الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أرجى آية لأهل التوحيد

وهي أرجى آية لأهل التوحيد؛ فإنه تعالى لم يوئسهم عن المغفرة.

عن علي -عليه السلام-: ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [النساء: 48]

وعن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال: «من مات لم يشرك بالله شيئا، دخل الجنة، ومن مات يشرك به، دخل النار» أخرجه مسلم.

والمعنى: اختلق ذنبا كبيرا غير مغفور، إن مات عليه.

وقال تعالى: الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [النساء:87].

هذه الآية فيها بيان التوحيد، نزلت في منكري البعث، ومن أصدق من الله حديثا؟!

وقد نص على حشر الأموات من القبور، وجمعهم للحساب في يوم لا ريب في إتيانه، ومن أنكر البعث، أنكر التوحيد.

وقال تعالى: ولا تقولوا ثلاثة [النساء: 171]. أي: لا تقولوا: آلهتنا ثلاثة كما قالت النصارى، وهم مع تفرق مذاهبهم متفقون على التثليث.

ويعنون به: «الثلاثة»: الثلاثة الأقانيم، فيجعلونه سبحانه جوهرا واحدا له ثلاثة أقانيم، ويعنون بها: أقنوم الوجود، وأقنوم الحياة، وأقنوم العلم، ويعبرون عنها بالأب: الوجود، وبالروح: الحياة، وبالابن: المسيح.

وقيل: المراد بالآلهة الثلاثة: الله -سبحانه وتعالى-، ومريم، والمسيح.

وقد اختبط النصارى في هذا اختباطا طويلا. [ ص: 27 ]

وقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها اسم الإنجيل عندهم على اختلاف كثير في عيسى:

فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان، وتارة يوصف بأنه ابن الله، وأخرى بأنه ابن الرب.

وهذا تناقض ظاهر، وتلاعب بالدين.

والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة، أو الإنجيل، أو الزبور، فهو من تحريف المحرفين، وتلاعب المتلاعبين.

ومن أعجب ما رأيناه: أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحل من أصحاب عيسى - عليه السلام -.

وحاصل ما فيها جميعا: أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه، وذكر ما جرى له من المعجزات، والمراجعات لليهود، ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ، والضبط، وذكر ما قال عيسى -عليه السلام- وقيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء، ولا أنزل على عيسى من عنده كتابا، بل كان عيسى -عليه السلام- يحتج عليهم بما في التوراة، ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها.

وهكذا الزبور: فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود -عليه السلام-.

وكلام الله أصدق، وكتابه أحق، وقد أخبرنا أن الإنجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى بن مريم -عليهما السلام-، وأن الزبور كتابه آتاه داود، وأنزله عليه.

انتهوا خيرا لكم ؛ أي: عن التثليث.

إنما الله إله واحد لا شريك له، ولا صاحبة له، ولا ولد، سبحانه أن يكون له ولد؛ لأن الولد جزء من الأب، وهو متعال عن التجزئة، وصفات الحدوث.

[ ص: 28 ] ولكن جعل هؤلاء الكفار له من عباده جزءا، إن الإنسان لكفور.

وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [المائدة:72].

أي: إن الله كل في ذات عيسى، وإن مريم ولدت إلها.

فرد الله عليهم بقوله: وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم .

أي: فكيف يدعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم، ودلائل الحدوث ظاهرة عليه؟

وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة [المائدة:73].

القائل بهذا: هم النصارى، والمراد بالثلاثة: الله، وعيسى، ومريم، كما يدل عليه قوله تعالى: قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من [المائدة:116]، وهذا هو المراد بقولهم: ثلاثة أقانيم: أقنيم الأب، وأقنيم الابن، وأقنيم روح القدس، وقد تقدم الكلام على ذلك.

وهو كلام معلوم البطلان، ولا ترى في الدنيا مقالا أشد فسادا، ولا أظهر بطلانا من مقالة النصاري.

وما من إله إلا إله واحد . فيه بيان التوحيد؛ أي: ليس في الوجود إله لا ثاني له، ولا شريك له، ولا ولد له، ولا صاحبة له إلا الله سبحانه.

ولفظة: «من» لتأكيد الاستغراق المستفاد من النفي. قاله الزمخشري.

وإن لم ينتهوا عما يقولون [المائدة:73] من الكفر، وهذه المقالة الخبيثة، ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ؛ أي: شديد الألم وجيع في الآخرة.

وقال تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن [الأنعام: 100]. أي: فعبدوهم كما عبدوه، وعظموهم كما عظموه، أي: أطاعوهم في عبادة الأوثان.

وقيل: المراد بالجن هنا: الملائكة؛ لاجتنانهم؛ أي: استتارهم، وهم الذين قالوا: الملائكة بنات الله.

وقيل: نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله تعالى وإبليس أخوان.

[ ص: 29 ] فالله خالق الناس والدواب، وإبليس: خالق الحيات، والسباع، والعقارب.

قاله الكلبي، وابن السائب، وابن عباس.

ويقرب من هذا قول المجوس: للعالم صانعان: هما الرب، والشيطان.

وفي لغتهم: الرب «يزدان»، والشيطان «أهرمن»، وهكذا القائلون بأن كل خير من النور، وكل شر من الظلمة، وهم المانوية.

وخلقهم ؛ أي: وقد علموا أن الله خلقهم، أو خلق ما جعلوه شركاء لله.

وهذا الدليل القاطع على أن المخلوق لا يكون شريكا لله، وكل ما في الكون محدث مخلوق، فامتنع أن يكون شريكا له.

وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ؛ أي: تباعد، وارتفع عن قولهم الباطل الذي وصفوه به.

بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم [الأنعام: 101] جملة مقررة لما قبلها؛ لأن من كان خالقا لكل شيء، استحال منه أن يتخذ بعض مخلوقاته ولدا.

وهذه الآية حجة قاطعة على فساد قول النصارى.

وهو بكل شيء عليم لا يخفى عليه من مخلوقاته خافية.

ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء [الأنعام: 102]؛ أي: مما سيكون كما خلق في الماضي.

ومن كانت هذه صفاته، فهو الحقيق بالعبادة التي في التوحيد الخالص، والإسلام السالم عن كدر الشرك، وشوب الكفر.

فاعبدوه ولا تعبدوا غيره، من ليس له من هذه الصفات العظيمة شيء.

وهو على كل شيء وكيل ؛ أي: رقيب حفيظ.

وقال تعالى: لقد أرسلنا نوحا إلى قومه . [المؤمنون: 23]، وهو أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم -عليه السلام-.

وقال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق. [ ص: 30 ]

وما قيل: إن إدريس قبل نوح، فقال ابن العربي: إنه وهم.

قال الماوردي: فإن صح ما ذكره المؤرخون، كان محمولا على أن إدريس كان نبيا غير مرسل.

فقال يا قوم اعبدوا الله ؛ أي: وحدوه بالعبادة، والطاعة الخالصة عن الشرك.

ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم إن عبدتم غيره عذاب يوم عظيم فيه بيان دعاية الأنبياء إلى توحيد الرب، وتسجيل بالعذاب العظيم على عابدي غيره -سبحانه وتعالى-.

وقال تعالى: وإلى عاد أخاهم هودا [الأعراف: 65]؛ قال المفسرون: سماه أخا؛ لكونه ابن آدم مثلهم، وبه قال الزجاج.

والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية