الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4634 باب في صلة الرحم ، وقطعها

                                                                                                                              وذكره النووي ، في (الباب المتقدم) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ، ص112 ج16 ، المطبعة المصرية

                                                                                                                              (عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله خلق الخلق ، حتى إذا فرغ منهم : قامت الرحم ؛ فقالت : هذا مقام [ ص: 71 ] العائذ من القطيعة . قال : نعم أما ترضين : أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى . قال : فذاك لك" .

                                                                                                                              ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرءوا -إن شئتم- : فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها
                                                                                                                              ) .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله عز وجل خلق الخلق) جميعهم ، أو المكلفين . ويحتمل أن يكون بعد خلق السماوات والأرض ، وإبرازها في الوجود . أو بعد انتهاء خلق أرواح بني آدم ، عند قوله تعالى : ألست بربكم ، لما أخرجهم من صلب آدم : "مثل الذر" .

                                                                                                                              (حتى إذا فرغ منهم) أي : قضى خلقهم ، وأتمه . ونحو ذلك مما يشهد : بأنه مجاز .

                                                                                                                              قال الزجاج : "الفراغ" في اللغة : على ضربين ؛

                                                                                                                              أحدهما : الفراغ من شغل .

                                                                                                                              والآخر : القصد لشيء .

                                                                                                                              [ ص: 72 ] تقول : قد فرغت مما كنت فيه . أي قد زال شغلي به . وتقول "سأتفرغ لفلان" ، أي : سأجعله قصدي .

                                                                                                                              قال الطيبي في "حاشيته على الكشاف" : فهو محمول على مجرد القصد ؛ فهو كناية عن التوفر على النكاية . ثم استعيرت هذه العبارة ؛ للخالق جل جلاله ، وعز شأنه : لذلك المعنى . وإليه الإشارة ، بقوله تعالى : سنفرغ لكم . مستعار من قول الرجل لمن يتهدده : "سأفرغ لك" .

                                                                                                                              والوجه الآخر ، منزل على "الفراغ من الشغل" ، لكن على سبيل التمثيل . شبه تدبيره تعالى أمر الآخرة : من الأخذ في الجزاء ، وإيصال الثواب والعقاب ، إلى المكلفين "بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا" بالأمر والنهي ، والإماتة والإحياء ، والمنع والعطاء ، وأنه سبحانه وتعالى ، لا يشغله شأن عن شأن : بحال من إذا كان في شغل ، يشغله عن شغل آخر ، إذا فرغ من ذلك الشغل : شرع في آخر . وقد ألم به "صاحب المفتاح" حيث قال : "الفراغ" : الخلاص من المهام . والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن . وقع مستعارا للأخذ في الجزاء وحده . وهو المراد من قوله : وقع ذلك فراغا إلى طريق المثل . حكاه القسطلاني .

                                                                                                                              وأقول : الكلام في تأويل الفراغ والشغل ، المنسوبين إلى الله تعالى ، الواردين في الكتاب والسنة : من باب الخوض المنهي عنه . ولا حاجة بنا [ ص: 73 ] إلى أن نتفكر : في صفاته ومعانيها ، على حسب عقولنا القاصرة . ما للتراب ورب الأرباب ؟ بل وظيفتنا : الإقرار بما جاء عن الله ، وعن رسوله : على ما جاء ، من دون تأويل ، ولا تعطيل ؛ ولا تكييف ، ولا تمثيل .

                                                                                                                              وهذا هو منهج السلف الصلحاء : من الصحابة ، والتابعين ، وتابعيهم . وهو أسلم . ولا يأمن المتأول من الخلف : من أن يقع في الحمى ، ويأتي بما لا يرضاه القائل .


                                                                                                                              فدع عنك نهبا صيح في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل



                                                                                                                              (قامت الرحم ، فقالت) أي بلسان الحال ، أو بلسان المقال .

                                                                                                                              وحمله عياض : على المجاز ، وأنه من ضرب المثل . لكن في حديث "ابن عمرو" عند أحمد : "أنها تكلمت بلسان طلق ذلق" .

                                                                                                                              وزاد البخاري : "فأخذت بحقو الرحمن" .

                                                                                                                              وفي حديث عائشة ، عند مسلم ، ترفعه : "الرحم معلقة بالعرش ، تقول : من وصلني ، وصله الله : ومن قطعني ، قطعه الله" .

                                                                                                                              (هذا مقام العائذ) أي : قيامي هذا ، مقام المستجير بك .

                                                                                                                              [ ص: 74 ] قال النووي : "العائذ" : المستعيذ . وهو المعتصم بالشيء ، الملتجئ إليه ، المستجير به .

                                                                                                                              (من القطيعة ، قال) تعالى (نعم . أما ترضين أن أصل من وصلك) بأن أتعطف عليه ، وأرحمه . (وأقطع من قطعك ؟) فلا أرحمه . (قالت : بلى) يا رب ! (قال : فذاك لك) بكسر الكاف .

                                                                                                                              قال أبو هريرة : (ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقرأوا -إن شئتم- : فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها .

                                                                                                                              قال عياض : "الرحم" -التي توصل ، وتقطع ، وتبر- : إنما هي "معنى من المعاني" ، ليست بجسم . وإنما هي "قرابة ونسب" ، تجمعه "رحم والدة" . ويتصل بعضه ببعض ، فسمي ذلك الاتصال : "رحما" . "والمعنى" لا يتأتى منه القيام ، ولا الكلام -فيكون ذكر قيامها- هنا- ، وتعلقها : ضرب مثل وحسن استعارة ، على عادة العرب في استعمال ذلك .

