الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3076 [ ص: 137 ] باب الوصية بالثلث لا يجاوز

                                                                                                                              وأورده النووي: (في كتاب الوصية ) .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص76-79 ج11 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله! بلغني ما ترى من الوجع. وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة.

                                                                                                                              أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال: "لا" قال: قلت: أفأتصدق بشطره ؟ قال: "لا. الثلث. والثلث كثير. إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك" قال: قلت يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي ؟ قال: "إنك لن تخلف، فتعمل عملا تبتغي به وجه الله، إلا ازددت به درجة ورفعة. ولعلك تخلف حتى ينفع بك أقوام، ويضر بك آخرون. اللهم! أمض لأصحابي هجرتهم. ولا تردهم على أعقابهم. لكن البائس: سعد بن خولة".

                                                                                                                              قال رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أن توفي بمكة
                                                                                                                              ]. [ ص: 138 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 138 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن سعد بن أبي وقاص ) رضي الله عنه، (قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في حجة الوداع من وجع ) .

                                                                                                                              قال إبراهيم الحربي: "الوجع" اسم لكل مرض. وفيه: جواز ذكر المريض ما يجده، لغرض صحيح، من مداواة، أو دعاء صالح، أو وصية، أو استفتاء عن حاله، ونحو ذلك. وإنما يكره من ذلك: ما كان على سبيل التسخط ونحوه، فإنه قادح في أجر مرضه.

                                                                                                                              (أشفيت منه على الموت ) أي: قاربته، وأشرفت عليه. يقال: أشفى عليه، وأشاف. قاله الهروي.

                                                                                                                              وقال ابن قتيبة: لا يقال: "أشفى": إلا في الشر.

                                                                                                                              وفيه: استحباب عيادة المريض؛ للإمام، كاستحبابها لآحاد الناس.

                                                                                                                              (فقلت يا رسول الله! بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ) .

                                                                                                                              فيه: دليل على إباحة جمع المال، لأن هذه الصيغة لا تستعمل في العرف، إلا لمال كثير.

                                                                                                                              (ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة. أفأتصدق بثلثي مالي ؟ ) .

                                                                                                                              يحتمل: أنه أراد بالصدقة: الوصية.

                                                                                                                              [ ص: 139 ] ويحتمل: أنه أراد: الصدقة المنجزة. وهما عند العلماء كافة سواء، لا ينفذ ما زاد على الثلث، إلا برضا الوارث.

                                                                                                                              وخالف أهل الظاهر، فقالوا: للمريض مرض الموت: أن يتصدق بكل ماله ويتبرع به، كالصحيح.

                                                                                                                              ودليل الجمهور: ظاهر هذا الحديث، مع حديث: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعتق اثنين، وأرق أربعة أعبد" .

                                                                                                                              (قال: "لا". قال: قلت: أفأتصدق بشطره ؟ قال: "لا. الثلث. والثلث كثير" ) بالثاء المثلثة. وفي بعضها: بالموحدة. قال النووي: وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              قال الحافظ: والمحفوظ في أكثر الروايات: بالمثلثة. انتهى.

                                                                                                                              قال عياض: ويجوز نصب الثلث الأول ورفعه.

                                                                                                                              [ ص: 140 ] قالت الشافعية: إن كانت الورثة أغنياء؛ استحب أن يوصي بالثلث تبرعا. وإن كانوا فقراء، استحب أن ينقص من الثلث.

                                                                                                                              قال النووي: وأجمع العلماء في هذه الأعصار، على أن من له وارث: لا تنفذ وصيته بزيادة على الثلث، إلا بإجازته. وأجمعوا على نفوذها بإجازته، في جميع المال. وأما من لا وارث له: فمذهب الشافعية، ومذهب الجمهور: أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث. وجوزه أبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق، وأحمد في رواية عنه. وروي عن علي، وابن مسعود.

                                                                                                                              (إنك أن تذر ) بفتح "أن" على التعليل، وبكسرها على الشرطية: قال النووي: هما صحيحان.

                                                                                                                              وقال القرطبي: لا معنى للشرط ههنا، لأنه يصير لا جواب له، ويبقى "خير"، لا رافع له.

                                                                                                                              وقال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر. وأنكره ابن الخشاب وقال: لا يجوز الكسر، لأنه لا جواب له، لخلو لفظ "خير" عن الفاء وغيرها، مما اشترط في الجواب. وتعقب بأنه: لا مانع من تقديرها. كما قال ابن مالك.

                                                                                                                              (ورثتك أغنياء ) .

                                                                                                                              وإنما أجاب "صلى الله عليه وآله وسلم" بكلام كلي، مطابق لكل وارث؛ ولم يخص بنتا من غيرها - مع أنه لم يكن لسعد يومئذ، إلا ابنة واحدة.

                                                                                                                              [ ص: 141 ] لقوله: لا يرثي إلا ابنة.. إلخ - إذ من الجائز أن تموت هي قبله، ويرثه وارث آخر.

                                                                                                                              وقيل: إنما عبر بالورثة، لأنه اطلع على أن سعدا سيعيش، ويحصل له أولاد غير البنت المذكورة، فإنه ولد له بعد ذلك: أربعة بنين.

                                                                                                                              قال الحافظ: قد كان لسعد وقت الوصية: ورثة غير ابنته، وهم أولاد أخيه. انتهى. فعلى هذا، معنى قول سعد: لا يرثني إلا ابنة لي واحدة. أي: لا يرثني من الولد، أو من خواص الورثة، أو من أصحاب الفروض: إلا ابنة.

                                                                                                                              (خير من أن تذرهم عالة، يتكففون الناس ) .

                                                                                                                              "العالة": الفقراء. والتكفف: سؤال الناس في أكفهم.

                                                                                                                              وفيه: حث على صلة الأرحام، والإحسان إلى الأقارب، والشفقة على الورثة. وأن صلة القريب والإحسان إليه: أفضل من الأبعد.

                                                                                                                              وفيه: مراعاة العدل بين الورثة، والوصية. واستدل به بعضهم: على ترجيح الغني على الفقير.

                                                                                                                              قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث: تقييد مطلق القرآن بالسنة، لأنه سبحانه قال: من بعد وصية يوصي بها أو دين . فأطلق، وقيدت السنة الوصية بالثلث.

                                                                                                                              [ ص: 142 ] قال في الفتح: وفيه: أن خطاب الشارع للواحد، يعم من كان بصفته من المكلفين لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد، وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الإفراد.

                                                                                                                              وفي حديث أبي الدرداء، وما ورد في معناه: دليل على أن الإذن لنا بالتصرف في ثلث أموالنا، في أواخر أعمارنا: من الألطاف الإلهية بنا، والتكثير لأعمالنا الصالحة. وهو من الأدلة الدالة على اشتراط القربة في الوصية. والله أعلم.

                                                                                                                              (ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى، إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك ) .

                                                                                                                              فيه : استحباب الإنفاق في وجوه الخير.

                                                                                                                              وفيه: أن الأعمال بالنيات. وأنه إنما يثاب على عمله بنيته.

                                                                                                                              وفيه: أن الإنفاق على العيال يثاب عليه، إذا قصد به وجه الله تعالى.

                                                                                                                              وفيه: أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى، صار طاعة ويثاب عليه. وقد نبه "صلى الله عليه وآله وسلم" على هذا بقوله "صلى الله عليه وآله وسلم": "حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك"، لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية، وشهواته وملاذه المباحة. وإذا وضع اللقمة في فيها، فإنما يكون ذلك في العادة: عند الملاعبة، والملاطفة، والتلذذ [ ص: 143 ] بالمباح. فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة، وأمور الآخرة. ومع هذا فأخبر "صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى: حصل له الأجر بذلك. فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر، إذا أراد وجه الله تعالى. ويتضمن ذلك: أن الإنسان إذا فعل شيئا أصله على الإباحة، وقصد به وجه الله تعالى: يثاب عليه. وذلك كالأكل بنية التقوي على طاعة الله تعالى، والنوم للاستراحة: ليقوم إلى العبادة نشيطا، والاستمتاع بزوجته وجاريته: ليكف نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام، وليقضي حقها، وليحصل ولدا صالحا. وهذا معنى قوله "صلى الله عليه وآله وسلم": "وفي بضع أحدكم صدقة". والله أعلم. هكذا في النووي.

                                                                                                                              (قلت: يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي ؟ قال: إنك لن تخلف، فتعمل عملا تبتغي به وجه الله ) تعالى، (إلا ازددت به درجة ورفعة ) .

