الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4674 [ ص: 208 ] كتاب الظلم

                                                                                                                              قال في الصحاح : "ظلمه ، يظلمه ، ظلما ، ومظلمة" وأصله : وضع الشيء في غير موضعه .

                                                                                                                              قال أهل العلم : "الظلامة ، والظلمة ، والمظلمة" : ما تطلبه عند الظالم . وهو اسم ما أخذ منك . و"تظلمني فلان" : أي ظلمني مالي ، و"تظلم منه" : أي اشتكى ظلمه .

                                                                                                                              و"ظلمت فلانا تظليما" : إذا نسبته إلى الظلم ، فانظلم .

                                                                                                                              قال زهير :


                                                                                                                              هو الجواد الذي يعطيك نائله عفوا ويظلم أحيانا فينظلم



                                                                                                                              باب في تحريم الظلم ، والأمر بالاستغفار والتوبة

                                                                                                                              وقال النووي : (باب تحريم الظلم) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ، ص131 - 133 ج16 ، المطبعة المصرية

                                                                                                                              (حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي ؛ حدثنا مروان (يعني ابن محمد الدمشقي) ؛ حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد ؛ عن أبي إدريس الخولاني ؛ عن أبي ذر ؛ "عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيما روى عن الله تبارك وتعالى ؛ أنه قال : يا عبادي ! إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا . يا عبادي ! كلكم ضال إلا من هديته ؛ فاستهدوني أهدكم . يا عبادي ! كلكم جائع إلا من [ ص: 209 ] أطعمته ؛ فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي ! كلكم عار إلا من كسوته ؛ فاستكسوني أكسكم . يا عبادي ! إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ؛ فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري ، فتضروني . ولن تبلغوا نفعي ، فتنفعوني . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ؛ كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم : ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ؛ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم : ما نقص ذلك من ملكي شيئا . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ؛ ما نقص ذلك مما عندي : إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . يا عبادي ! إنما هي أعمالكم : أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه" .

                                                                                                                              قال سعيد : كان أبو إدريس الخولاني ؛ إذا حدث بهذا الحديث : جثا على ركبتيه) .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي ذر رضي الله عنه) ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -فيما روي عن الله ، تبارك وتعالى) .

                                                                                                                              فيه : التصريح : بأن هذا الحديث ، من جملة الأحاديث القدسية ، التي رواها صلى الله عليه وآله وسلم : عن الله عز وجل : بواسطة الملك .

                                                                                                                              [ ص: 210 ] ويمكن : أن يكون ذلك ، بلا واسطة ، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم : سمعه من ربه سبحانه . ولا مانع من ذلك .

                                                                                                                              (أنه قال : يا عبادي) "العباد" : جمع "عبد" . ويجمع أيضا على "أعبد ، وعبدان" : بالضم . مثل "تمر وتمران" . و"عبدان" بالكسر ، مثل : "جحش وجحشان" . و"عبد" بالكسر وتشديد الدال . و"عبداء" ممدودا ، ومقصورا . وعبدون ، وعبيد . قال الجوهري : وهو جمع عزيز . وحكى الأخفش : "عبد" مثل : "سقف وسقف" .

                                                                                                                              وأصل "العبودية" : الخضوع ، والذل . و"التعبد" : التذلل . كذا في الصحاح .

                                                                                                                              قال في القاموس : "العبد" : الإنسان حرا ، كان أو رقيقا ، والمملوك .

                                                                                                                              وقال الجوهري : إن العبد خلاف الحر . انتهى .

                                                                                                                              والظاهر -من كلام أهل اللغة ، وكلام أهل الشرع- : أنه لا يطلق "العبد" على الحر ، إلا إذا أضيف إلى الرب عز وجل ، لا على الإطلاق ، كما يشعر به كلام صاحب القاموس .

                                                                                                                              وهكذا "العباد" : مختص بمن يضاف إلى الله ، عز وجل . بخلاف "العبيد" ، فإنه يعم . مع أنه قد صح النهي عنه صلى الله عليه وآله وسلم : أن يقول الرجل : "عبدي أو أمتي" ، ولكن يقول : "فتاي أو فتاتي" .

                                                                                                                              [ ص: 211 ] والإضافة في "عبادي" : إضافة تمليك ، وتشريف أيضا . والمراد هنا : الأولى .

                                                                                                                              (إني حرمت الظلم على نفسي) قال النووي : قال العلماء : معناه : تقدست عنه ، وتعاليت .

                                                                                                                              قال : والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى ، لأنه : التصرف في غير ملك ، أو مجاوزة حد . وكلاهما : مستحيل في حق الله سبحانه . وكيف يجاوز سبحانه حدا ، وليس فوقه من يطيعه ؟

                                                                                                                              وكيف يتصرف في غير ملك ، والعالم كله في ملكه ، وسلطانه ؟

                                                                                                                              قال : وأصل التحريم في اللغة : المنع . فسمي تقدسه عن الظلم : "تحريما" ، لمشابهته للممنوع : في أصل عدم الشيء . انتهى .

                                                                                                                              قلت : الكلام في هذا يطول . وموضعه : "علم الكلام" . وفيه ثلاثة مذاهب محررة ؛

                                                                                                                              (1) مذهب المعتزلة .

                                                                                                                              (2) ومذهب الأشعرية .

                                                                                                                              (3) والتفصيل ، وهو الحق . فهو عز وجل : يمتنع عليه أن ينقص عاملا أجر عمله ، أو يعذبه بغير ذنبه .

                                                                                                                              (وجعلته) أي الظلم (بينكم محرما ، فلا تظالموا) بفتح التاء ، أي "لا تتظالموا" .

                                                                                                                              [ ص: 212 ] والمراد : لا يظلم بعضكم بعضا .

                                                                                                                              قال النووي : هذا توكيد لقوله تعالى : "يا عبادي ! وجعلته بينكم محرما" ، وزيادة تغليظ في تحريمه . انتهى .

                                                                                                                              قلت : وحذف المتعلق يشعر بالتعميم . فالمعنى : لا تظالموا بنوع من أنواع الظلم ؛ سواء كان في الأبدان ، أو الأموال ، أو الأعراض ، أو الأديان .

                                                                                                                              فهذا الحديث ؛ فيه أبلغ تشديد ، وأعظم تأكيد ، وأشد وعيد : على مرتكبي الظلم من العباد ، فإنه سبحانه حرم على عباده المحرمات ، ونهاهم عن المنهيات . ولم يذكر في شيء منها ما ذكره في تحريم الظلم . من إخبارهم أولا بأنه : "حرم الظلم على نفسه" ، ثم إخبارهم ثانيا ، بأنه : "بينهم محرم" ، ثم إخبارهم ثالثا : "بالنهي عنه" . والنهي حقيقة في التحريم .

                                                                                                                              وفي هذا من تقريع الظلمة ، وتوبيخهم : ما لا يقادر قدره . ولا يبلغ مداه . وذلك بما علمه سبحانه في سابق علمه من كثرة الظلمة في عباده ، وندور العادلين منهم . وهذا يعلمه كل من له اطلاع على أخبار العالم ، وأهله ، ومعرفة بأحوالهم ، وأحوال ملوكهم ، وجميع أرباب المناصب الدينية ، والرياسات الدنيوية . يشك في ذلك شاك ، ولا يرتاب فيه مرتاب .

                                                                                                                              [ ص: 213 ] وقد أكثر الله سبحانه ، في كتابه العزيز : من تنزيه جنابه المقدس عن الظلم .

                                                                                                                              كقوله سبحانه : وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين .

                                                                                                                              وقوله : وما ربك بظلام للعبيد .

                                                                                                                              وقوله : ولا يظلم ربك أحدا .

                                                                                                                              وقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا . وغير ذلك من الآيات القرآنية .

                                                                                                                              ونعى على الظلمة : ما هم فيه من الظلم ، في آيات كثيرة .

                                                                                                                              وقد أجمع المسلمون : على تحريم الظلم . ولم يخالف في ذلك مخالف . وأجمع العقلاء : على أنه أشد ما يستقبحه العقول .

                                                                                                                              ومن الآيات القرآنية ؛ قوله عز وجل : إن الله لا يظلم مثقال ذرة .

                                                                                                                              وما الله يريد ظلما للعباد .

                                                                                                                              وما أنا بظلام للعبيد .

                                                                                                                              وما ظلمناهم . وغير ذلك .

                                                                                                                              [ ص: 214 ] (أحاديث تحريم الظلم) وقد ثبت في السنة المطهرة ، من تقبيح الظلم ، وأهله : الكثير الطيب ؛

                                                                                                                              فمن ذلك ما في الصحيحين ، وغيرهما : من حديث أبي موسى "رضي الله عنه" ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "إن الله يملي للظالم ، فإذا أخذه ، لم يفلته" . ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد .

                                                                                                                              وفيهما وفي غيرهما : من حديث ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "الظلم ظلمات يوم القيامة" .

                                                                                                                              وأخرج مسلم ، وغيره : من حديث جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال : "اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" الحديث . وسيأتي .

                                                                                                                              وأخرج ابن حبان ، في صحيحه . والحاكم : من حديث أبي هريرة ، مرفوعا ، قال : "إياكم والظلم ؛ فإن الظلم هو الظلمات ، يوم القيامة" .

                                                                                                                              [ ص: 215 ] وأخرجه الطبراني : في الكبير ، والأوسط ؛ من حديث "الهرماس بن زياد" .

                                                                                                                              وأخرج أيضا ؛ من حديث ابن مسعود" : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : "لا تظالموا فتدعوا فلا يستجاب لكم ، وتستسقوا فلا تسقوا ، وتستنصروا فلا تنصروا" .

                                                                                                                              وأخرج أيضا ، في "الكبير" بإسناد رجاله ثقات ، من حديث "أبي أمامة" ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "صنفان من أمتي ، لن تنالهما شفاعتي : إمام ظلوم ، غشوم ، وكل غال مارق") .

                                                                                                                              وأخرج أحمد (بإسناد حسن) من حديث "ابن عمر" ؛ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : "المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله" الحديث .

                                                                                                                              وأخرج أحمد ، والطبراني (بإسناد حسن) ، وأبو يعلى : من حديث "ابن مسعود" ؛ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ أنه قال : "اتقوا الظلم ، ما استطعتم . فإن العبد يجيء بالحسنات -يوم القيامة- يرى أنها ستنجيه ، فما يزال عبد يقوم ، فيقول : يا رب ! ظلمني عبدك مظلمة ، فيقول : امحوا من حسناته . ما يزال كذلك ، حتى ما يبقى له حسنة ، من [ ص: 216 ] الذنوب" .

                                                                                                                              وأخرج البخاري ، والترمذي ، من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : "من كانت عنده مظلمة لأخيه : من عرضه ، أو من شيء ؛ فليتحلل منه اليوم ، من قبل أن لا يكون دينار ، ولا درهم . إن كان له عمل صالح : أخذ منه بقدر مظلمته . وإن لم تكن له حسنات : أخذ من سيئات صاحبه ، فحمل عليه" .

                                                                                                                              وأخرج مسلم ، والترمذي ، من حديث أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : "أتدرون ما المفلس ؟" قالوا : المفلس فينا : من لا درهم له ، ولا متاع . قال : "إن المفلس من أمتي : من يأتي يوم القيامة : بصلاة ، وصيام وزكاة . ويأتي : قد شتم هذا . وقذف هذا . وأكل مال هذا . وسفك دم هذا . وضرب هذا . فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته . فإن فنيت حسناته ، قبل أن يقضي ما عليه : أخذ من خطاياهم ، فطرحت عليه ، ثم طرح في النار" .

                                                                                                                              وأخرج البيهقي ، في البعث -بإسناد جيد- ؛ عن أبي عثمان ، عن سلمان الفارسي ، وسعد بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن مسعود -حتى عد ستة ، أو سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله [ ص: 217 ] وسلم - قالوا : "إن الرجل ، لترفع له يوم القيامة : صحيفة ، حتى يرى أنه ناج . فما تزال مظالم بني آدم تتبعه ، حتى ما يبقى له حسنة . ويحمل عليه : من سيئاتهم" .

                                                                                                                              وأخرج مسلم ، من حديث أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : "المسلم أخو المسلم ؛ لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره" إلى قوله : "كل المسلم على المسلم حرام ؛ دمه ، وعرضه . وماله" .

                                                                                                                              وأخرج الطبراني (في الصغير ، والأوسط) ؛ عن علي رضي الله عنه ؛ يرفعه : "يقول الله عز وجل : اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرا غيري" .

                                                                                                                              (دعوى المظلوم مقبولة)

                                                                                                                              ومن شؤم الظلم ، وسوء معتبه ، وقبح عاقبته : أن دعوى المظلوم على ظالمه : مقبولة ، لا ترد ، فيحيق به : جزاء ظلمه ، عن قريب . كما في الصحيحين ، وغيرهما . من حديث ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ بعث معاذا إلى اليمن ؛ فقال : "اتق دعوة المظلوم ، [ ص: 218 ] فإنه ليس بينها وبين الله : حجاب" .

                                                                                                                              وأخرج أحمد ، والترمذي (وحسنه) ، وابن ماجة ، وابن خزيمة ، وابن حبان : في صحيحيهما ؛ من حديث أبي هريرة مرفوعا : "ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حتى يفطر ، والإمام العادل ، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ، وتفتح لها أبواب السماوات . ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ، ولو بعد حين" .

                                                                                                                              وفي رواية الترمذي : "ثلاث دعوات ، شك في إجابتهن : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على الولد" .

                                                                                                                              وأخرج الحاكم -وقال : رواته متفق عليهم ، إلا عاصم بن كليب : فاحتج به مسلم وحده- ، من حديث "ابن عمر" ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "اتقوا دعوة المظلوم ، فإنها تصعد إلى السماء ، كأنها شرارة" .

                                                                                                                              وأخرج الطبراني ، بإسناد صحيح ، من حديث عقبة بن عامر ؛ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : "ثلاثة تستجاب دعوتهم : الوالد ، والمسافر ، والمظلوم" .

                                                                                                                              [ ص: 219 ] وأخرج أحمد ، بإسناد حسن ؛ من حديث أبي هريرة ، يرفعه : "دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ، ففجوره على نفسه" .

                                                                                                                              وأخرج الطبراني ، عن ابن عباس ، مرفوعا : "دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب : دعوة المظلوم ، ودعوة المرء لأخيه : بظهر الغيب" .

                                                                                                                              وأخرج الطبراني ، بإسناد لا بأس به ، من حديث "خزيمة بن ثابت" ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "اتقوا دعوة المظلوم ، فإنها تحمل على الغمام ، يقول الله عز وجل : وعزتي ، وجلالي ! لأنصرنك ولو بعد حين" .

                                                                                                                              وأخرج أحمد (برجال الصحيح) : من حديث أبي عبد الله الأسدي ، قال : سمعت أنس بن مالك ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "دعوة المظلوم مستجابة ، وإن كان كافرا ، ليس دونها حجاب" .



