الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم .

[75] والذين آمنوا من بعد أي: بعد السابقين إلى الهجرة الأولى.

وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم أي: من جملتكم، لطف تعالى باللاحقين، فجعلهم من السابقين.

وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله اللوح المحفوظ، فنسخ التوارث بالهجرة، ورد الميراث إلى أولي الأرحام.

إن الله بكل شيء عليم صفة مناسبة لنفوذ هذه الأحكام.

واختلف الأئمة في توريث ذوي الأرحام ممن لا سهم له في القرآن، وهم كل ذي قرابة ليس بذي فرض ولا عصبة، وهم أحد عشر صنفا: أولاد البنات الذكور منهم والإناث، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام، وبنو الإخوة من الأم، والعمات، والأخوال، والخالات، والجد [ ص: 142 ] أبو الأم، والجدة أم أبي الأم، ومن أدلى بهم، فذهب مالك والشافعي أنهم لا يورثون، وبيت المال أولى منهم.

وذهب أبو حنيفة وأحمد: إلى أنهم يورثون، استدلالا بالآية الشريفة، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخال وارث من لا وارث له"، ويقدم الرد عليهم، فإن كان للميتذو فرض لم يستغرق المال، وفضلت منه فضلة، ولم يكن عصبة، فالفاضل مردود عليهم على قدر سهامهم؛ للآية الشريفة، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك مالا فللوارث"، ولا يرد على الزوج والزوجة؛ لأنهما ليسا من أولي الأرحام، وإذا لم يكن للميت عصبة، ولا ذو فرض من أهل الرد، فالميراث لذوي الأرحام ممن ذكر من الأصناف. واختلف مورثاهم في كيفية توريثهم، فقال أبو حنيفة: يورثون على ترتيب العصبات، الأقرب فالأقرب؛ كمن له بنت بنت بنت وأب أم، فهو أولى؛ لأنه أقرب، وإن كان أب أب أم، وعمة؛ أو خالة، فهي أولى؛ لأنها أقرب، ونحو ذلك، فإن استووا في القرب والإدلاء، فإن اتفقت الآباء والأمهات، فالمال بينهما على السواء إن كانوا ذكورا أو إناثا، وإن كانوا [ ص: 143 ] مختلطين، فللذكر مثل حظ الأنثيين، مثاله: بنت بنت ابن، وبنت بنت ابن، المال بينهما على السواء، وكذلك ابن بنت بنت، وابن بنت بنت، وإن كان بنت بنتبنت وابن بنت بنت، المال بينهما أثلاثا، وإن اختلف الأمهات والآباء، فعند أبي يوسف، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمهما الله: العبرة لأبدانهم لا لأصولهم؛ لأن ذوي الأرحام إنما يورثون بالقرابة كالعصبات، وكل واحد مستبد بنفسه في أصل الاستحقاق، فتعتبر الأبدان كالعصبات، وعند محمد، وهو أشهر روايتين عن أبي حنيفة: العبرة لأصولهم، فيقسم المال على أصولهم، ويعتبر الأصل الواحد متعددا بتعدد أولاده، ثم يعطى لكل فرع ميراث أصله، ويجعل كل أنثى تدلي إلى الميت بذكر ذكرا، وكل ذكر يدلي إلى الميت بأنثى أنثى، سواء كان إدلاؤهما بأب واحد أو بأكثر، أو بأم واحدة أو بأكثر، ثم يقسم سهام كل فريق بينهم بالسوية إن اتفقت صفاتهم، وإذا اختلفت، فللذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن الفروع إنما تستحق الميراث بواسطة الأصول، فيجب أن تكون العبرة للأصول.

وقال أحمد: يورثون بالتنزيل، وهو أن يجعل كل شخص بمنزلة من أدلى به، فتجعل ولد البنات والأخوات كأمهاتهم، وبنات الإخوة والأعمام وأولاد الإخوة من الأم كآبائهم، والأخوال والخالات وآباء الأم كالأم، والعمات والعم من الأم كالأب، ثم تجعل نصيب كل وارث لمن أدلى به، فإن أدلى جماعة بواحد، واستوت منازلهم منه، فإن كان أبوهم واحدا، وأمهم واحدة، فنصيبه بينهم بالسوية، ذكرهم وأنثاهم سواء، لأنهم يورثون بالرحم المجرد، فاستوى ذكورهم وإناثهم؛ كولد الأم، وإذا كان ابن وبنت أخت وبنت أخت أخرى، فلبنت الأخت وحدها النصف، وللأخرى وأخيها النصف بينهما، وإن اختلفت منازلهم من المدلي به، جعلته كالميت، [ ص: 144 ] وقسمت نصيبه بينهم على ذلك، ويسقط البعيد بالقريب إن كانا من جهة واحدة؛ كخالة وأم أبي أم، أو ابن خال، فالميراث للخالة؛ لأنها تلقى الأم بأول درجة، وإن كانا من جهتين، نزلت البعيد حتى يلحق بوارثه، سواء سقط به القريب، أو لم يسقط؛ كبنت بنت بنت، وبنت أخ لأخ، المال لبنت بنت البنت بالفرض والرد.

واتفق الأربعة على أن من مات ولا وارث له من ذوي فرض ولا تعصيب ولا رحم، فإن ماله لبيت مال المسلمين.

ثم اختلفوا في صرف التركة إلى بيت المال، فقال الشافعي ومالك: تصرف إرثا، وقال أبو حنيفة وأحمد: ليس بيت المال وارثا، وإنما يحفظ المال الضائع وغيره، فهو جهة ومصلحة، والله أعلم.

* * * [ ص: 145 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية