمر" الزاهد، صاحب ثعلب، والخطابي، وغيرهما: أصحاب الحديث، والعوام، يخطئون في "حراء" في ثلاثة مواضع؛ "يفتحون الحاء" وهي مكسورة "ويكسرون الراء" وهي مفتوحة. ويقصرون الألف وهي ممدودة.

                                                                                                                              "وحراء" جبل، بينه وبين مكة ثلاثة أميال، عن يسار الذاهب من مكة إلى منى، والله أعلم.

                                                                                                                              (يتحنث فيه "وهو التعبد") وهو تفسير صحيح، اعترض بين كلام عائشة.

                                                                                                                              وأما كلامها "فيتحنث فيه إلخ"؛ وأصل "الحنث" الإثم. أي يتجنب الحنث، فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث؛ ومثل يتحنث "يتحرج"، "ويتأثم"، أي: يجتنب الحرج والإثم.

                                                                                                                              "الليالي أولات العدد" متعلق بـ "يتحنث"، لا بالتعبد. فإن "التحنث" لا يشترط فيه الليالي؛ بل يطلق على القليل والكثير.

                                                                                                                              [ ص: 282 ] "قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة " رضي الله عنها "فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق" ، أي: جاءه الوحي بغتة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعا للوحي.

                                                                                                                              يقال: "فجئه"، بكسر الجيم وبعدها همزة مفتوحة. ويقال "فجأه" بفتح الجيم والهمزة "لغتان مشهورتان" حكاهما الجوهري وغيره.

                                                                                                                              "وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: "ما أنا بقارئ" ؛ أي: لا أحسن القراءة "فما" نافية. هذا هو الصواب.

                                                                                                                              ومنهم من جعلها استفهامية، قال عياض: ويصححه رواية من روى: "ما أقرأ؟"، ويصح أن تكون "ما" في هذه الرواية أيضا نافية.

                                                                                                                              (قال: "فأخذني فغطني) أي: عصرني، وضمني؛ يقال: غطه وغته وضغطه، وعصره، وخنقه، وغمزه، كله بمعنى واحد "حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني".

                                                                                                                              يجوز في "الجهد" فتح الجيم وضمها "لغتان". وهو الغاية، والمشقة، ويجوز نصب الدال، ورفعها.

                                                                                                                              فعلى النصب: "بلغ جبريل مني الجهد". وعلى الرفع: "بلغ الجهد مني مبلغه وغايته" ذكره صاحب "التحرير". ومعنى "أرسلني" أطلقني.

                                                                                                                              والحكمة في "الغط" شغله من الالتفات، والمبالغة في أمره، بإحضار قلبه؛ لما يقوله له.

                                                                                                                              [ ص: 283 ] (فقال: اقرأ. قال: "قلت: ما أنا بقارئ" "قال:" "فأخذني فغطني "الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت. ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني "الثالثة" حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني" كرره "ثلاثا" مبالغة في التنبيه.

                                                                                                                              "وفيه"، أنه ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم، وأمره بإحضار قلبه، والله أعلم.

                                                                                                                              (فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) .

                                                                                                                              هذا دليل صريح؛ في أن أول ما نزل من القرآن "اقرأ" وهو الصواب. وهذا هو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وقيل أوله: "يا أيها المدثر" وليس بشيء؛ واستدل بهذا بعض من يقول: إن البسملة ليست من القرآن، في أوائل السور؛ لكونها لم تذكر هنا.

                                                                                                                              والجواب: أنها لم تنزل أولا، بل نزلت في وقت آخر، كما نزل باقي السورة في وقت آخر.

                                                                                                                              "فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره" ، بفتح الباء الموحدة. أي: ترعد وتضطرب. وأصله "شدة الحركة".

                                                                                                                              [ ص: 284 ] قال أبو عبيد، وسائر أهل اللغة والغريب: "بوادر" هي اللحمة التي بين المنكب والعنق؛ تضطرب عند فزع الإنسان.

                                                                                                                              (حتى دخل على خديجة: فقال: زملوني زملوني) أي: غطوني بالثياب، ولفوني بها. هكذا هو مكرر مرتين. "فزملوه حتى ذهب عنه الروع" ، بفتح الراء. وهو "الفزع".

                                                                                                                              "ثم قال لخديجة: أي خديجة! ما لي؟! وأخبرها الخبر. قال: لقد خشيت على نفسي.

                                                                                                                              قال عياض: ليس هو معنى الشك فيما أتاه من الله تعالى، لكنه ربما خشي أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يقدر على حمل أعباء الوحي، فتزهق نفسه، أو يكون هذا لأول ما رأى التباشير في النوم واليقظة، وسمع الصوت قبل لقاء الملك، وتحققه رسالة ربه؛ فيكون خاف أن يكون من الشيطان الرجيم.