                                                                                                                              [ ص: 220 ] (وجوب نصرة المظلوم)

                                                                                                                              وأخرج ابن حبان (في صحيحه) ، والحاكم وصححه: من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالا، كلها: أيها الملك المسلط، المبتلى، المغرور! إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني: دعوة المظلوم؛ فإني لا أردها، ولو كانت من كافر» إلى آخر الحديث.

                                                                                                                              وورد أيضا: ما يدل على وجوب نصرة المظلوم؛ فأخرج البخاري ، والترمذي : من حديث أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: «تحجزه عن ظلمه -أو تمنعه عن الظلم- فإن ذلك نصره».

                                                                                                                              وأخرج مسلم، من حديث «جابر» مرفوعا؛ قال: «ولينصرن الرجل أخاه: ظالما أو مظلوما؛ إن كان ظالما: فلينهه؛ فإنه نصره. وإن كان مظلوما: فلينصره».



                                                                                                                              [ ص: 221 ] (الوعد للعادلين)

                                                                                                                              وكما ورد الوعيد على الظلمة، ورد الوعد للعادلين؛ فأخرج مسلم، والنسائي : من حديث « ابن عمر » يرفعه: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم؛ وما ولوا».

                                                                                                                              وفي الصحيحين، وغيرهما، من حديث أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل» الحديث.

                                                                                                                              وأخرج مسلم من حديث عياض بن حمار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رحيم، رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم. وعفيف متعفف ذو عيال».

                                                                                                                              [ ص: 222 ] وأخرج الطبراني : (في الكبير والأوسط) بإسناد حسن، من حديث ابن عباس يرفعه: «يوم من أيام عادل: أفضل من عبادة ستين سنة. وحد يقام في الأرض بحقه: أزكى فيها من مطر أربعين صباحا».

                                                                                                                              وأخرج الترمذي (وحسنه) والطبراني : (في الأوسط) : من حديث « أبي سعيد الخدري » قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أحب الناس إلى الله -يوم القيامة- وأدناهم منه مجلسا: إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله، وأبعدهم منه مجلسا: إمام جائر».

                                                                                                                              وأخرج نحوه الطبراني : (بإسناد رجاله ثقات، إلا ليث بن أبي سليم) . والبزار: : (بإسناد جيد) : من حديث « ابن مسعود » يرفعه: «إن أشد الناس عذابا -يوم القيامة- من قتل نبيا، أو قتله نبي، وإمام جائر».

                                                                                                                              وأخرج النسائي، : وابن حبان في صحيحه: من حديث أبي هريرة مرفوعا: «أربعة يبغضهم الله: البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر».

                                                                                                                              وأخرج الحاكم (وصححه) : من حديث « طلحة بن عبيد الله »: أنه [ ص: 223 ] سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: «ألا أيها الناس! لا تقبل الله صلاة إمام جائر».

                                                                                                                              وأخرج ابن ماجه، والحاكم وصححه، والبزار (واللفظ له) : من حديث « ابن عمر » عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه: كل مظلوم من عبادي». فإن عدل: كان له الأجر، وكان على الرعية: الشكر. وإن جار، أو حاف، أو ظلم: كان عليه الوزر، وعلى الرعية: البر».

                                                                                                                              وأخرج أحمد بإسناد جيد، (واللفظ له) ، وأبو يعلى، والطبراني : من حديث « أنس » أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: «الأئمة من قريش؛ إن لكم عليهم: حقا، ولهم عليكم حقا مثل ذلك: ما إن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا. فمن لم يفعل ذلك منهم: فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين».

                                                                                                                              وأخرج أحمد بإسناد (رجاله ثقات) ، والبزار، وأبو يعلى : من [ ص: 224 ] حديث سيار بن سلامة، عن أبي برزة، يرفعه «نحو الحديث الذي قبله».

                                                                                                                              وأخرج أحمد أيضا بإسناد (رجاله ثقات) ، والبزار، والطبراني : من حديث « أبي موسى »: نحوه أيضا. وزاد (بعد اللعن من الله، وملائكته، والناس أجمعين) : أنه «لا يقبل منه صرفا ولا عدلا».

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : بإسناد (رجاله ثقات) : من حديث « معاوية » يرفعه: «لا يقدس الله أمة: لا يقضى فيها بالحق، ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع».

                                                                                                                              وأخرجه أيضا: البزار، من حديث عائشة .

                                                                                                                              وأخرجه أيضا الطبراني : من حديث « ابن مسعود » بإسناد جيد.

                                                                                                                              وأخرجه أيضا « ابن ماجه » من حديث « أبي سعيد ».

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : (في الأوسط) ، والحاكم، وقال: «صحيح الإسناد»: من حديث « معقل بن يسار »: أن رسول الله صلى الله عليه [ ص: 225 ] وآله وسلم؛ قال: «من ولي أمة من أمتي -قلت أو كثرت- فلم يعدل فيهم: كبه الله على وجهه في النار».

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : (بإسناد حسن) وأبو يعلى، والحاكم (وصححه) : من حديث « أبي موسى »: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: «إن في جهنم واديا، في الوادي بئر يقال لها: هبهب. حق على الله أن يسكنه كل جبار عنيد».

                                                                                                                              وأخرج أحمد : بإسناد جيد، عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به -يوم القيامة- مغلولا، لا يفكه إلا العدل».

                                                                                                                              وأخرجه أيضا أحمد : -بإسناد رجاله رجال الصحيح- والبزار: : من حديث « سعد بن عبادة » وفي إسناده: رجل لم يسم.

                                                                                                                              وأخرجه البزار والطبراني : (في الأوسط) ، ورجال البزار رجال [ ص: 226 ] الصحيح: من حديث أبي هريرة .

                                                                                                                              وأخرجه أيضا - الطبراني : (في الكبير، والأوسط) ورجاله ثقات: من حديث ابن عباس .

                                                                                                                              وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث « أبي الدرداء »: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: «ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه، فكه عدله، أو غله جوره».

                                                                                                                              وأخرج مسلم، والنسائي : من حديث « عائشة »: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول -في بيتي هذا-: «اللهم! من ولي من أمر أمتي شيئا، فشق عليهم فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئا، فرفق بهم: فارفق به».

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : بإسناد، رجاله رجال الصحيح، من حديث ابن عباس عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: قال: («من ولي شيئا من [ ص: 227 ] أمر المسلمين: لم ينظر الله في حاجته، حتى ينظر في حوائجهم ») .

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : (في الصغير والأوسط) : من حديث ابن عباس أيضا عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: (قال: « ما من أمتي أحد ولي من أمر الناس شيئا، لم يحفظهم بما حفظ به نفسه: إلا لم يجد رائحة الجنة ») .

                                                                                                                              وأخرج مسلم، من حديث «معقل بن يسار» (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: « ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت -يوم يموت- وهو غاش رعيته: إلا حرم الله عليه الجنة ») .

                                                                                                                              وفي رواية: « فلم يحطها بنصيحة: لم يرح رائحة الجنة ».

                                                                                                                              [ ص: 228 ] وأخرجه أيضا البخاري ، من حديثه.

                                                                                                                              وفي لفظ لمسلم، من حديثه أيضا؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم: « ما من أمير، يلي من أمور المسلمين، ثم لا يجتهد لهم، وينصح لهم: إلا لم يدخل معهم الجنة ».

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : (في الأوسط، والصغير) بإسناد رجاله ثقات، إلا عبد الله بن ميسرة «أبا ليلى»: من حديث « أنس » يرفعه: «من ولي من أمر المسلمين شيئا، فغشهم: فهو في النار».

                                                                                                                              وأخرج الطبراني، بإسناد حسن: من حديث « عبد الله بن مغفل » قال: أشهد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: «ما من إمام، ولا وال: بات ليله سوداء، غاشا لرعيته: إلا حرم الله عليه الجنة».

                                                                                                                              [ ص: 229 ] وأخرج أبو داود (واللفظ له) ، والترمذي، والحاكم وصححه: من حديث عمرو بن مرة الجهني؛ (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: «من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم، وخلتهم، وفقرهم: احتجب الله دون حاجته، وخلته، وفقره: يوم القيامة») .

                                                                                                                              وأخرج نحوه أحمد، بإسناد جيد: من حديث «معاذ».

                                                                                                                              وأخرج نحوه أحمد أيضا، بإسناد جيد: من حديث أبي السماح الأزدي، عن ابن عم له -من أصحاب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم-.



                                                                                                                              (أقبح أنواع الظلم: ما يرجع إلى الأعراض)

                                                                                                                              قال العلامة الشوكاني «رحمه الله تعالى»، (في نثر الجوهر، عن حديث أبي ذر) : إن من أقبح أنواع الظلم: ما يرجع إلى الأعراض: من غيبة، أو نميمة، أو شتم، أو قذف. وقد ثبت جعل العرض مقترنا بالدم والمال (في التحريم) . وما أكثر الظلمة للأعراض! فإن الظلمة في [ ص: 230 ] الدماء، والأموال: قليلون بالنسبة إلى من يظلم الناس في أعراضهم؛ لأن غالب الناس لا يستطيعون أن يظلموا الناس في دمائهم، وأموالهم. بخلاف الظلم في الأعراض؛ فإنه لما كان مقدورا لكل أحد: تتابع فيه كثير من الناس، ووقع فيه كثير من أهل العلم والفضل. زين ذلك لهم الشيطان، حتى صاروا في عداد الظلمة: للدماء، والأموال. بل أشر منهم، مع عدم النفع لهم؛ فإن الظلمة في الدماء، قد شفوا أنفسهم: بالوقوع في هذه المعصية. وكذلك الظلمة في الأموال قد انتفعوا بما أخذوه من الأموال.

                                                                                                                              وأما الظلمة في الأعراض فليس لهم: إلا مجرد المعصية المحضة، والذنب العظيم، والظلم الخالي عن النفع، مع أنه أشد على الهمم العالية، والأنفس الكريمة: من ظلم الدم والمال. كما قال الشاعر:


                                                                                                                              يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول

                                                                                                                              وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: من حديث « أبي بكرة »: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال -في خطبته في حجة الوداع-: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم: عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟») .

                                                                                                                              [ ص: 231 ] وأخرج مسلم، وغيره، من حديث أبي هريرة مرفوعا، «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله».



                                                                                                                              (ذم الربا وبيان أرباه)

                                                                                                                              وأخرج أبو يعلى، بإسناد رجاله رجال الصحيح: من حديث « عائشة »؛ (قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأصحابه: «أتدرون أربى الربا عند الله؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أربى الربا عند الله تعالى: استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا .

                                                                                                                              وأخرجه أيضا البزار، بإسناد قوي: من حديث أبي هريرة .

                                                                                                                              وأخرجه أيضا أبو داود، من حديث سعيد بن زيد .

                                                                                                                              وأخرج ابن أبي الدنيا، في «كتاب ذم الغيبة»: من حديث أنس بن مالك؛ (قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم؛ فذكر أمر [ ص: 232 ] الربا، وعظم شأنه. وقال: «إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا: أعظم عند الله -في الخطيئة- من ست وثلاثين زنية، يزنيها الرجل. وإن أربى الربا: عرض الرجل المسلم ») .

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : (في الأوسط) بإسناد فيه عمرو بن راشد، وهو ضعيف- وقال العجلي : لا بأس به-: من حديث « البراء بن عازب »؛ (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: «الربا اثنان وسبعون بابا: أدناها مثل إتيان الرجل أمه. وإن أربى الربا: استطالة الرجل في عرض أخيه ») .

                                                                                                                              وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي، والطبراني : من حديث ابن عباس ، عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: (قال: « إن الربا نيف وسبعون بابا، أهونهن بابا من الربا: مثل من أتى أمه في الإسلام. ودرهم الربا: أشد من خمس وثلاثين زنية. وأشد الربا، وأربى الربا، وأخبث الربا: انتهاك عرض المسلم، وانتهاك حرمته ») .



                                                                                                                              [ ص: 233 ] (ذكر الغيبة)

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والترمذي وصححه: من حديث « عائشة »: ( قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: حسبك من صفية: كذا، وكذا -قال بعض الرواة: تعني: قصيرة- فقال: «لقد قلت كلمة، لو مزجت بماء البحر: لمزجته») .

                                                                                                                              وأخرج أحمد، بإسناد رجاله ثقات: من حديث جابر؛ (قال: كنا مع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فارتفعت ريح منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين ») .

                                                                                                                              وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي : من حديث أبي هريرة : (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول: فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول: فقد بهته») .

                                                                                                                              [ ص: 234 ] والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقد ثبت النهي القرآني عن الغيبة، وتمثيل ذلك: بأكل الميتة؛ قال الله تعالى: ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه فلم يكتف سبحانه بأكل لحم الأخ، حتى ذكر أنه ميت. وفي ذلك من التكرير والتنفير: ما يزجر كل ذي عقل.

                                                                                                                              وقد أخرج « ابن حبان » في صحيحه: من حديث أبي هريرة ؛ (قال: جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، فرجمه صلى الله عليه وآله وسلم. وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلين من الأنصار، يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم يدع نفسه، حتى رجم رجم الكلب. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم سار ساعة، فمر بجيفة حمار شايل برجله، فقال: «أين فلان وفلان؟» فقالا: نحن ذا، يا رسول الله! فقال لهما: «كلا من جيفة هذا الحمار». فقالا: يا رسول الله! غفر الله لك! من يأكل من هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفا أشد من هذه الجيفة. فوالذي نفسي بيده! إنه الآن في أنهار الجنة ») .



                                                                                                                              [ ص: 235 ] (ذكر الشتم)

                                                                                                                              ومن الظلم في الأعراض: الشتم، واللعن:

                                                                                                                              ففي الصحيحين وغيرهما: من حديث « ابن مسعود »؛ (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « سباب المسلم فسق، وقتاله كفر ») .

                                                                                                                              وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي : من حديث أبي هريرة مرفوعا: قال: « المستبان ما قالا فعلى البادي منهما حتى يعتدي المظلوم ».

                                                                                                                              وفي الصحيحين أيضا: من حديث أبي هريرة ؛ (أنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « لعن المسلم كقتله ») .

                                                                                                                              [ ص: 236 ] وفي البخاري، وغيره: من حديث « ابن عمرو » يرفعه: « إن من أكبر الكبائر: أن يلعن الرجل والديه». قيل: يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه ».

                                                                                                                              وأخرج مسلم، وغيره: من حديث أبي هريرة ؛ (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا ») .

                                                                                                                              وأخرج مسلم، وغيره: من حديث « أبي الدرداء »؛ (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « لا يكون اللعانون شفعاء، ولا شهداء: يوم القيامة ») .

                                                                                                                              وأخرج نحوه: الترمذي -وحسنه- من حديث « ابن مسعود ».

                                                                                                                              وأخرج أحمد، و الطبراني، وابن أبي حاتم وصححه: من حديث « جرموز الجهني »؛ قال: قلت: يا رسول الله! أوصني. قال: «أوصيك، لا تكون لعانا ».

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والترمذي وصححه، والحاكم وصححه أيضا: من [ ص: 237 ] حديث « سمرة بن جندب » يرفعه؛ « لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار ».

                                                                                                                              وأخرج الطبراني، بسند جيد: عن « سلمة بن الأكوع »؛ (قال: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه، رأينا: أن قد أتى بابا من الكبائر ») .

                                                                                                                              وأخرج أبو داود : من حديث « أبي الدرداء » مرفوعا؛ ( إن العبد إذا لعن شيئا: صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها. فإن لم تجد مساغا: رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها ») .

                                                                                                                              وأخرج أحمد نحوه بإسناد جيد: من حديث « ابن مسعود ».

                                                                                                                              وأخرج مسلم وغيره: من حديث « عمران بن حصين »؛ (قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت، فلعنتها. فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «خذوا ما عليها، فإنها ملعونة». قال عمران: [ ص: 238 ] فكأني أراها الآن تمشي في الناس، ما يعرض لها أحد ) .

                                                                                                                              وأخرج أبو يعلى، وابن أبي الدنيا، بإسناد جيد: من حديث « أنس »؛ (قال: سار رجل مع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فلعن بعيره. فقال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عبد الله! لا تسر معنا على بعير ملعون ») .

                                                                                                                              وأخرج أحمد، بإسناد جيد: من حديث أبي هريرة ؛ (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ في سفر يسير، فلعن رجل ناقته، فقال: «أين صاحب الناقة؟». فقال الرجل: أنا. فقال أخرها، فقد أجبت فيها »)

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، وابن حبان في صحيحه: من حديث زيد بن خالد الجهني؛ مرفوعا: « لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة ».

                                                                                                                              وأخرج البزار، بإسناد لا بأس به، والطبراني : من حديث « ابن مسعود » أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: نهى عن سب الديك .

                                                                                                                              [ ص: 239 ] وأخرج البزار، بإسناد رجاله رجال الصحيح (إلا عباد بن منصور ) : من حديث ابن عباس ، ( أن ديكا صرخ قريبا من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رجل: اللهم! العنه. فقال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «كلا! إنه يدعو إلى الصلاة ») .

                                                                                                                              وأخرج أبو يعلى، والبزار، بإسناد رجاله رجال الصحيح (إلا سويد بن إبراهيم ) ، والطبراني : بإسناد رجاله ثقات (إلا سعيد بن بشير ) : من حديث « أنس »؛ (قال: كنا عند النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فلدغت رجلا برغوث، فلعنها: فقال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تلعنها؛ فإنها نبهت نبيا من الأنبياء للصلاة ») .

                                                                                                                              وفي لفظ: «فإنها توقظ للصلاة».

                                                                                                                              وأخرجه الطبراني : (في الأوسط) : من حديث علي رضي الله عنه.

                                                                                                                              فهذه الأحاديث؛ قد اشتملت على أن السب، والغيبة، واللعن: من أشد المحرمات. وأنه حرام على فاعله، ولو كان الذي وقع اللعن عليه [ ص: 240 ] من غير بني آدم. ولو كان من أصغر الحيوانات جرما كالبرغوث، مع ما يحصل منه من الأذى والضرر.



                                                                                                                              لعن المسلم؛ من الخيار، والصحابة، وغيرهم

                                                                                                                              فانظر أرشدك الله! ما حال من يسب، أو يغتاب، أو يلعن: مسلما من المسلمين؟ وماذا يكون عليه من العقوبة؟ فكيف بمن يفعل ذلك بخيار عباد الله، من المؤمنين؟ بل كيف من يسب، أو يغتاب، أو يلعن: خيرة الخيرة من العالم الإنساني، وهم الصحابة رضي الله عنهم، مع كونهم خير القرون، كما وردت بذلك السنة المتواترة؟ فأبعد الله الروافض ! عمدوا (بسبهم الخبيث، وفحشهم المتبالغ) : إلى من يعدل مد أحدهم، أو نصيفه: «أكبر من جبل أحد» من إنفاق غيرهم، كما في الحديث الصحيح، من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا: ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه».

                                                                                                                              وورد في الكتاب والسنة: من مناقبهم وفضائلهم، التي امتازوا بها ولم يشاركهم فيها غيرهم ما لا يفي به إلا مؤلف بسيط، مع ورود الأحاديث الصحيحة، في النهي عن سبهم على الخصوص.

                                                                                                                              [ ص: 241 ] بل ثبت في الصحيح: النهي عن سب الأموات، على العموم. وهم خير الأموات، كما كانوا خير الأحياء.



                                                                                                                              (أخبث الطوائف)

                                                                                                                              لا جرم؛ فإنه لم يعادهم، ويتعرض لأعراضهم المصونة: إلا أخبث الطوائف، المنتسبة إلى الإسلام، وشر من على وجه الأرض، من أهل هذه الملة، وأقل أهلها عقولا، وأحقر أهل الإسلام علوما، وأضعفهم حلوما، بل أصل دعوتهم: لكياد الدين، ومخالفة شريعة المسلمين. يعرف ذلك من يعرفه، ويجهله من يجهله.

                                                                                                                              والعجب كل العجب: من علماء الإسلام، وسلاطين هذا الدين، كيف تركوهم على هذا المنكر، البالغ في القبح إلى غايته ونهايته؟ فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد هذه الشريعة المطهرة، ومخالفتها: طعنوا في أعراض الحاملين لها، الذين لا طريق لنا إليها إلا من طريقهم. واستزلوا أهل العقول الضعيفة، والإدراكات الركيكة: بهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الشيطانية. فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة، ويضمرون العناد للشريعة، ورفع أحكامها عن العباد.

                                                                                                                              [ ص: 242 ] وليس في الكبائر، ولا في معاصي العباد: أشنع، ولا أخنع، ولا أبشع: من هذه الوسيلة إلى ما توسلوا بها إليه. فإنه أقبح منها؛ لأنه عناد لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولشريعته.



                                                                                                                              (أربع كبائر، وتكفير الأخ المسلم)

                                                                                                                              فكان حاصل ما هم فيه من ذلك: أربع كبائر، كل واحدة منها كفر بواح:

                                                                                                                              «الأولى»: العناد لله عز وجل.

                                                                                                                              «الثانية»: العناد لرسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.

                                                                                                                              «الثالثة»: العناد للشريعة المطهرة، وكيادها، ومحاولة إبطالها.

                                                                                                                              «والرابعة»: تكفير الصحابة «رضي الله عنهم» الموصوفين في كتاب الله سبحانه: بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، وأن الله سبحانه يغيظ بهم الكفار. وأنه قد رضي عنهم.

                                                                                                                              مع أنه قد ثبت في هذه الشريعة المطهرة: أن من كفر مسلما: كفر، كما في الصحيحين وغيرهما، من حديث « ابن عمر » (قال: قال رسول [ ص: 243 ] الله صلى الله عليه وآله وسلم: « إذا قال الرجل لأخيه: كافر، فقد باء بها أحدهما. فإن كان كما قال، وإلا رجعت إليه ».

                                                                                                                              وفي الصحيحين، وغيرهما: من حديث أبي ذر أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « ومن دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه ».

                                                                                                                              وفي البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة : « من قال لأخيه: كافر، فقد باء بها أحدهما ».

                                                                                                                              وأخرج ابن حبان في صحيحه: من حديث « أبي سعيد » مرفوعا: « ما أكفر رجل رجلا، إلا باء أحدهما بها، إن كان كافرا وإلا كفر بتكفيره ».



                                                                                                                              [ ص: 244 ] (كل رافضي يصير كافرا)

                                                                                                                              فعرفت بهذا: أن كل رافضي خبيث على وجه الأرض: يصير كافرا، بتكفيره لصحابي واحد؛ لأن كل واحد منهم، قد كفر ذلك الصحابي، فكيف بمن كفر كل الصحابة، واستثنى أفرادا يسيرة؛ تنفيقا لما هو فيه من الضلال: على الطغام الذين لا يعقلون الحجج، ولا يفهمون البراهين، ولا يفطنون بما يضمره أعداء الإسلام من العناد لدين الله، والكياد لشريعته؟.

                                                                                                                              فمن كان من الرافضة كما ذكرنا، فقد يضاعف كفره من جهات أربع كما سلف. وهم طوائف:

                                                                                                                              منهم: الباطنية، والقرامطة، وأمثالهم من طوائف العجم، ومن قال بقولهم. فإنهم غلوا في الكفر، حتى أثبتوا الإلهية لمن يزعمون: أنه المهدي المنتظر، وأنه جعل السرداب، وسيخرج منه في آخر الزمان.

                                                                                                                              وبلغ من تلاعبهم بالدين: أنهم يجعلون في كل مكان: نائبا عن الإمام المذكور، الموصوف بأنه إلههم، ويسمون أولئك النواب: حجابا للإمام المنتظر. ويثبتون لهم الإلهية. وهذا مصرح به في كتبهم. وقد وقفنا منها على غير كتاب. فانظر إلى هذا الأمر العظيم، وإلى أي مبلغ بلغ هؤلاء الملاحدة: من كياد الدين، والتلاعب بضعاف العقول من الداخلين في الدعوة الإسلامية، حتى أخرجوهم منها إلى أكفر الكفر، واتخاذ إله غير الله، عز وجل، وتعالى وتقدس. وخدعوهم من جهة ما يظهرونه من [ ص: 245 ] المحبة الكاذبة لأهل البيت «رضي الله عنهم». وهم أشد الأعداء لهم. قد جنوا على ربهم؛ فلم يجعلوه إلها، بل جعلوا الإله فردا من أفراد البشر، الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، زيادة على ألف سنة.

                                                                                                                              ثم جنوا على رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ فأخرجوه من الرسالة، وكذبوه فيما يدعيه من النبوة، وهو الذي لم يشرف أهل البيت إلا بشرفه، ولا عظموا إلا لكونهم أهل بيته.

                                                                                                                              وقد ثبت (في كتب اللغة، وشروح الحديث، وكتب التواريخ) : أن «الرافضة» إنما ثبت لهم هذا اللقب لما طلبوا من الإمام « زيد بن علي بن الحسين بن علي » رضي الله عنهم: أن يتبرأ من أبي بكر، وعمر، رضي الله عنهما. فقال: «هما وزيرا جدي» فرفضوه، وفارقوه، فسموا حينئذ: « الرافضة ».

                                                                                                                              فانظر، كيف كان ثبوت هذا اللقب الخبيث لهم، بسبب خذلهم لنصرة ذلك الإمام العظيم..

                                                                                                                              وما أحسن ما رواه الإمام الهادي: « يحيى بن الحسين » إمام اليمن، في كتابه «الأحكام» مسلسلا بآبائه الكرام؛ من عنده إلى عند « الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم»: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي بن أبي طالب: « إنه سيكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به، يقال لهم: الرافضة. فاقتلهم. قتلهم الله! إنهم مشركون ». هذا، ولم يذكر في كتابه هذا حديثا مسلسلا بآبائه غير هذا الحديث. وهو الإمام العظيم، الذي صار علما يقتدى بمذهبه في غالب الديار اليمنية.

                                                                                                                              [ ص: 246 ] فالحاصل: أن من صدق عليه هذا اللقب، أقل أحواله: أن يكون معاديا للصحابة، لاعنا لهم، مكفرا لغالبهم. هذا على تقدير: عدم تفطنه لما هو العلة الغائية للرافضة؛ من العناد لله سبحانه، ولرسوله، وللشريعة المطهرة. فتقرر لك بهذا: أن من يقدر على إنكار صنيع الرافضة، ولم يفعل: فقد رضي بأن تنتهك حرمة الإسلام وأهله، وسكت على ما هو كفر متضاعف كما سلف. وأقل أحواله: أن يكون كفرا بتكفير الأكثر من الصحابة. ومن سكت عن إنكار الكفر مع القدرة عليه فقد أهمل ما أمر الله سبحانه في كتابه: من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وترك الإنكار على ما هو كفر بواح، وأهمل ما هو أعظم أعمدة الدين، وأكبر أساطينه -وهو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر- فلا بكتاب الله: عمل، ولا بسنة رسوله، صلى الله عليه واله وسلم: اقتدى.

                                                                                                                              وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما: من حديث « عبادة بن الصامت » (قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة! في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وأن لا ننازع في الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم ») .

                                                                                                                              [ ص: 247 ] وأخرج مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه : من حديث « أبي سعيد الخدري »؛ (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ») .

                                                                                                                              ولفظ النسائي : « من رأى منكم منكرا، فغيره بيده فقد برئ. ومن لم يستطع أن يغيره بيده، فغيره بلسانه فقد برئ. ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ. وذلك أضعف الإيمان ».

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجه : من حديث « أبي سعيد الخدري » (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر -أو أمير جائر-») وفي إسناده: « عطية بن سعد العوفي ». وقد ضعفه أحمد، وغيره. ووثقه ابن معين وغيره. وحسن حديثه الترمذي -وهذا الحديث مما حسنه- وأخرج حديثه ابن خزيمة «في صحيحه».

                                                                                                                              وأخرج النسائي، : بإسناد صحيح: عن «طارق بن شهاب البجلي الأحمسي» : ( أن رجلا سأل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قال «كلمة حق عند سلطان جائر ») .

                                                                                                                              [ ص: 248 ] وأخرج ابن ماجه، بإسناد صحيح: من حديث « أبي أمامة » عنه؛ صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه قال: « أفضل الجهاد كلمة حق عند ذي سلطان جائر ») ) .

                                                                                                                              وأخرج الحاكم (وصححه) : من حديث جابر عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه قال: « سيد الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله ») .

                                                                                                                              وأخرج البخاري ، وغيره: من حديث « النعمان بن بشير » (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها: كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخدوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا ») .

                                                                                                                              [ ص: 249 ] وأخرج مسلم، وغيره: من حديث « ابن مسعود » ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته: حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان: حبة خردل ») .

                                                                                                                              وفي الصحيحين: من حديث « زينب بنت جحش » قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم. إذا كثر الخبث ».

                                                                                                                              وأخرج الترمذي (وحسنه) : من حديث « حذيفة » (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، وتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه، فلا يستجيب لكم ».

                                                                                                                              [ ص: 250 ] وأخرج « ابن ماجه » بإسناد رجاله ثقات: من حديث « أبي سعيد الخدري » (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحقرن أحدكم نفسه». قالوا: يا رسول الله! وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: «يرى أمرا لله فيه مقال، ثم لا يقول فيه. فيقول الله عز وجل -يوم القيامة- ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشيت الناس. قال: أنا كنت أحق أن يخشى») .

                                                                                                                              وأخرج أبو داود (واللفظ له) والترمذي (وحسنه) : من حديث « ابن مسعود » يرفعه: « أول ما دخل النقص على بني إسرائيل: أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا! اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد، وهو على حاله، فما يمنعه ذلك: أن يكون أكيله، وشريبه، وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم ببعض» ثم قال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم ) إلى قوله: فاسقون .

                                                                                                                              ثم قال: «كلا. والله! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، [ ص: 251 ] ولتأطرنه على الحق أطرا
                                                                                                                              ». وهذا الحديث من طريق « أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود » عن أبيه. ولم يسمع منه.

                                                                                                                              وأخرجه « ابن ماجه » عن أبي عبيدة، مرسلا.

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه: من حديث « جرير بن عبد الله »؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: ( ما من رجل يكون في قوم، يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يغيروا عليه، ولا يغيروا: إلا أصابهم الله منه بعقاب، قبل أن يموتوا ».

                                                                                                                              [ ص: 252 ] وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وصححه، والنسائي، : وابن حبان في صحيحه: «عن أبي بكر الصديق » رضي الله عنه: ( قال: يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يده: أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده») .

                                                                                                                              ولفظ النسائي : (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: « إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروا: عمهم الله بعقاب ») .

                                                                                                                              وفي رواية لأبي داود (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: « ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيروا: إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب ».

                                                                                                                              [ ص: 253 ] وأخرج الحاكم وصححه: من حديث « ابن عمرو » عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم قال: « إذا رأيت أمتي تهاب: أن تقول للظالم: يا ظالم! فقد تودع منهم ».

                                                                                                                              وأخرج ابن حبان في صحيحه: عن أبي ذر (قال: أوصاني خليلي، صلى الله عليه وآله وسلم، بخصال من الخير؛ أوصاني: أن لا أخاف في الله لومة لائم. وأوصاني أن لا أقول إلا الحق، وإن كان مرا ») .

                                                                                                                              وأخرج أبو داود : من حديث «عرس بن عمير الكندي» (أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « إذا عملت الخطيئة في الأرض: كان من شهدها وكرهها -وفي رواية- فأنكرها: كمن غاب [ ص: 254 ] عنها. ومن غاب منها، فرضيها: كان كمن شهدها » وفي إسناده: « معين بن زياد الموصلي » ضعفه أحمد . ووثقه أبو حاتم، وغيره. وصحح له الترمذي .

                                                                                                                              وأخرج ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه: من حديث « عائشة » ( أنها سمعت النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول -على المنبر-: «يا أيها الناس! إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم») .

                                                                                                                              وأخرج أحمد، والترمذي (واللفظ له) ، وابن حبان في صحيحه: من حديث ابن عباس (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « ليس منا: من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر ») .

                                                                                                                              والأحاديث في هذا الباب: كثيرة.

                                                                                                                              (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته)

                                                                                                                              قال المازري : ظاهر هذا أنهم خلقوا على الضلال، إلا من هداه [ ص: 255 ] الله تعالى. وفي الحديث المشهور: « كل مولود يولد على الفطرة ».

                                                                                                                              قال: فقد يكون المراد بالأول: وصفهم بما كانوا عليه، قبل مبعث النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنهم لو تركوا وما في طباعهم: من إيثار الشهوات والراحة، وإهمال النظر: لضلوا. وهذا الثاني أظهر.

                                                                                                                              قال النووي : وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا، وسائر أهل السنة:

                                                                                                                              أن «المهتدي» هو من هداه الله، وبهدى الله اهتدى. وبإرادة الله تعالى ذلك. وأنه سبحانه وتعالى إنما أراد هداية بعض عباده، «وهم المهتدون» ولم يرد هداية الآخرين. ولو أرادها لاهتدوا؛ خلافا للمعتزلة، في قولهم الفاسد: إنه سبحانه وتعالى أراد هداية الجميع، جل الله أن يريد ما لا يقع، أو يقع ما لا يريد. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: هذه العبارة الربانية، قد أفادت العموم، وأن ذلك حال كل عبد من عباد الله سبحانه. كما تفيده إضافة العباد إلى الضمير. فإن ذلك من صيغ العموم، ثم زاد ذلك شمولا وإحاطة: التأكيد بلفظ «كل» ثم الاستثناء، فإنه لا يكون إلا من عموم شامل. فالكلام متضمن للحكم على كل عبد من العباد بالضلال، إلا من هداه الله، وأن ذلك أصلهم الذي جبلوا عليه.

                                                                                                                              [ ص: 256 ] والجمع بين الحديثين ممكن، فإن أصل كونهم مولودين على الفطرة: لا بد معه من القيام بما شرعه الله لعباده، في كتبه المنزلة على لسان رسله المرسلة.

                                                                                                                              فالعباد قبل التمسك بشرائع الله: في ضلال، حتى يتمسكوا بها، فيخرجون من الضلال إلى الهداية، ومن الظلمة إلى النور، فكلهم قبل التمسك بشرائع الله: ضلال، إلا من هداه الله سبحانه بالشريعة. ومع تمسكهم بالشرائع المشروعة لهم لا ينتفعون بذلك كلية الانتفاع، إلا بمصاحبة رحمة الله سبحانه لهم، وذلك هو الفضل الذي يتفضل الله عز وجل به عليهم، كما في الصحيحين وغيرهما، من حديث عائشة [ ص: 257 ] أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « سددوا، [ ص: 258 ] وقاربوا، وأبشروا؛ فإنه لن يدخل أحدا الجنة: عمله» قالوا: ولا أنت، يا رسول الله! قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ») .

                                                                                                                              وأخرج أحمد بإسناد حسن، من حديث أبي سعيد الخدري؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله [ ص: 259 ] برحمته» وقال بيده: فوق رأسه .

                                                                                                                              وأخرجه البزار، والطبراني : من حديث « أبي موسى ».

                                                                                                                              وأخرجه أيضا الطبراني: من حديث « أسامة بن شريك ».

                                                                                                                              وأخرجه أيضا، من حديث « شريك بن طارق » بإسناد جيد.

                                                                                                                              وكذلك، لا بد من جري «ألطاف الله تعالى» على عباده: بتخفيف الحساب. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث « عائشة » ( أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «من نوقش الحساب عذب، قلت: أليس يقول الله: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا ؟ فقال: «إنما ذلك العرض، [ ص: 260 ] وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك».

                                                                                                                              وكذلك، التثبيت للعباد -من الله عز وجل-: عند الموت، وعند سؤال الملكين، وعند الحساب، وعند المرور على الصراط. فعرفت: أنه إذا لم يهد الله عبده إلى التمسك بشرائعه، ويلاحظه بألطافه وتفضلاته: لم ينفعه كونه مولدا على الفطرة؛ لأن معنى كونه مولدا على الفطرة: أنه قابل بفطرته لما يريه الله من الحق، ويهديه إليه.

                                                                                                                              وليس مجرد هذا القبول مستلزما لكونه مهديا، غير ضال.

                                                                                                                              ولهذا أثر فيه ما عليه أبواه، كما في الحديث: « ولكن أبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه ».

                                                                                                                              وأما قول النووي : وفي هذا دليل إلخ، وقد تقدم. فأقول: هذه المسألة، قد طال فيها النزاع بين الأشعرية والمعتزلة . وتمسك كل منهم بظواهر قرآنية. وكلامهم يعود إلى مسألة خلق الأفعال، وفيها من الكلام، واختلاف الأقوال: ما هو معروف.



                                                                                                                              [ ص: 261 ] (المذهب الحق في مسألة الصفات)

                                                                                                                              والمذهب الحق، الذي لا يتمذهب به إلا أهل التوفيق: هو ما كان عليه السلف الصالح، من الصحابة، والتابعين: من الإيمان بما جاء به الكتاب العزيز، والسنة المطهرة. وإمرار الصفات على ظاهرها، من دون تعرض لتأويل، ولا اشتغال بتطويل. فقد أوضح «العلامة الشوكاني » سهيل القطر اليماني «رضي الله عنه»: ذلك، في الجواب الذي أجاب به على السؤال الوارد من علماء مكة المشرفة، وسماه: «التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف».

                                                                                                                              فمن وقف عليه، وفهمه حق فهمه: وضع عن ظهره عبئا ثقيلا، وأماط عن قلبه كربا طويلا، والمهدي من هداه الله، بيده الخير كله، دقه وجله.

                                                                                                                              وأوضحت هذه المسألة في «الانتقاد الرجيح» وغيره، بما يشفي العليل، ويروي الغليل.

                                                                                                                              وفي قوله سبحانه، في هذا الحديث: (فاستهدوني أهدكم) : دليل على أنه ينبغي لكل عبد -من عباد الله سبحانه- أن يسأله «الهداية له إلى ما يرضيه منه» فمن هداه الله فاز؛ لأنها إن كانت الهداية بمعنى [ ص: 262 ] «إراءة» الطريق، كما في قوله سبحانه: وهديناه النجدين فكل عاقل لا يختار لنفسه -بعد أن يرى طريق الحق، وسبيل الرشد- إلا سلوكه، والمرور فيه، فإن اختار طريق الضلال فهو معاند، واقع في الشر، على علم به، واختيار له، وليس بعد هذا في (عمى البصيرة، وفساد العقل) : شيء، وعلى نفسها «براقش» تجني.

                                                                                                                              وإن كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب: فتلك السعادة التي لا تساويها سعادة، والكرامة التي تقصر عنها كل كرامة، وهي التي سألها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ بقوله: «اللهم! اهدني فيمن هديت» وأمثالها.

                                                                                                                              وحيث دلت هذه الجملة الكريمة على طلب الهداية، وفيها إخبار بقبول هذا الطلب من العباد. فأقول: «اللهم! اهدنا الصراط المستقيم، [ ص: 263 ] صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين». وأقول: «رب! أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلما، وألحقني بالصالحين».

                                                                                                                              (يا عبادي: كلكم جائع، إلا من أطعمته) هذا الكلام الإلهي: قد أفاد شمول كل عبد، من عباد الله، كما بينا قريبا، فلا يوجد عبد من عباد الله سبحانه إلا والمطعم له هو الله عز وجل.

                                                                                                                              ولو فرض فرضا -لا حقيقة- أن عبدا من عباد الله لم يطعمه: فهو جائع. ولكنه عز وجل، قد أطعم الكل، من غير فرق بين مسلم وكافر، وذكر وأنثى، وصغير وكبير، وحر وعبد.

                                                                                                                              وكل ما توصل به العباد: من الأسباب التي يتحصل بها الرزق في الصورة: فهي من الله عز وجل؛ لأنه خالق الأسباب، وموجدها، فلولا أنه خلقها وأوجدها لم يكن لشيء من تلك الأسباب وجود.

                                                                                                                              ثم بعد إيجاد العبد: جعل له ما يباشر به تلك الأسباب؛ من صحة الجوارح، والحواس، وسلامتها من الآفة التي تبطل عملها. فلو كان غير قادر على تحريك جوارحه -كالمصاب بإقعاد أو شلل- لم يتمكن من تلك الأسباب.

                                                                                                                              وهكذا؛ لو كان مسلوب الحواس الظاهرة، أو الباطنة، أو مسلوب العقل: لم يتمكن من شيء من تلك الأسباب.

                                                                                                                              وهكذا: لو كان سليم الجوارح والحواس والعقل، ولكنه مبتلى بمرض، لا يتمكن معه من تلك الأسباب لم يحصل له شيء منها.

                                                                                                                              [ ص: 264 ] فهو سبحانه: المعطي، والرازق، والمطعم. فمن لم يطعمه الله: فهو جائع. ومن لم يستطعم الله: فهو غير طاعم.

                                                                                                                              وفي قوله: (فاستطعموني أطعمكم) : إرشاد للعباد أن يسألوا ربهم عز وجل، ويطلبوا الرزق منه.

                                                                                                                              وقد أخرج أبو داود، والترمذي وصححه: من حديث « ابن مسعود »، (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « من نزلت به فاقة، فأنزلها بالناس: لم تسد فاقته. ومن نزلت به فاقة، فأنزلها بالله: فيوشك الله له برزق عاجل، أو آجل ») .

                                                                                                                              وأخرج نحوه الحاكم «من حديثه» وصححه.

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : (في الصغير والأوسط) : من حديث أبي هريرة يرفعه: «من جاع، أو احتاج، فكتمه من الناس، وأفضى به إلى الله: كان حقا على الله أن يفتح له قوت سنة من حلاله».

                                                                                                                              [ ص: 265 ] قال العلامة الرباني « محمد بن علي الشوكاني » رضي الله عنه: اعلم أن رازق العباد هو الله عز وجل، وما وصل إليهم على يد بعضهم من بعض: فهو من رزق الله عز وجل؛ لأنه المعطي لمن أجرى ذلك على يده، والملهم له، فمن رزق ربه أعطى، وبإلهامه له فعل ما فعل.



                                                                                                                              (شكر المحسن)

                                                                                                                              لكنه ينبغي للعباد: أن يشكروا بعضهم البعض، على ما وصل إليهم على يد بعضهم؛

                                                                                                                              فقد أخرج أبو داود، والنسائي واللفظ له، وابن حبان (في صحيحه) ، والحاكم وصححه: من حديث « ابن عمرو » يرفعه: « من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن استجار بالله فأجيروه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافيتموه ».

                                                                                                                              وأخرجه الطبراني : (في الأوسط) مختصرا: من حديثه، بلفظ: « من اصطنع إليكم معروفا فجازوه، فإن عجزتم عن مجازاته فادعوا له حتى [ ص: 266 ] يعلم أنكم شكرتم؛ فإن الله شاكر يحب الشاكرين ».

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه: من حديث « جابر » (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: « من أعطي عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن؛ فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ».

                                                                                                                              وأخرج الترمذي وحسنه: من حديث « أسامة بن زيد » مرفوعا: « من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء » وهذا الحديث: قد أسقط من بعض نسخ الترمذي .

                                                                                                                              وأخرجه أيضا: من حديثه، الطبراني : (في الصغير) ، مختصرا [ ص: 267 ] بلفظ: « إذا قال الرجل: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء ».

                                                                                                                              وأخرج أحمد، بإسناد رجاله ثقات: من حديث « الأشعث بن قيس » يرفعه: « إن أشكر الناس إلى الله تبارك وتعالى أشكرهم للناس ».

                                                                                                                              وفي رواية أيضا: « لا يشكر الله من لا يشكر الناس ».

                                                                                                                              وأخرج أحمد أيضا، بإسناد رجاله ثقات -إلا « صالح بن أبي الأخضر، وهو مع ضعفه ممن يعتبر به»- من حديث عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من أتى إليه معروف فليكاف، ومن لم يستطعه فليذكره، فإن من ذكره فقد شكره، ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور») .

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والترمذي وصححه: من حديث أبي هريرة (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: « لا يشكر الله من لا يشكر الناس ») وقد روي هذا الحديث برفع «الله» ورفع [ ص: 268 ] «الناس» وبنصبهما، وبرفع الأول ونصب الثاني، وبالعكس.

                                                                                                                              وأخرج الطبراني: من حديث « طلحة بن عبيد الله » (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « من أولي معروفا فليذكره، فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره ») .

                                                                                                                              وأخرجه « ابن أبي الدنيا »: من حديث « عائشة ».



                                                                                                                              (الجماعة رحمة، والفرقة عذاب)

                                                                                                                              وأخرج عبد الله بن أحمد (في زوائد المسند) بإسناد لا بأس به، وابن أبي الدنيا : من حديث « النعمان بن بشير » مرفوعا: « من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بالنعمة شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب ».

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والنسائي واللفظ له: من حديث «أنس» (قال : قالت المهاجرون: يا رسول الله! ذهب الأنصار بالأجر كله، ما رأينا قوما [ ص: 269 ] أحسن بذلا لكثير، ولا أحسن مواساة في قليل منهم، وقد كفونا المؤونة، قال: «أليس تثنون عليهم به، وتدعون لهم؟» قالوا بلى! قال: «فذاك بذاك») .

                                                                                                                              وورد: ما يدل على قبول العطية، من بعض العباد لبعض؛ فأخرج أحمد (بإسناد رجاله ثقات) والبيهقي : من حديث « المطلب بن عبد الله بن حنطب » ( أن عبد الله بن عامر، بعث إلى عائشة : بنفقة، وكسوة. فقالت للرسول: أي بني! لا أقبل من أحد شيئا. فلما خرج الرسول، قالت: ردوه علي. فردوه. قالت: إني ذكرت شيئا؛ قال لي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عائشة ! من أعطاك عطاء بغير مسألة فاقبليه، فإنما هو رزق عرضه الله إليك ») .

                                                                                                                              وأخرج أبو يعلى (بإسناد لا بأس به) : من حديث عمر بن الخطاب »: (قال: قلت: يا رسول الله! قد قلت لي: «إن خيرا لك: أن لا تسأل أحدا من الناس شيئا». قال: «إنما ذاك أن تسأل، وما آتاك الله من غير مسألة فإنما هو رزق، رزقه الله عز وجل ») .

                                                                                                                              [ ص: 270 ] وأخرج أحمد (بإسناد صحيح) ، وأبو يعلى، و الطبراني، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه: من حديث « خالد بن عدي الجهني » (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « من بلغه عن أخيه معروف من غير مسألة، ولا إشراف نفس: فليقبله، ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله إليه ») .

                                                                                                                              وأخرج أحمد (بإسناد، رجاله رجال الصحيح) : من حديث أبي هريرة (قال: « من آتاه الله شيئا من هذا المال، من غير أن يسأله فليقبله، إنما هو رزق ساقه الله إليه ») .

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : (في الكبير) : من حديث « ابن عمر » (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « ما المعطي من سعة أفضل من الآخذ إذا كان محتاجا ») .

                                                                                                                              وأخرجه أيضا من حديث أنس.

                                                                                                                              [ ص: 271 ] وهذا باعتبار العطايا: من بعض العباد لبعض.



                                                                                                                              (عطايا السلاطين)

                                                                                                                              وأما العطايا من أموال الله: من سلطان، أو غيره، ففي الصحيحين وغيرهما: من حديث « ابن عمر » أن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيني العطايا، فأقول: أعطه من هو أفقر مني إليه. فقال: «خذه؛ إذا جاءك من المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل: فخذه، فتموله. فإن شئت، فكله. وإن شئت تصدق به. وما لا فلا تتبعه نفسك») .

                                                                                                                              وأخرج أحمد (بإسناد جيد) و الطبراني، والبيهقي : عن « عائذ بن عمر » (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: « من عرض له من هذا الرزق شيء، من غير مسألة، ولا إشراف: فليتوسع به في رزقه، فإن كان غنيا: فليوجهه إلى من هو أحوج إليه منه ») .

                                                                                                                              (يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته) هذه العبارة الربانية، والكلام [ ص: 272 ] الصمداني: يشمل كل فرد من أفراد العباد، لما قدمنا من أن إضافة العباد إلى ضمير الرب «سبحانه وتعالى»: يفيد العموم، ويزداد ذلك تأكيدا بقوله: «كلكم» ثم بالاستثناء المشعر بعموم المستثنى منه.

                                                                                                                              فالمعنى: كل فرد من أفرادكم عار عن اللباس، إلا من كسوته. ثم طلب «عز وجل» منهم أن يطلبوا منه أن يكسوهم، فقال «جل مجده»: (فاستكسوني) .

                                                                                                                              ثم أخبرهم بأنه: مجيب هذا الطلب الواقع منهم، فقال: (أكسكم) .

                                                                                                                              ومن أمعن النظر في هذه الفواصل المذكورة في هذا الحديث: علم ما عند الرب سبحانه من الرحمة لعباده، ومزيد اللطف بهم؛ فإنه بين لهم ما بهم من مزيد الحاجة إلى عطائه الجم، وتفضله العم، في أعظم ما تدعوهم الحاجة إليه؛ وهو الطعام الذي لا يعيشون بدونه، وأمرهم أن يطلبوه منه، وتكفل لهم بالإجابة، وأعطاهم ما يطلبونه.

                                                                                                                              ثم ذكر لهم: ما لا بد لهم منه، من ستر أبدانهم بالكسوة التي لولا وجودها لهم لانكشفت عوراتهم، وأضر بهم البرد، وأنه الكاسي لهم، والمتفضل بذلك عليهم.

                                                                                                                              ثم أمرهم -تفضلا منه لهم، ولطفا بهم- أن يطلبوا ذلك منه، ووعدهم: بالإجابة لدعوتهم، والتفضل منه بحاجتهم، وهذا بعد أن نهاهم: عن التظالم في ذات بينهم، بعد أن أخبرهم أنه حرم الظلم على نفسه؛ ليقتدوا به «عز وجل» في تجنب هذه الخصلة القبيحة، التي [ ص: 273 ] تفسد معاشهم، وتبطل بها أحوالهم وأموالهم، التي لا قوام لهم إلا بها. فسبحان الله وبحمده! ما أبلغ هذا الكلام، وأعلى طبقته، وأرفع منزلته!

                                                                                                                              انظر، كيف قدم لهم: أن يجتنبوا ما يفسد به أمر معاشهم، وحال حياتهم، ثم بعد أن أخبرهم أنهم كلهم على الضلال، إلا من هداه منهم: أمرهم بأن يسألوه الهداية؛ لأنها عماد الدين، ومعيار الفلاح، وأخبرهم: بأنه مجيب هذا الطلب، ومتكفل لهم بالإجابة.

                                                                                                                              ثم ذكر لهم: ما هو أهم أمور الحياة، وأعظم مهمات المعاش.

                                                                                                                              ثم أمرهم أن يطلبوا ذلك منه؛ ليتفضل به عليهم، ويوصله إليهم.

                                                                                                                              فهل بعد هذه الرحمة البالغة، والتفضل العظيم؟ فما أحقهم بأن يديموا شكره، ويستعملوا ما تفضل به عليهم في طاعاته! وأن يلبسوا من الثياب ما أحله لهم، ورغبهم في لبسه، كما أخرجه الترمذي وصححه، والنسائي، : وابن ماجه، والحاكم وصححه: من حديث « سمرة » (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « البسوا البياض؛ فإنها أطيب وأطهر، وكفنوا فيها موتاكم ») .

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والترمذي وصححه، وابن حبان في صحيحه: من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: [ ص: 274 ] البسوا من ثيابكم: البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ») .

                                                                                                                              وأن يتجنبوا منها: ما حرمه الله عليهم؛ ففي الصحيحين وغيرهما: من حديث « عمر بن الخطاب » يرفعه: « لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ».

                                                                                                                              وفيهما أيضا: من حديثه، (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « إنما يلبس الحرير: من لا خلاق له في الآخرة ») . وفيهما أيضا: من حديث « أنس » مرفوعا: « من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ») .

                                                                                                                              [ ص: 275 ] وفيهما أيضا: من حديث « عبد الله بن عامر » (قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فروج حرير، فلبسه، ثم صلى فيه، ثم انصرف، فنزعه نزعا شديدا، كالكاره له، ثم قال: «لا ينبغي هذا للمتقين ») .

                                                                                                                              وأخرج البخاري : من حديث « عقبة بن عامر » (أنه، صلى الله عليه وآله وسلم؛ « نهى عن لبس الحرير والديباج، وأن يجلس عليه ») .

                                                                                                                              والأحاديث في المنع من لبس الحرير: كثيرة.

                                                                                                                              وفي الصحيحين، وغيرهما: من حديث « ابن عمر » (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: «من جر ثوبه خيلاء: لم ينظر الله إليه يوم القيامة» فقال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: يا رسول الله! [ ص: 276 ] إن إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهده. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنك لست ممن يفعله خيلاء») .

                                                                                                                              وفي الصحيحين وغيرهما: من حديثه أيضا؛ (قال: « لا ينظر الله -يوم القيامة- إلى من جر ثوبه خيلاء ») .

                                                                                                                              وفي الصحيحين وغيرهما: من حديث أبي هريرة ؛ (أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « لا ينظر الله -يوم القيامة- إلى من جر ثوبه بطرا ») .

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والنسائي، وابن ماجه : عن « ابن عمر »، عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: (قال: « الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة؛ من جر شيئا خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة ») .

                                                                                                                              [ ص: 277 ] وأخرج البخاري ، وغيره: من حديث أبي هريرة ، عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه قال: « ما أسفل من الكعبين، من الإزار: في النار ») .

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والنسائي، : وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه: من حديث أبي هريرة (قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل ) .

                                                                                                                              وأخرج البخاري ، وأهل السنن الأربع: من حديث ابن عباس (قال: لعن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال ) .

                                                                                                                              وفي الباب أحاديث.

                                                                                                                              والأولى «لكل عبد من عباد الله»: أن يلبس اللباس، الذي كان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يلبسه، في السفر والحضر؛ من القميص، والعمامة، والحلة (وهي الإزار والرداء) .

                                                                                                                              [ ص: 278 ] ولباسه مضبوط في «كتب السنة المطهرة». وذكرنا تفصيله في كتاب: (هداية السائل إلى أدلة المسائل) فراجعه.

                                                                                                                              (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار) . قال النووي : الرواية المشهورة «بضم التاء».

                                                                                                                              وروي: بفتحها، وفتح الطاء. يقال: «خطأ يخطأ»: إذا فعل ما يأثم به. فهو «خاطئ». ومنه قوله تعالى: إنا كنا خاطئين .

                                                                                                                              ويقال في الإثم أيضا: «أخطأ» فهما صحيحان. انتهى.

                                                                                                                              ويؤيد هذا: ما حكاه «ابن القطاع» في كتاب الأفعال، عن أبي عبيد، القاسم بن سلام؛ قال: يقال: و«خطأ، وأخطأ»: بمعنى.

                                                                                                                              وقال غيره: «خطأ» في الدين، و«أخطأ»: في كل شيء عامدا.

                                                                                                                              وقيل «خطأ»: تعمد الذنب. و«أخطأ»: أصاب الذنب على غير عمد.

                                                                                                                              وفي لغة أخرى: بمعنى واحد.

                                                                                                                              (وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم) .

                                                                                                                              قد تقدم: أن هذه العبارة الربانية: تفيد العموم من جهات.

                                                                                                                              لما أرشد «سبحانه» عباده إلى ما فيه نظام معاشهم، بما يحتاجون إليه: من الطعام، والثياب. وأخبرهم أنه الكاسي لهم، وأمرهم بأن يطلبوا منه أن يطعمهم، ويكسوهم، ووعدهم بالإجابة: أرشدهم «عز [ ص: 279 ] وجل» إلى ما فيه نظام دينهم، وآخرتهم؛ فأخبرهم بأنهم يخطئون بالليل والنهار؛ لما في طباعهم من الميل إلى الشهوات، وبشرهم بأنه يغفر لهم الذنوب جميعا.

                                                                                                                              ويا لها من بشارة، لا يقادر قدرها، ولا يسر بمثلها! فإنه إذا غفر لهم جميع الذنوب: نجوا من النار، ودخلوا الجنة. وأقول:

                                                                                                                              هذا هو الإفضال، هذا هو العطاء الفياض، هذا الجود، هذا هو الكرم.



                                                                                                                              (غفر الذنوب بالاستغفار)

                                                                                                                              وقد بشر «سبحانه وتعالى» في كتابه العزيز: بمثل هذه البشارة، الواردة إلينا على لسان رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم:

                                                                                                                              1- فقال: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم .

                                                                                                                              2- وقال سبحانه: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما .

                                                                                                                              3- وقال: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله .

                                                                                                                              4- وقال عز وجل: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون .

                                                                                                                              [ ص: 280 ] وقد ثبت في السنة المطهرة من الإرشاد إلى الاستغفار، وأنه يمحو الذنوب: الكثير الطيب:

                                                                                                                              فمن ذلك ما أخرجه مسلم : من حديث أبي هريرة (قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: « والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا: لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون، فيغفر لهم ») .

                                                                                                                              فانظر ما يفيده هذا الحديث: من التحضيض على الاستغفار، المتسبب عن الذنوب؛ وذلك لأن بني آدم من شأنهم: أن يكثر منهم الذنوب؛ لما جبلوا عليه من الميل إلى الشهوات. وأن من حاول منهم أن لا يقع منه ذنب ألبتة فقد حاول ما لا يكون؛ لأن «العصمة» لا تكون إلا للأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.

                                                                                                                              فلو راموا: أنهم لا يذنبون أصلا راموا ما ليس لهم.

                                                                                                                              وأخرج أحمد، وأبو يعلى : بإسناد رجاله ثقات، من حديث « أنس » (قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « والذي نفسي بيده! لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر لكم، والذي نفسي بيده! [ ص: 281 ] لو لم تخطئوا: لجاء الله بقوم يخطئون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم ») .

                                                                                                                              وأخرج أحمد، والطبراني : (في الكبير، والأوسط) : من حديث « عبد الله بن عمرو » (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « لو لم تذنبوا لخلق الله خلقا يذنبون، ثم يغفر لهم ») .

                                                                                                                              وأخرجه « البزار » ورجال إسناده ثقات.

                                                                                                                              وأخرج البزار : من حديث « أبي سعيد »: نحو حديث أبي هريرة المتقدم. وفي إسناده: « يحيى بن بكير » وهو ضعيف.

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : (في الأوسط) بإسناد رجاله ثقات، من حديث « الزبير » (أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « من أحب أن تسره صحيفته: فليكثر فيها من الاستغفار ».

                                                                                                                              وأخرجه أيضا البيهقي، بإسناد لا بأس به.