                                                                                                                              والمراد : تعظيم شأنها ، وفضيلة واصليها ، وعظيم إثم قاطعيها : بعقوقهم .

                                                                                                                              ولهذا ، سمي العقوق : "قطعا" . والعق : الشق . كأنه قطع ذلك السبب المتصل .

                                                                                                                              [ ص: 75 ] قال : ويجوز أن يكون المراد : قام ملك من الملائكة ، وتعلق بالعرش ، وتكلم على لسانها بهذا ، بأمر الله تعالى . انتهى ما حكاه النووي ، عن القاضي .

                                                                                                                              وإني ، والله ! لا أرضى بهذا القضاء من هذا القاضي ، أبدا ولا يرضى به أحد : من سلف هذه الأمة ، وأئمتها ، ولا ندري : ما الحامل له ، ولأمثاله من أهل الكلام : على الخوض في ذلك المرام ، والدخول في الكلام عليه ؟

                                                                                                                              فإن كان الباعث لهم على هذا : تنزيه ذات الله تعالى ، وصفاته . فلا منزه له سبحانه : أفضل منه تعالى ، وأعلم . ولم يوجب الله تعالى على أحد "من أمة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم" : التأويل لصفاته . وإنما ندبهم إلى الإيمان بها ، والاعتراف بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم . ومن أين ثبت -أن في كلام الله ، وكلام رسوله : الوارد في الصفات ، المشتمل عليها- : التشبيه ، والتمثيل ، وفي كلام المتكلمة الذين هم فرد من أفراد الأمة : التنزيه والتقديس ، مع قوله سبحانه : ليس كمثله شيء ، ولم يكن له كفوا أحد ؟ .

                                                                                                                              وأرى كل واحد من هؤلاء المتكلمين : يؤول كل صفة من صفاته ، بما يقع في قلبه . فإذا ثبت لصفة واحدة تأويلات عديدة : لم يعلم أي تأويل منها ، يوافق مرضاة الله ورسوله . فمن أين يؤخذ تأويل ويترك باقيها ؟

                                                                                                                              [ ص: 76 ] ولهذا قال بعض أهل الحق : إن التأويل ، فرع التكذيب . ولا ندري : ما الضرر في إجراء الصفات على ظواهرها ، مع السكوت عن معانيها ، ومع اعتقاد نفي التشبيه والمماثلة : حتى نخوض فيها ، ونصير من الخائضين ، الذين ذمهم الله تعالى في كتابه ؟ ورحم الله : عياضا ، ونوويا ، وغيرهما ! ممن اختاروا تأويل الصفات ، واقتحموا في هذه المهلكات . عافانا الله سبحانه عن ذلك ! ورزقنا الإيمان الصرف ، والانكفاف عن الخوض فيما هنالك .

                                                                                                                              هذا ؛ وقال النووي : قال العلماء : وحقيقة "الصلة" : العطف والرحمة . فصلة الله سبحانه وتعالى : عبارة عن لطفه بهم ، ورحمته إياهم ، وعطفه بإحسانه ونعمه . أوصلتهم : بأهل ملكوته الأعلى ، وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته . وقال ابن أبي جمرة : وكذا القول في "القطع" وهو كناية عن حرمانه الإحسان . انتهى .

                                                                                                                              والأولى : أن نفوض معنى صلته وقطعه : إلى واصله وقاطعه . "وهو سبحانه وتعالى" .

                                                                                                                              [ ص: 77 ] ثم قال عياض : لا خلاف في أن صلة الرحم : واجبة ، في الجملة ، وقطيعتها معصية كبيرة . قال : والأحاديث في الباب تشهد لهذا . ولكن الصلة درجات ؛ بعضها أرفع من بعض . وأدناها : ترك المهاجرة ، وصلتها بالكلام ، ولو بالسلام . ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة ؛

                                                                                                                              فمنها : واجب . ومنها : مستحب .

                                                                                                                              لو وصل بعض الصلة ، ولم يصل غايتها : لا يسمى قاطعا .

                                                                                                                              ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له : لا يسمى واصلا .

                                                                                                                              قال : واختلفوا في حد "الرحم ، التي تجب صلتها ؛

                                                                                                                              فقيل : كل رحم محرم ، بحيث لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى : حرمت مناكحتهما . فعلى هذا : لا يدخل أولاد الأعمام ، ولا أولاد الأخوال .

                                                                                                                              واحتج هذا القائل : بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، أو خالتها : في النكاح ، ونحوه . وجواز ذلك في بنات الأعمام ، والأخوال .

                                                                                                                              وقيل : هو عام في كل رحم "من ذوي الأرحام في الميراث" : يستوي المحرم ، وغيره . ويدل عليه : قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "ثم أدناك ، أدناك" انتهى .

                                                                                                                              [ ص: 78 ] قال النووي : وهذا القول الثاني ، هو الصواب . ومما يدل عليه : الحديث السابق ، في أهل مصر "فإن لهم ذمة ورحما" . وحديث : "إن أبر البر : أن يصل الرجل أهل ود أبيه" . مع أنه لا محرمية . والله أعلم . انتهى .




                                                                                                                              الخدمات العلمية