                                                                                                                              فأما منذ جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى فلا يجوز عليه الشك فيه، ولا يخشى من تسلط الشيطان عليه. وعلى هذا الطريق يحمل جميع ما ورد من مثل هذا في حديث البعث.

                                                                                                                              هذا كلام القاضي في "شرح مسلم".

                                                                                                                              وذكر أيضا في كتابه "الشفاء" هذين الاحتمالين في كلام مبسوط. وهذا الاحتمال الثاني ضعيف؛ لأنه خلاف تصريح الحديث؛ لأن هذا كان بعد "غط" الملك. وإتيانه.

                                                                                                                              اقرأ باسم ربك الذي خلق . والله أعلم.

                                                                                                                              [ ص: 285 ] (قالت له خديجة: كلا أبشر؛ فوالله! لا يخزيك الله أبدا) بضم الياء، وبالخاء المعجمة. وفي رواية "يحزنك" بالحاء والنون.

                                                                                                                              ويجوز فتح الباء في أوله وضمها، وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              (والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل) بفتح الكاف. وأصله الثقل، ومنه قوله تعالى وهو كل على مولاه (وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) "كلا" هنا: كلمة نفي وإبعاد، وهذا أحد معانيها. وقد تأتي بمعنى (حقا)، ومعنى "ألا" التي للتنبيه، يستفتح بها الكلام.

                                                                                                                              وقد جاءت في الكتاب العزيز على أقسام: وقد جمع الإمام "أبو بكر ابن الأنباري" أقسامها، ومواضعها في باب من كتابه "الوقف والابتداء" والخزي؛ الفضيحة والهوان.

                                                                                                                              "وصلة الرحم"، هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول؛ فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة، والسلام، وغير ذلك.

                                                                                                                              ويدخل في "الكل": الإنفاق على الضعيف، واليتيم، والعيال، وغير ذلك، وهو من "الكلال"، وهو الإعياء.

                                                                                                                              [ ص: 286 ] والصحيح المشهور "تكسب" بفتح التاء. ورواه بعضهم "بضمها" يقال: كسبت الرجل مالا، وأكسبته مالا، "لغتان": أفصحهما باتفاقهم "كسبته" بحذف الألف.

                                                                                                                              ومعناه: على الرفع؛ تكسب غيرك المال المعدوم. أي تعطيه إياه تبرعا. وقيل معناه: تعطي الناس مالا يجدونه عند غيرك، من نفائس الفوائد، ومكارم الأخلاق.

                                                                                                                              ومعناه على النصب؛ كمعنى الضم. وقيل معناه: تكسب المال المعدوم، وتصيب منه، ما يعجز غيرك عن تحصيله. وكانت العرب تتمادح بكسب المال المعدوم، لا سيما قريش؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم محظوظا في تجارته؛ وهذا القول حكاه عياض، عن ثابت، صاحب "الدلائل"؛ وهو ضعيف أو غلط.

                                                                                                                              وأي معنى لهذا القول في هذا الموطن، إلا أنه يمكن تصحيحه، بأن يضم إليه زيادة، فيكون معناه: تكسب المال العظيم، الذي يعجز عنه غيرك، ثم تجود به في وجوه الخير، وأبواب المكارم، كما ذكرت من حمل الكل، وصلة الرحم، وقرى الضيف، والإعانة في نوائب الحق. فهذا هو الصواب في هذا الحرف.

                                                                                                                              وأما صاحب التحرير، فجعل المعدوم، عبارة عن الرجل المحتاج، المعدم، العاجز عن الكسب، وسماه "معدوما"، لكونه كالمعدوم الميت.

                                                                                                                              حيث لم يتصرف في المعيشة تصرف غيره. قال: وذكر الخطابي أن [ ص: 287 ] صوابه "المعدم"، وليس كما قال الخطابي: بل ما رواه الرواة صواب.

                                                                                                                              وقيل: معناه: تسعى في طلب عاجز تنعشه، "والكسب" هو الاستفادة.

                                                                                                                              قال النووي: وهذا الذي قاله صاحب التحرير، وإن كان له بعض الاتجاه؛ فالصحيح المختار ما قدمته. والله أعلم.