                                                                                                                              [ ص: 282 ] وأخرج البزار : من حديث « أنس » بإسناد رجاله رجال الصحيح، إلا « تمام بن نجيح » وقد وثقه « ابن معين » وضعفه: البخاري ، وغيره، مرفوعا: « ما من حافظين يرفعان إلى الله في يوم، فيرى «تبارك وتعالى» في أول الصحيفة استغفارا، إلا قال «تبارك وتعالى» قد غفرت لعبدي ».

                                                                                                                              وأخرج الترمذي (وحسنه) والنسائي : من حديث « ابن عمر » (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: « من استغفر الله، غفر له ») .

                                                                                                                              وأخرج الترمذي (وصححه) والنسائي، : وابن ماجه، وابن حبان (في صحيحه) ، والحاكم وصححه: من حديث أبي هريرة (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: « إن العبد، إذا أخطأ خطيئة: نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع، واستغفر صقلت، فإن عاد زيد فيها، حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .

                                                                                                                              [ ص: 283 ] وأخرج الحاكم (وصححه) : من حديث «أم عطية» (قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: « ما من مسلم يعمل ذنبا، إلا وقف الملك ثلاث ساعات، فإن استغفر من ذنبه لم يوقفه عليه، ولم يعذبه به يوم القيامة ») .

                                                                                                                              وأخرجه من حديثها أيضا: الطبراني : (في الكبير) وفي إسناده: « أبو مهدي: سعيد بن سنان » وهو متروك.

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : من حديث « أبي أمامة »؛ (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « إن صاحب الشمال ليرفع القلم -ست ساعات- عن العبد المسلم المخطئ، أو المسيء. فإن ندم واستغفر منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة ») . قال في (مجمع الزوائد) : رواه الطبراني : بأسانيد، ورجال أحدها وثقوا.

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : أيضا (من حديثه) : من وجه آخر، يرفعه: [ ص: 284 ] « صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، فإذا عمل حسنة أثبتها، وإذا عمل سيئة قال له صاحب اليمين: امكث ست ساعات، فإن استغفر لم يكتب عليه، وإلا أثبتت عليه » قال في (مجمع الزوائد) : رجاله وثقوا.

                                                                                                                              وأخرجه أيضا من وجه ثالث (من حديثه) : بنحوه، وفي إسناده: « جعفر بن الزبير » وهو كذاب.

                                                                                                                              وأخرج أحمد، وأبو يعلى، والطبراني : من حديث « أبي سعيد » (قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « إن إبليس قال لربه «عز وجل»: وعزتك، وجلالك! لا أبرح أغوي بني آدم، ما دامت الأرواح فيهم. فقال الله «عز وجل»: فبعزتي وجلالي! لا أبرح: أغفر لهم ما استغفروني ») . قال (في مجمع الزوائد) : وأحد [ ص: 285 ] إسنادي « أحمد » رجاله رجال الصحيح، وكذلك أحد إسنادي « أبي يعلى ».

                                                                                                                              وأخرجه أيضا الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والنسائي، : وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي : من حديث « عبد الله بن عباس »؛ (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب ») .

                                                                                                                              وأخرج « ابن ماجه » بإسناد صحيح: من حديث « عبد الله بن بسر » (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « طوبى لمن وجد في صحيفته: استغفارا كثيرا ») .

                                                                                                                              [ ص: 286 ] وأخرج الطبراني : (في الأوسط والكبير) : من حديث « عقبة بن عامر » ( أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال: يا رسول الله! أحدنا يذنب. قال: «يكتب عليه». قال: ثم يستغفر. قال: «يغفر له، ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا ») قال (في مجمع الزوائد) : وإسناده حسن.

                                                                                                                              وأخرج الترمذي (وحسنه) : من حديث « أنس » (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « قال الله عز وجل: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني: غفرت لك، على ما كان منك، ولا أبالي. يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ») .

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن أبي شيبة، وابن حبان، من حديث « بلال بن يسار بن زيد » قال: حدثني أبي، عن جدي (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: « من قال: أستغفر الله، الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه: غفر له، وإن كان قد فر [ ص: 287 ] من الزحف ») قال الترمذي : غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

                                                                                                                              قال المنذري : إسناده جيد متصل، فقد ذكر البخاري (في تاريخه) : أن «بلالا» سمع من أبيه «يسار» وأن «يسارا» سمع من أبيه «زيد» مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

                                                                                                                              وأخرجه الترمذي : من حديث « أبي سعيد » وقال فيه: «ثلاث مرات».

                                                                                                                              وأخرجه الحاكم : من حديث « ابن مسعود » بهذه الزيادة. وقال: صحيح.

                                                                                                                              وأخرجه الطبراني : من حديث « ابن مسعود » بإسناد، رجاله ثقات.

                                                                                                                              (صلاة التوبة)

                                                                                                                              وأخرجه أبو داود، والترمذي (وحسنه) ، والنسائي، : وابن ماجه، وابن حبان (في صحيحه) : من حديث « أبي بكر الصديق » رضي الله [ ص: 288 ] عنه (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « ما من عبد يذنب ذنبا، فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر: إلا غفر له» ثم قرأ هذه الآية: والذين إذا فعلوا فاحشة إلخ ») .



                                                                                                                              (سيد الاستغفار)

                                                                                                                              وأخرج البخاري وغيره: من حديث « أوس بن أوس » (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « سيد الاستغفار: اللهم! أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك، ما استطعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت ») .

                                                                                                                              [ ص: 289 ] ولفظ أبي داود، وابن السني : من حديثه: بلفظ: « سيد الاستغفار أن يقول: (اللهم! أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ». وأخرجه بهذا اللفظ البخاري ، في موضع آخر، وأحمد في المسند.

                                                                                                                              وإنما سمي «سيد الاستغفار»: لجمعه لمعاني التوبة كلها، استعير له اسم «السيد» وهو في الأصل: للرئيس، الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في المهمات. وأيضا فيه: الإقرار لله «سبحانه» بالألوهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده، والاستعاذة مما جنى على نفسه، ورغبته [ ص: 290 ] في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو.

                                                                                                                              وما أحق هذه الأحاديث بأن إذا سمعها عبد عاص لله تعالى: أن يبادر على الفور إلى الاستغفار، من ربه الغفور الرحيم، ويستبشر بسعة رحمة الله تعالى، السابقة على غضبه «سبحانه»!

                                                                                                                              اللهم! قد بلغت ذنوبي عنان السماء، وأتيتك، يا رب! بقراب الأرض خطايا، فأوف بوعدك، الذي وعدته على لسان رسولك، الصادق المصدوق، الأمين المأمون. وائتني بقراب الأرض مغفرة، وأنت أصدق القائلين، وأرحم الراحمين. اللهم! إن نفسي أمارة بالسوء، والشيطان يوقعني كل ساعة في خطيئة من الكبائر، فضلا عن الصغائر، وإني أريد نزعي من نزغه، ولا أستطيع، حتى توفقني؛ فإن بيدك الخير، والشر ليس إليك، فاغفر لي، وتب علي، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، ولا تجعلني جاهلا ظالما، بعد أن هديتني، ومنحتني علما بالكتاب والسنة، وإن لم ترحمني وتغفر لي لأكونن من الخاسرين. ومن يغفر الذنوب إلا أنت؟ فأنت أنت، وأنا أنا، ولا يأتي من الغفور الرحيم إلا الغفران والرحمة، كما لا يجيء من العبد الظلوم الجهول إلا العصيان، والوقوع في الحمى. فاهدني سواء السبيل، واغفر لي مغفرة تامة، واعف عني؛ فإنك عفو تحب العفو، وارزقني العافية من كل ذنب، والسلامة من كل بلاء في الدنيا والآخرة، وما ذلك عليك بعزيز.

                                                                                                                              (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) .

                                                                                                                              [ ص: 291 ] أقول: لما ذكر الله «سبحانه وتعالى»: ما أنعم به على عباده من أمور الدنيا والآخرة، وما أرشدهم إليه من مصالح الدين والدنيا، أبان لهم ههنا أنه لم يفعل ذلك لمصلحة ترجع إليه منهم، ولا لفائدة يوصلونها إليه؛ لأنهم أحقر، وأقل، وأذل، وأصغر من أن يستطيعوا ذلك، أو يبلغوا إليه بوجه من الوجوه.

                                                                                                                              ولهذا؛ قال: «إنكم لن تبلغوا ضري» أي: ليس لكم من القدرة ما تطيقون أن تبلغوا به ذلك؛ فإني الخالق لما فيكم من القوة والقدرة. والموجد لها فيكم، والمتفضل بها عليكم، فكيف تبلغون إلى ذلك المبلغ، الذي أنتم أعجز من أن تصلوا إلى شيء منه، وأقل من أن تبلغوا ما هو دونه؟

                                                                                                                              وصدق الله «عز وجل» فإن العبد، غاية ما يتمكن منه ويصل إليه: أن يعصي الله «تعالى وتقدس» وهو إنما يضر بذلك نفسه، ويوردها في موارد الخسران، ويقودها إلى العذاب الأليم، والبلاء المقيم، ويتعرض لانتقام الله منه، وحلول سخطه عليه، فيجمع له بين عذاب الدنيا والآخرة؛ فلا دنياه أبقى، ولا آخرته رجا، فكان كما قال الشوكاني «رحمه الله تعالى»:


                                                                                                                              إن أشقى الناس في الناس فتى بين ترك الدين والدنيا جمع صار كالمنبت في الأسفار لا
                                                                                                                              ظهره أبقى ولا أرضا قطع



                                                                                                                              وعلى فرض: أنه «سبحانه» يمهله، ويستدرجه من حيث لا يعلم، ولا يحول بينه وبين عصيانه وطغيانه، فمن ورائه نار جهنم. فقد باع [ ص: 292 ] الحياة الأبدية، والنعيم المقيم بعاجل لذة زائلة، ونعمة ذاهبة، واستبدل بها عذاب الأبد، وشقاء الدهر، الذي لا ينفد ولا ينقطع.

                                                                                                                              وهكذا: من كان (من العباد) مطيعا لله «عز وجل» قائما بما أوجبه الله تعالى عليه: من الواجبات البدنية، والمالية، متصدقا بماله، متقربا إلى الله «سبحانه» بما خوله من النعم، وأعطاه من الرزق، فهو لم ينفع بذلك إلا نفسه، وربح الفوز بالنعيم الأبدي، والسلامة من العذاب الأخروي.



                                                                                                                              (بذل المال من أعظم أنواع الشكر)

                                                                                                                              ومع ذلك قد يكون ما فعله من الخير: سببا لحراسة ما تفضل الله تعالى به عليه في الدنيا عن الزوال؛ فإن أعمال الخير (لا سيما بذل المال للمحاويج) : من أعظم أنواع الشكر، الذي وعد الله تعالى عباده -إن فعلوه- بالمزيد. فقال: لئن شكرتم لأزيدنكم) . فهذا قد نفع نفسه: في دنياه وأخراه، كما ضر الأول نفسه: في عاجلته وآجلته.

                                                                                                                              وكلاهما: لم يجاوز ضر نفسه، ولا نفع نفسه، وذلك غاية قدرته، ونهاية استطاعته.

                                                                                                                              فسبحان الله العلي العظيم! ما ألطفه، وأرأفه بعباده! حتى بلغ معهم في التعليم والإرشاد: إلى هذه الغاية؛ لدفع ما لعله يقع في خواطر الصم البكم، الذين هم أشبه بالدواب، وإن كانوا في مسلاخ إنسان، وجسم بني [ ص: 293 ] آدم. كما وقع من فرعون اللعين؛ حيث قال: يا هامان ابن لي صرحا .

                                                                                                                              فسبحان الصبور: على مثل هذه الحماقات، من هؤلاء الذين هم كالأنعام، بل أضل سبيلا!

                                                                                                                              (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم: كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم: ما زاد ذلك في ملكي شيئا) .

                                                                                                                              لما ذكر «سبحانه»: أن عباده لا يبلغون ضره، ولا يبلغون نفعه، وكانت عقولهم القاصرة محتاجة إلى مزيد تصريح، وتأكيد، وطرف من الإيضاح والمبالغة: أخبرهم بأن انتفاء ذلك الضر والنفع، الذي نفى عوده إلى حضرته المقدسة، وجنابه الأعز الأجل: ليس هو باعتبار نوع من أنواع العالم، أو باعتبار أهل عصر من العصور. بل لو اجتمع أول الثقلين وآخرهم، وكانوا على غاية من الصلاح، والانقياد، والطاعة، والتقوى. بل لو كانوا على حالة أعلى من هذه الغاية، ومنزلة أرفع من هذه المنزلة، وهي أن يكونوا كالفرد الكامل منهم، والرجل كل الرجل في جماعتهم، وهو مليء قلبه من التقوى، حتى صار أتقى الثقلين «الإنس والجن» بعد اجتماع أولهم وآخرهم.

                                                                                                                              قال الشوكاني «رحمه الله»: ولا يخفاك أن أتقى الثقلين -عند الاجتماع المفروض الشامل لأولهم وآخرهم- هم الأنبياء عليهم [ ص: 294 ] السلام» وأتقى الأنبياء: هو سيد ولد آدم -الأنبياء وغيرهم- وهو نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى.

                                                                                                                              فانظر، هذه المبالغة البليغة، والكلام الفائق.

                                                                                                                              وقوله: «واحد» للتأكيد، كما يقتضيه مقام المبالغة، مثل قوله سبحانه: نفخة واحدة .

                                                                                                                              ومثل قوله تعالى: دكة واحدة

                                                                                                                              ومثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لأولى رجل ذكر».

                                                                                                                              ثم لما فرغ «سبحانه» من المبالغة في جانب دفع النفع: ذكر المبالغة في جانب دفع الضر، فقال: ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم: ما نقص ذلك من ملكي شيئا ) .

                                                                                                                              وفيه: مثل ما تقدم من المبالغة البليغة، والكلام الجاري على أكمل نظام، وأتم أسلوب.

                                                                                                                              قال الشوكاني «رحمه الله»: وهذا القلب، الذي هو أفجر قلوب الثقلين، عند الاجتماع المفروض قد يكون قلب إبليس، أو مردة الجن. وقد يكون قلب بعض جبابرة الإنس كفرعون والنمروذ، ولا يعلم ذلك إلا علام الغيوب. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 295 ] والمقصود من هذا: أن عبادة العابدين، وتقوى المتقين، وزهد الزاهدين: إنما ينتفع بها فاعلها فقط. ومعصية العاصين، وتهتك المتهتكين، وكفر الكافرين، ونفاق المنافقين: إنما يضر فاعلها. وليس إلى الله «عز وجل» ولا عليه «تبارك وتعالى» من ذلك شيء.

                                                                                                                              فإن قلت: قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به. والصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم: فلا يرفث، ولا يصخب. فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم. والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب -عند الله- من ريح المسك. وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ») .

                                                                                                                              قلت: قد أجاب أهل العلم، عن معنى قوله «عز وجل»: (الصوم لي) : بأجوبة كثيرة:

                                                                                                                              منها: ما أجاب به «سفيان بن عيينة» فقال: معناه: إذا كان يوم القيامة، يحاسب الله «عز وجل» عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم؛ من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا «الصوم» فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة.

                                                                                                                              [ ص: 296 ] وقيل: إن الصيام لما كان هو الإمساك عن الطعام، وهذا الإمساك ليس من الأفعال التي تظهر للناس، فكان الصيام مما لا يدخله الرياء؛ لأن الرياء لا يكون إلا بأفعال تظهر للناس، مثل الصلاة، والصدقة، ونحوها.

                                                                                                                              وقيل غير ذلك.

                                                                                                                              قال الشوكاني «رحمه الله»: والظاهر أنه لا حاجة إلى جميع ما ذكروه، فقد صرح في هذا الحديث نفسه بما يرشد إلى ما هو المراد؛ ففي البخاري وغيره ما لفظه: «يترك طعامه، وشرابه، وشهوته من أجلي، الصوم لي، وأنا أجزي به».

                                                                                                                              فهذا؛ قد أفاد أنه لما ترك: طعامه، وشرابه، وشهوته من أجل «ربه عز وجل»: كان الصوم له، أي: لأجله، من غير نفع له في ذلك، بل كان النفع للصائم لما ترك طعامه وشرابه وشهوته لأجل ربه؛ لأن ذلك هو الإخلاص، الذي أمر الله تعالى به عباده، بقوله: مخلصين له الدين) . انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 297 ] فليس بين هذا الحديث القدسي، الذي نحن بصدد شرحه: وبين الحديث القدسي، الذي في الصيام: تعارض. فافهم هذا، وكن من الشاكرين.

                                                                                                                              فإن قلت: قد ثبت في صحيح مسلم، من حديث « ابن مسعود » يرفعه: «ليس أحد أحب إليه المدح من الله تعالى؛ من أجل ذلك مدح نفسه. وليس أحد أغير من الله تعالى؛ من أجل ذلك حرم الفواحش. وليس أحد أحب إليه العذر من الله تعالى؛ من أجل ذلك أنزل الكتاب، وبعث الرسل»: قلت: لا تلازم بين كون الشيء محبوبا، وكون من حصلت له المحبة له نفع فيه؛ فقد يحب الإنسان من صفات الخير، وإن كان لا نفع له فيها، ولا ضر عليه في تركها، كما يجده كل عاقل، عند ظهور الخصال المحمودة، المطابقة لمنهج الشرع: كالعدل، وظهور السنن، وارتفاع البدع.



                                                                                                                              (مدحه تعالى من عباده: شكر له)

                                                                                                                              وإنما أحب ذلك سبحانه؛ لأن مدحه من عباده: هو الشكر له، على ما أفاضه عليهم من النعم، وذلك من أعظم ما يتقربون به إليه، ويتوسلون به إلى مرضاته، فيحصل لهم بذلك الفوز بالنعيم الأبدي، والخير الأخروي.

                                                                                                                              [ ص: 298 ] ولهذا طلب «سبحانه» منهم: القيام بما شرعه لهم، والكف عما نهاهم عنه، وليس ذلك إلا لفائدة عائدة عليهم، ونعمة حاصلة لهم.

                                                                                                                              فالمدح منهم لربهم: هو من أعظم أسباب خيرهم الآجل والعاجل؛ ولهذا يقول الله «عز وجل»: لئن شكرتم لأزيدنكم .

                                                                                                                              وصح في أدعية الصباح والمساء: أن العبد إذا قال في صباحه: «اللهم! ما أصبح بي من نعمة، أو بأحد من خلقك: فمنك وحدك، لا شريك لك، فلك الحمد، ولك الشكر»: فقد أدى شكر يومه. ومن قال ذلك حين يمسي: فقد أدى شكر ليلته. أخرجه أبو داود، والنسائي، : وابن حبان (وصححه) : من حديث «عبد الله بن غنام البياضي» وجود النووي إسناده. وأخرجه أيضا « ابن حبان » في صحيحه: من حديث ابن عباس .

                                                                                                                              وبالجملة: فندب الله «عز وجل» لعباده إلى مدحه، هو مثل ندبه لهم إلى شكره وحمده. والنفع في ذلك كله للعباد، وتعالى وتقدس [ ص: 299 ] ربهم «عز وجل»: أن يكون له في ذلك نفع أو في تركه ضر.

                                                                                                                              وانظر إلى ما اقترنت به محبته «عز وجل» للمدح من عباده في هذا الحديث: من الغيرة التي من أجلها حرم الفواحش. والمحبة للعذر، التي من أجلها أنزل الكتاب، وأرسل الرسل؛ فإنه لا يقع في ذهن عاقل أن في ذلك شيئا من النفع والضر، بل كل ذلك لرعاية الرب الرحيم «الذي وسعت رحمته كل شيء» لمصالح عباده.



                                                                                                                              (توحيده، من أعظم المدح له)

                                                                                                                              والحاصل أن تسبيحه «عز وجل» مدح له، وحمده مدح له، وشكره مدح له، وتكبيره مدح له، بل توحيده من أعظم المدح له «سبحانه».

                                                                                                                              وقد رغب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الاستكثار من هذه الأمور، وبين ما فيها من الأجر العظيم للعباد، فعرفت بهذا معنى قوله، صلى الله عليه وآله وسلم: ما أحد أحب إليه المدح من الله. فلا تعارض بينه وبين حديث الباب.



                                                                                                                              [ ص: 300 ] (الفرح بالتوبة)

                                                                                                                              فإن قلت: قد ثبت في الصحيحين وغيرهما: من حديث « أنس » مرفوعا ( لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله بأرض فلاة ».

                                                                                                                              وفي رواية لمسلم : ( لله أشد فرحا بتوبة عبده -حين يتوب- من أحدكم، كان على راحلته، بأرض فلاة، فانفلتت عنه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها-قد أيس من راحلته- فبينما هو كذلك إذ هو بها، قائمة عنده. فأخذ بخطامها، ثم قال -من شدة الفرح-: اللهم! أنت عبدي، وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح ».

                                                                                                                              وفي الصحيحين وغيرهما من حديث «الحارث بن سويد، عن ابن مسعود » (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه، فنام نومة، فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر، والعطش [ ص: 301 ] -أو ما شاء الله- قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده؛ ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه. فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته ».

                                                                                                                              قلت: الفرح منه «عز وجل» بتوبة عبده: هو لعظم لطفه به، ومزيد رأفته عليه؛ لسلامته -بتوبته- من العذاب الأليم، وهذا هو من رحمته «عز وجل» لعباده.

                                                                                                                              ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حاكيا عن الرب عز وجل) أنه قال: « سبقت رحمتي على غضبي ») .

                                                                                                                              [ ص: 302 ] ومعلوم: أن نفع هذه التوبة، هو للعبد. كما أن ضر تركها: هو عليه. وليس للرب «تعالى وتقدس» في ذلك: نفع، ولا عليه «سبحانه» في خلافه: ضرر. فليس بين هذا الحديث وبين حديث الباب: تعارض.

                                                                                                                              والمراد (بالفرح المنسوب إلى الرب «عز وجل») : هو الرضاء بما وقع من ذلك العبد البالغ إلى أشد من الرضى، الحاصل لواجد تلك الضالة، عند وجدانها. فالتعبير عن الرضاء: بالفرح؛ لقصد تأكيد معنى الرضاء في نفس السامع، والمبالغة في تقريره.

                                                                                                                              وقد حكى النووي، في شرح صحيح مسلم عند شرحه لهذا الحديث -عن المازري - أن الفرح ينقسم على وجوه:

                                                                                                                              منها: «السرور». والسرور يقارنه: الرضاء بالمسرور به. ثم ذكر نحو ما ذكرناه. قال في الصحاح: «فرح به»: سر.

                                                                                                                              (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم: قاموا على صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي: إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) .

                                                                                                                              (المخيط) بكسر الميم، وفتح الياء: هو الإبرة.

                                                                                                                              قال النووي : قال العلماء: هذا تقريب إلى الأفهام. ومعناه: لا ينقص شيئا أصلا. كما قال في الحديث الآخر: « لا يغيضها نفقة » أي [ ص: 303 ] لا ينقصها نفقة؛ لأن ما عند الله لا يدخله نقص. وإنما يدخل النقص: المحدود الفاني. وعطاء الله تعالى «من رحمته وكرمه» وهما صفتان قديمتان، لا يتطرق إليهما نقص. فضرب المثل «بالمخيط في البحر» لأنه غاية ما يضرب به المثل في القلة. والمقصود: التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه؛ فإن البحر: من أعظم المرئيات عيانا وأكبرها. والإبرة من أصغر الموجودات، مع أنها صقيلة، لا يتعلق بها ماء. والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: انظر إلى هذا الكرم الفياض، والعطاء الجم، فإن اجتماع جميع الإنس والجن: أولهم وآخرهم، في مكان واحد، ثم تفضله عز وجل بإعطاء كل سائل مسألته، على أي صفة كانت. وفي أي مطلب من المطالب اتفقت: كرم لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه.

                                                                                                                              ولعل المراد (من هذا الإخبار الرباني لعبيده الضعفاء، الذين خلقهم، وأحياهم، ورزقهم، ثم يميتهم، ثم يحييهم الحياة الأبدية، إما لنعيم مقيم، أو لعذاب أليم) : هو تأكيد استغنائه «عز وجل» عنهم، وعدم حاجته إليهم. وأن من كان هذا شأنه: يعطي جميع العالم من الجن والإنس -عند اجتماعهم المفروض أولهم وآخرهم- كل سائل مسألته، وكل مستعط عطيته: هو ذو الغناء المطلق، الذي لا يتعاظمه شيء.

                                                                                                                              [ ص: 304 ] ثم ترغيبهم في سؤاله واستعطائه، وأنه عز وجل لا تفنى خزائن ملكه، ولا ينقص بالعطاء بحار كرمه، ولا يؤثر فيها سؤال السائلين، وإن كانوا في الكثرة على هذه الصفة، التي تقصر العقول عن الإحاطة ببعض البعض، من أهل عصر من العصور. فكيف بجميع الناس، من عند آدم إلى آخر الدهر؟!

                                                                                                                              فكيف إذا انضم إليهم الجن، أولهم وآخرهم؟! فسبحانه! ما أعظم شانه! لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.

                                                                                                                              لا جرم: إذا ضاقت أذهان العباد عن تصور كرمه وتفضله، فهو خالق الكل، ورب العالم، وليس عالم الإنس والجن بالنسبة إلى كل عالم من المخلوقات إلا القدر اليسير، وهو يعطي الكل، ويرزق الجميع، كما أنه خالق الكل، وموجد الجميع.

                                                                                                                              ثم إرشادهم: إلى الإنفاق في سبيل الخير؛ لأنه إذا كان شأنه هذا الشأن العظيم من إعطاء السائلين، فهو قد تكفل لهم بأن يخلف عليهم ما أنفقوه، كما قال في كتابه العزيز: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين .

                                                                                                                              انظر إلى هذه الآية الكريمة، فإنه «سبحانه» أخبرهم بأنه يخلف لهم كل ما أنفقوه، وجاء بهذه الكلمة الشاملة؛ فإن قوله: وما أنفقتم [ ص: 305 ] يفيد -بعمومه المستفاد من الشرطية الكلية- أنه يخلف لهم كل حقير وجليل؛ من أنواع ما أنفقوه.

                                                                                                                              ثم أكد ذلك بقوله: «من شيء» فإنه يتناول ما يصدق عليه لفظ «الشيء» وهو يصدق على «الخردلة» إذ لا خلاف أنها «شيء» بل يصدق على أقل جزء من أجزائها.

                                                                                                                              ثم ذيل «هذه الجملة الشرطية» بقوله: وهو خير الرازقين فانظر إلى ما في هذه الجملة التذييلية: من تطمين خواطر المنفقين، وتشويقهم إلى ما يخلفه عليهم: «من هو خير الرازقين» فإن في ذلك ما يجذب خواطر المتقين: إلى أن يكونوا من المنفقين، المنتظرين لما وعدهم به «خير الرازقين».

                                                                                                                              فإن كونه «خير الرازقين» لا يكون ما يخلفه عليهم إلا أضعاف أضعاف ما ينفقون. كما تراه في أحوال بني آدم؛ فإن من كان منهم موصوفا بالكرم: لا يكافي إلا بالكثير، الذي يكون بالنسبة إلى ما كافى به عليه فوقه بكثير.

                                                                                                                              فكيف إذا كان ملكا من ملوك الدنيا، الذي ينزعه إلى الكرم: عرق؟!

                                                                                                                              فكيف: إذا كان ملك الملوك، وربهم، وخالقهم، ورازقهم؟!

                                                                                                                              ومع هذا الخلف الذي يخلفه على المنفقين، فلهم الجزاء الأخروي، بما أنفقوا: « الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف » كما وعد به الرب [ ص: 306 ] سبحانه، في كتابه العزيز.

                                                                                                                              فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .

                                                                                                                              وقد ورد (في السنة المطهرة) الترغيب في الإنفاق، بالأحاديث الكثيرة الصحيحة:

                                                                                                                              منها ما في الصحيحين وغيرهما: من حديث أبي هريرة (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى يكون مثل الجبل ».

                                                                                                                              وأخرج مسلم والترمذي : من حديثه أيضا يرفعه «ما نقصت [ ص: 307 ] صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا. وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل».

                                                                                                                              وأخرج مسلم: من حديثه مرفوعا « يقول العبد: مالي مالي، وما له من ماله إلا ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأبقى. وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس ».

                                                                                                                              وأخرج البخاري والنسائي : من حديث « ابن مسعود » (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله؟ ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: «فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر ») .



                                                                                                                              [ ص: 308 ] (ولو بشق تمرة)

                                                                                                                              وفي الصحيحين: من حديث «عدي بن حاتم» (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ») .

                                                                                                                              وأخرج آخره أحمد : بإسناد صحيح: من حديث « ابن مسعود » بلفظ: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « ليتق أحدكم وجهه، ولو بشق تمرة ») .

                                                                                                                              وأخرجه أحمد : أيضا، بإسناد حسن: من حديث « عائشة » بلفظ: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « استتري من النار ولو بشق تمرة؛ فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان ») .

                                                                                                                              وقد أخرج نحوه: أبو يعلى والبزار، من حديث « أبي بكر الصديق » [ ص: 309 ] رضي الله عنه.

                                                                                                                              وروي نحوه أيضا: من حديث « أنس، وأبي هريرة ، وأبي أمامة، والنعمان بن بشير ») .

                                                                                                                              وأخرج الترمذي (وصححه) : من حديث « معاذ بن جبل » (أنه قال له صلى الله عليه وآله وسلم: « ألا أدلك على أبواب الخير؟» قلت بلى، يا رسول الله! قال: «الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ») .