                                                                                                                              قال عياض: معناه: أخلف بمكة بعد أصحابي ؟ فقاله إما إشفاقا من موته بمكة، لكونه هاجر منها وتركها لله تعالى، فخشي: أن يقدح ذلك في هجرته، أو في ثوابه عليها. أو خشي: بقاءه بمكة بعد انصراف النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" وأصحابه إلى المدينة، وتخلفه عنهم بسبب المرض. وكانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه لله تعالى. ولهذا جاء [ ص: 144 ] في رواية أخرى: "أخلف عن هجرته". قال القاضي: قيل: كان حكم الهجرة باقيا بعد الفتح، لهذا الحديث. وقيل: إنما كان ذلك، لمن كان هاجر قبل الفتح. فأما من هاجر بعده، فلا.

                                                                                                                              والمراد بالتخلف "في قوله: إنك لن تخلف.. إلخ": طول العمر، والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه.

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: فضيلة طول العمر، للازدياد من العمل الصالح. والحث على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال. والله تعالى أعلم بحقائق الأحوال.

                                                                                                                              [ ص: 145 ] (ولعلك تخلف، حتى ينفع بك أقوام، ويضر بك آخرون ) .

                                                                                                                              وفي بعض النسخ: "ينتفع" بزيادة التاء.

                                                                                                                              قال النووي: هذا الحديث من المعجزات، فإن سعدا رضي الله عنه: عاش حتى فتح العراق وغيره، وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم، وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قتلوا وصاروا إلى جهنم، وسبيت نساؤهم وأولادهم، وغنمت أموالهم وديارهم. وولي العراق: فاهتدى على يديه خلائق، وتضرر به خلائق: بإقامة الحق فيهم، من الكفار ونحوهم.

                                                                                                                              قال القاضي: قيل: لا يحبط أجر هجرة المهاجر: بقاؤه بمكة وموته بها، إذا كان لضرورة. وإنما كان يحبطه: ما كان بالاختيار.

                                                                                                                              قال: وقال قوم: موت المهاجر بمكة محبط هجرته، كيفما كان. قال: وقيل: لم تفرض الهجرة، إلا على أهل مكة خاصة.

                                                                                                                              (اللهم! أمض لأصحابي هجرتهم،، ولا تردهم على أعقابهم ) .

                                                                                                                              استدل به بعضهم، على أن بقاء المهاجر بمكة كيف كان: قادح في هجرته. قال عياض: ولا دليل فيه عندي، لأنه يحتمل أنه دعا لهم دعاء عاما. ومعناه: أتممها ولا تبطلها، ولا تردهم "بترك هجرتهم، ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية" على أعقابهم. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 146 ] قلت: وهذا المعنى، هو الظاهر من لفظ الحديث. والله أعلم.

                                                                                                                              (لكن البائس: سعد بن خولة ) . "البائس": الذي عليه أثر البؤس. وهو الفقر والقلة.

                                                                                                                              (قال: رثى له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من أن توفي بمكة ) . هذا من كلام الراوي. وليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. بل انتهى كلامه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: لكن البائس.. إلخ. فقال الراوي - تفسيرا لمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم هذا - يعني: أنه يرثيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتوجع له، ويرق عليه؛ لكونه مات بمكة. والقائل: هو سعد بن أبي وقاص، كما في بعض الروايات.

                                                                                                                              وقال عياض: أكثر ما جاء: أنه من كلام الزهري. واختلفوا في قصة سعد بن خولة، فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات بها. قال عيسى بن دينار وغيره: وذكر البخاري: أنه هاجر، وشهد بدرا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها. وقال ابن هشام: إنه هاجر إلى الحبشة الهجرة [ ص: 147 ] الثانية، وشهد بدرا وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر. وقيل: سنة سبع في الهدنة، خرج مختارا من المدينة.

                                                                                                                              فعلى هذا، وعلى قول عيسى بن دينار: سبب بؤسه: سقوط هجرته، لرجوعه إلى مكة مختارا وموته بها.

                                                                                                                              وعلى قول الآخرين: سبب بؤسه: موته بمكة على أي حال كان، وإن لم يكن باختياره، لما فاته من الأجر والثواب الكامل؛ بالموت في دار هجرته، والغربة عن وطنه إلى هجرة الله تعالى.

                                                                                                                              قال القاضي: وقد روي في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: خلف مع سعد بن أبي وقاص رجلا، وقال له: إن توفي بمكة. فلا تدفنه بها.

                                                                                                                              وقد ذكر مسلم في رواية أخرى: "أنه كان يكره: أن يموت في الأرض التي هاجر منها".

                                                                                                                              وفي أخرى لمسلم: "قال سعد بن أبي وقاص: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة".

                                                                                                                              وسعد بن خولة هذا، هو زوج "سبيعة" الأسلمية.




                                                                                                                              الخدمات العلمية