                                                                                                                              "وتقري" بفتح التاء. يقال: "قريت" الضيف؛ "أقريه" قرى بكسر القاف، مقصور "وقراء" بفتح القاف والمد. ويقال للطعام الذي يضيفه به "قرى". ويقال لفاعله "قار" مثل قضى فهو "قاض"، "والنوائب" جمع "نائبة"، وهي الحادثة، وقد تكون في الشر، وقد تكون في الخير، وقد تكون في الشر، قال لبيد:


                                                                                                                              نوائب من خير وشر كلاهما فلا الخير ممدود ولا الشر لازب

                                                                                                                              ولهذا قالت "نوائب الحق". ومعناها: إنك لا يصيبك مكروه، لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق، وكرم الشمائل.

                                                                                                                              وذكرت "ضروبا"، من ذلك، وفي هذا دلالة على أن مكارم الأخلاق، وخصال الخير، سبب السلامة من مصارع السوء.

                                                                                                                              "وفيه" مدح الإنسان في وجهه، في بعض الأحوال لمصلحة تطرأ.

                                                                                                                              "وفيه" تأنيس من حصلت له مخافة من أمر، وتبشيره، وذكر أسباب السلامة.

                                                                                                                              "وفيه" أعظم دليل، وأبلغ حجة، على كمال عقل "خديجة" رضي [ ص: 288 ] الله عنها، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها، والله أعلم.

                                                                                                                              (فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهو ابن عم خديجة؛ "أخي أبيها"، وكان امرءا تنصر في الجاهلية. أي: صار نصرانيا "والجاهلية" ما قبل رسالته صلى الله عليه وسلم، سموا بذلك، لما كانوا عليه من فاحش الجهالة، والله أعلم.

                                                                                                                              وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب.

                                                                                                                              وفي صحيح البخاري (يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية)

                                                                                                                              قال النووي: وكلاهما صحيح: وحاصله: أنه تمكن من معرفة دين النصارى؛ بحيث إنه صار يتصرف في الإنجيل؛ فيكتب أي موضع شاء منه بالعبرانية إن شاء، وبالعربية إن شاء، والله أعلم.

                                                                                                                              "وكان شيخا كبيرا، قد عمي" وذهب بصره لكبر السن، وطول العمر.

                                                                                                                              "فقالت له خديجة: أي عم! اسمع من ابن أخيك، وفي رواية: "أي ابن عم ! وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              أما الثاني؛ فلأنه ابن عمها حقيقة.

                                                                                                                              وأما الأول فمجازا للاحترام، وهذه عادة العرب في آداب خطابهم.

                                                                                                                              [ ص: 289 ] يخاطب الصغير الكبير بـ "يا عم" احتراما له. ورفعا لمرتبته. ولا يحصل هذا الغرض بقولها "يا ابن عم!" والله أعلم.

                                                                                                                              "وقال ورقة بن نوفل: يا ابن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما "رآه"، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              "الناموس" بالنون والسين. هو جبريل عليه السلام.

                                                                                                                              قال أهل اللغة وغريب الحديث: "الناموس" في اللغة "صاحب سر الخير، "والجاسوس" "صاحب سر الشر".

                                                                                                                              ويقال: "نمست السر" بفتح النون والميم "أنمسه"، بكسر الميم نمسا.

                                                                                                                              أي: "كتمته"، "ونمست الرجل" ونامسته. "ساررته".

                                                                                                                              واتفقوا على أن جبريل عليه السلام يسمى "الناموس". واتفقوا على أنه المراد هنا.

                                                                                                                              قال الهروي: سمي بذلك؛ لأنه تعالى خصه بالغيب والوحي. وفي غير الصحيح "نزل على عيسى" وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              "يا ليتني فيها جذعا" ، الضمير: في "فيها" يعود إلى أيام النبوة، ومدتها، "وجعة" يعني "شابا، قويا"، حتى أبالغ في نصرتك..

                                                                                                                              [ ص: 290 ] "والجذع" في الأصل للدواب؛ وهو ههنا استعارة.

                                                                                                                              وفي رواية "جذع" بالرفع. وهذه الرواية ظاهرة. قال عياض: الظاهر عندي "النصب"، قال النووي: وهذا هو الصحيح الذي اختاره أهل التحقيق والمعرفة، من شيوخنا وغيرهم. ممن يعتمد عليه، والله أعلم.

                                                                                                                              قلت: وهو الرواية المشهورة في الصحيحين وغيرهما.

                                                                                                                              "يا ليتني أكون حيا، حين يخرجك قومك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟ بفتح الواو وتشديد الياء. نحو قوله تعالى: بمصرخي ويجوز تخفيف الياء على وجه. والأول هو الصحيح المشهور، وهو جمع "مخرج".

                                                                                                                              "قال ورقة: نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك". أي: وقت خروجك "أنصرك نصرا مؤزرا" بفتح الزاي وبهمزة. أي "قويا بالغا".




                                                                                                                              الخدمات العلمية