                                                                                                                              وأخرج نحوه: ابن حبان في (صحيحه) : من حديث كعب بن عجرة .

                                                                                                                              وأخرجه الترمذي (وحسنه) وابن حبان (وصححه) : من حديث [ ص: 310 ] « أنس » (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء ») .

                                                                                                                              وأخرج الترمذي (وصححه) وابن ماجه : من حديث « أبي كبشة الأنماري » (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه: « ما نقص مال عبد من صدقة ») .

                                                                                                                              وفي الصحيحين وغيرهما: من حديث أبي هريرة (قال: ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين، عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه، حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره. وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت، وأخذت كل حلقة بمكانها ») .

                                                                                                                              [ ص: 311 ] وأخرج أحمد، وابن خزيمة، والحاكم (وصححه) : من حديث « عقبة بن عامر » (قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « كل امرئ في ظل صدقته، حتى يقضى بين الناس» قال يزيد بن حبيب: فكان أبو مرثد لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء، ولو كعكة، أو بصلة ) .

                                                                                                                              وأخرج أحمد والبزار، و الطبراني، وابن خزيمة (في صحيحه) ، والحاكم (وصححه) ، والبيهقي : عن « بريدة » مرفوعا ( لا يخرج رجل [ ص: 312 ] شيئا من الصدقة، حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطانا ») .

                                                                                                                              وفي الصحيحين وغيرهما: من حديث « أنس » (قال: لما نزلت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال: يا رسول الله! إن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح ») .

                                                                                                                              وأخرج البيهقي، عن أنس (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « باكروا بالصدقة؛ فإن البلاء لا يتخطى الصدقة ») .

                                                                                                                              [ ص: 313 ] وأخرج الترمذي (وصححه) وابن خزيمة، وابن حبان (في صحيحه) ، والحاكم (وصححه) ( أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: «إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بهن، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن» فذكر الحديث، إلى أن قال فيه: «وأمركم بالصدقة. ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقربوه ليضربوا عنقه، فجعل يقول: هل لكم أن أفدي نفسي منكم؟ وجعل يعطي القليل والكثير، حتى فدى نفسه ») الحديث.

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : من حديث « عمرو بن عوف » (قال: قال رسول الله صلى الله، عليه وآله وسلم: « إن صدقة المسلم تزيد في العمر، وتمنع ميتة السوء، ويذهب بها الكبر والفخر ») .

                                                                                                                              وأخرج ابن خزيمة، وابن حبان : (في صحيحيهما) والحاكم : من حديث أبي هريرة (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله [ ص: 314 ] وسلم: « من جمع مالا حراما، ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه ») وفي إسناده: « رواح أبو السمح » وهو ضعيف.

                                                                                                                              وأخرج ابن خزيمة (في صحيحه) : من حديث أبي هريرة (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « خير الصدقة: ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى. وابدأ بمن تعول ») .

                                                                                                                              وأخرج أبو داود، وابن خزيمة (في صحيحه) ، والحاكم (وقال: صحيح) من حديث أبي هريرة أيضا (أنه قال: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل: قال: «جهد المقل. وابدأ بمن تعول») .

                                                                                                                              وأخرج الترمذي (وصححه) ، وابن حبان في (صحيحه) : عن « أم بجيد » (أنها قالت: يا رسول الله! إن المسكين ليقوم على بابي، فما أجد له شيئا أعطيه إياه، فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «إن لم تجدي له شيئا تعطيه إياه إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه في يده») .

                                                                                                                              [ ص: 315 ] وفي الصحيحين وغيرهما: من حديث أبي هريرة يرفعه « ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا وملكان ينزلان من السماء، فيقول أحدهما: اللهم! أعط منفقا خلفا. ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكا تلفا ».

                                                                                                                              وفي الصحيحين وغيرهما: من حديثه أيضا ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «قال الله تعالى: يا عبدي! أنفق أنفق عليك». وقال: «يد الله ملآء لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. أرأيتم: ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما بيده. وكان عرشه على الماء، بيده الميزان يخفض ويرفع») .

                                                                                                                              [ ص: 316 ] وأخرج مسلم والترمذي : من حديث « أبي أمامة » يرفعه: « يا ابن آدم! إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى ».

                                                                                                                              وأخرج أحمد، وابن حبان (في صحيحه) ، والحاكم (وصححه) ، والبيهقي : عن « أبي الدرداء » ( أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما طلعت شمس قط إلا وبجنبها ملكان يناديان: اللهم! من أنفق فأعقبه خلفا، ومن أمسك فأعقبه تلفا») .

                                                                                                                              وفي الصحيحين وغيرهما: من حديث « أسماء بنت أبي بكر » (قالت: قال لي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: « لا توكي فيوكى عليك ») .

                                                                                                                              [ ص: 317 ] وفي رواية: « أنفقي (أو انفحي، أو انضحي) ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك ».

                                                                                                                              وفي الصحيحين وغيرهما: من حديث « ابن مسعود » يرفعه قال: ( لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها ») .

                                                                                                                              وفي رواية: « لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ».

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : (في الكبير) وأبو الشيخ، وابن حبان، والحاكم (وصححه) : من حديث « بلال » (قال: قال لي رسول الله صلى الله [ ص: 318 ] عليه وآله وسلم: «يا بلال! مت فقيرا، ولا تمت غنيا» قلت: وكيف بذلك يا رسول الله؟ قال: «ما رزقت فلا تخبأ، وما سئلت فلا تمنع». فقلت: يا رسول الله! وكيف لي بذلك؟ فقال: «هو ذاك أو النار») .

                                                                                                                              وأخرج الطبراني : في (الكبير) بإسناد رجاله ثقات، محتج بهم في الصحيحين، من حديث « سهل بن سعد الساعدي » قال: كانت عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، سبعة دنانير، وضعها عند عائشة . فلما كان عند مرضه، قال: «يا عائشة ! ابعثي بالذهب إلى علي» ثم أغمي عليه، وشغل عائشة ما به، حتى قال ذلك مرارا، كل ذلك يغمى على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ويشغل عائشة ما به، فبعثت إلى علي، فتصدق بها، وأمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديد الموت، لليلة الاثنين. فأرسلت عائشة بمصباح لها إلى امرأة من نسائه، فقالت: أهدي لنا -في مصباحنا من عكتك- السمن، فإن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أمسى في حديد الموت »)

                                                                                                                              [ ص: 319 ] وأخرج ابن حبان (في صحيحه) معناه، من حديث « عائشة ».

                                                                                                                              وأخرج أحمد، بإسناد رجاله رجال الصحيح، عن « عبد الله بن الصامت الغفاري البصري » وهو ثقة (قال: كنت مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية له. فجعلت تقضي حوائجه، ففضل معها سبعة، فأمرها أن يشتري بها قلوصا. قال: قلت: لو أخرته للحاجة، تنوبك، أو للضيف ينزل بك؟ قال: إن خليلي عهد إلى: أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه، حتى يفرغه في سبيل الله، عز وجل ») .

                                                                                                                              وأخرجه الطبراني : بإسناد رجاله رجال الصحيح.

                                                                                                                              وأخرج أبو يعلى بإسناد رجاله ثقات، والبيهقي، من حديث « أنس » (قال: أهديت للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ثلاث طوائر، فأطعم خادمة طائرا، فلما كان من الغد أتته بها، فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد، فإن الله يأتي [ ص: 320 ] برزق غد ») .

                                                                                                                              وأخرج ابن حبان (في صحيحه) والبيهقي : من حديث «أنس» (قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: لا يدخر شيئا لغد ) .

                                                                                                                              وأخرج مسلم وغيره، من حديث « أنس » (أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقول: «اللهم! إني أعوذ بك: من البخل، والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات») .

                                                                                                                              وأخرج الترمذي : من حديث « أبي سعيد » (قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: « خصلتان لا يجتمعان في قلب مؤمن: البخل، وسوء الخلق ») .

                                                                                                                              [ ص: 321 ] وأخرج أبو داود والترمذي بإسناد رجاله ثقات، من حديث أبي هريرة يرفعه: « المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم ».

                                                                                                                              ( يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .

                                                                                                                              لما ذكر لهم «سبحانه وتعالى» أولا: ما هو رأس مصالح المعاش والمعاد، وهو تحريم الظلم، وأنه حرمه على نفسه، وجعله محرما بينهم.

                                                                                                                              ثم نهاهم عن التظالم: ليتم لهم فيما بينهم: سيرة العدل، ومسلك الخير.

                                                                                                                              ثم ذكر لهم ثانيا: أنهم على ضلال، إلا من هداه الله «عز وجل» وأخرجه من ظلمات الضلال إلى أنوار الهداية. وأمر بأن يطلبوا منه الهداية؛ ليظفروا بها بخير الآخرة، ويفوزوا: بالنعيم المقيم.

                                                                                                                              ثم ذكر لهم ثالثا: أن ما يحتاجون إليه في هذه الدار مما تدعو الضرورة إليه، ولا يتم المعاش إلا به.

                                                                                                                              وهو قوام الأنفس: من الطعام.

                                                                                                                              ووقاية الأبدان: من ضرر ما لا بد منه من البرد وستر العورات.

                                                                                                                              وهو من فضله العميم، وجوده الواسع.

                                                                                                                              [ ص: 322 ] وأمرهم: أن يطلبوا ذلك منه؛ ليتفضل به عليهم، ويعطيهم طلبتهم، ويسعفهم بقضاء حاجتهم.

                                                                                                                              ثم ذكر لهم ما جبلوا عليه من كثرة الخطايا، في غالب أوقاتهم. وندبهم إلى ما يمحو ذلك عنهم، ويزيل أثره. «وهو الاستغفار». ووعدهم: أنه سيغفر لهم، ويتجاوز عن سيئاتهم.

                                                                                                                              ثم ذكر لهم: أنه فعل ما فعل بهم، وتفضل بما تفضل به عليهم: من غير أن يكون له منهم فائدة، أو عليه مضرة.

                                                                                                                              وأنه إنما أعطاهم ما أعطاهم، ومنحهم ما منحهم بمجرد الفضل العظيم، والكرم الجسيم.

                                                                                                                              ثم أخبرهم: بأن عطاءه الجم، وتفضله العم: لا ينقص بكثرة العطايا، وإن بلغت أبلغ المبالغ، ووصلت إلى حد يقصر عنه الوصف، ويضيق الذهن عن تصوره، وتقصر العقول عن إدراكه.

                                                                                                                              ثم بعد هذا كله أخبرهم: أن ما وجدوه من الخير، فهو من إنعامه عليهم، لا من كسبهم، ولا من سعيهم.

                                                                                                                              ثم أمرهم: بالحمد له «سبحانه» عليه، وما وجدوه من غير الخير فهو عقوبة أعمالهم، جزاء ضلالهم، فليعودوا باللوم على أنفسهم، فهي الجالبة لذلك عليهم، وعلى نفسها «براقش» تجني.

                                                                                                                              ولولا رحمة الله «التي وسعت كل شيء»، ومغفرته للمستغفرين، وتوبته على التائبين: لكانوا أحقاء بما كان لأعمالهم جزاء وفاقا، ولكسب أيديهم مثلا طباقا. فسبحان من كتب على نفسه الرحمة، ومن سبقت رحمته غضبه.

                                                                                                                              [ ص: 323 ] وما في هذا الحديث: هو مثل ما في الكتاب العزيز من قوله عز وجل: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وقوله سبحانه: لتجزى كل نفس بما تسعى وقوله سبحانه: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) . .

                                                                                                                              ولا ينافي ما في هذه الآيات قوله عز وجل: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلى آخر الآية؛ لأن غاية ما في هذه الآية أن ذلك سابق في الكتاب واللوح المحفوظ، وكل أسباب الخير والشر -سواء كانت من العبد أو من غيره- هي في الكتاب، قد سبق العلم بها، وجف القلم بما هو كائن.

                                                                                                                              ومثل هذا قوله عز وجل: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) .

                                                                                                                              والكلام في هذا البحث يطول.

                                                                                                                              والحاصل: أنه لا تعارض بين سبق العلم، (وكون ما وقع من العبد هو بقضاء الله، وقدره) وبين عقوبة العاصي بمعصيته.

                                                                                                                              وهذا لا يفهمه إلا من فهم الفرق بين الحقائق الكونية والحقائق الدينية.

                                                                                                                              (قال سعيد) بن عبد العزيز، الراوي عن ربيعة بن يزيد، عن [ ص: 324 ] أبي إدريس: (كان أبو إدريس الخولاني ) المذكور (إذا حدث بهذا الحديث: جثا على ركبتيه) .

                                                                                                                              سبب هذا -عند رواية هذا الحديث العظيم- ما اشتمل عليه من المواعظ، والزواجر، والترغيبات، والترهيبات، والبشارات، والإنذارات.

                                                                                                                              وحق لمن له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد: أن يحصل معه -عند رواية هذا الحديث أو سماعه- ما يرجف له قلبه، ويقشعر له جلده؛ خوفا من الله عز وجل، وتعظيما لشأنه العظيم، وتفخيما لأمره الكريم.

                                                                                                                              هذا؛ وأقول: هذا الحديث القدسي المروي من طريق أبي ذر وغيره -لما اشتمل على غرر قواعد جليلة، ودرر فوائد جميلة، يرغب إليها كل ذي فهم، ويحرص عليها كل ذي علم- أحببت أن أبسط في شرحه، منبها على بعض ما تضمنه من نفائس الفرائد، ولطائف العوائد، التي هي لشوارد المسائل كقيد الأوابد.

                                                                                                                              ولم أقف على كلام عليه لأحد، من أهل العلم: إلا ما ذكره النووي، في شرحه لمسلم، وجملة ما شرحه نحو نصف ورقة، قد نقلنا ذلك عنه، كما وقفت عليه في مطاوي فحاوي شرحنا هذا عليه، ولفظه «في صحيح مسلم» ما تقدم منجما.

                                                                                                                              وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه، من طريق « شهر بن حوشب » عن عبد الرحمن بن غنم، وقد جمع طرقه وألفاظه العلامة الرباني « محمد بن علي الشوكاني » «رحمه الله» في مختصر لطيف، [ ص: 325 ] وشرحها شرحا بسيطا، سماه: «نثر الجوهر على حديث أبي ذر » وقد استفدت منه في هذه المواضع.

                                                                                                                              ولم أتعرض لشرح سائر رواية الترمذي، وابن ماجه؛ حذرا من الإطالة.

                                                                                                                              فإن شئت أن تقف عليه فارجع إليه.

                                                                                                                              وهذا القدر الذي حررناه فيه مقنع وبلاغ لقوم يعقلون؛ فإن حرفا واحدا يفيد أولي الألباب، والجاهل المغفل لا ينفعه صحف ولا كتاب، والله أعلم بالصواب. وإليه المنتهى والمآب.




                                                                                                                              الخدمات العلمية