الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال تعالى : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده [يونس : 34] ؛ أي : التي تزعمون أنها آلهة ، هل منهم من يقدر على أن ينشئ الخلق من العدم على غير مثال سبق ، ثم يعيده بعد الموت في القيامة كهيئته أول مرة للجزاء ؟

قال أبو السعود : هذا احتجاج آخر على حقيقة التوحيد ، وبطلان الإشراك بإظهار كون شركائهم بمعزل عن استحقاق الألوهية ، ببيان اختصاص خواصها من بدء الخلق ، وإعادته .

قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق إلى قوله : وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ، ولم يكن ذلك عن بصيرة .

أي : ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقربهم إلى الله ، وأنها تشفع [ ص: 258 ] لهم ، ولم يكن ظنه هذا لمستند قط ، بل مجرد خيال مختل ، وحدس باطل ، فقلدوا فيه آباءهم ، ولعل تنكير «الظن » هنا للتحقير .

إن الظن لا يغني من الحق شيئا .

وقال تعالى : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [يونس : 66] .

الخرص : التخمين ، والتقدير ، ويستعمل بمعنى الكذب ؛ لغلبته في مثله .

وقال تعالى : ولا تكونن من المشركين [يونس : 105] خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين .

فيه النهي عن عبادة غير الله ، وأن غيره تعالى لا يقدر على إيصال النفع ، ودفع الضرر ، وأن الشرك ظلم ، والمشرك من الظالمين .

وقال تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله [النحل : 36] .

وحده لا شريك له .

واجتنبوا الطاغوت ؛ أي : اتركوا كل معبود دون الله ؛ كالشيطان ، والكاهن ، والصنم ، وكل من دعا إلى ضلال ، كائنا من كان ، وفي أي مكان ، وزمان كان .

وفي هذه الآية التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته ، واجتناب عبادة الشيطان ، وإطاعة كل من يدعو إلى الضلال من نوع الإنسان .

وقال تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين [البقرة : 62] .

هم قوم يعبدون النجوم ، وقيل : هم من جنس النصارى ، وليس ذلك بصحيح ، بل هم فرقة معروفة لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء .

والنصارى والمجوس هم الذين يعبدون النار ، ويقولون: إن للعالم أصلين : «النور ، و «الظلمة » .

وقيل : هم يعبدون الشمس والقمر .

وقيل : هم يستعملون النجاسات . [ ص: 259 ]

وقيل : هم قوم من النصارى اعتزلوا ، ولبسوا المسوح .

وقيل : إنهم أخذوا بعض دين اليهود ، وبعض دين النصارى .

والذين أشركوا الذين يعبدون الأصنام .

إن الله يفصل بينهم يوم القيامة .

الفصل : هو أن يميز المحق من المبطل بعلامة يعرف بها كل واحد منهما .

وقال تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت [الحج : 26] وقد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان ، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها ، فكنست مكان البيت ، فبناه على أسه القديم .

أن لا تشرك بي شيئا ؛ أي : أوحينا إليه أن لا تعبد غيري .

قال المبرد : كأنه قيل له : وحدني في هذا البيت .

وقيل : الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا ضعيف جدا .

وقال سبحانه : يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله [الحج : 73] هم الأصنام التي كانت حول الكعبة ، وغيرها .

وقيل : المراد بهم : السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله لكونهم أهل الحل والعقد فيهم .

وقيل : الشياطين الذين حملوهم على معصية الله .

والأول أوفق بالمقام ، وأظهر في التمثيل ، ويصح العموم .

لن يخلقوا ذبابا «لن » لتأكيد النفي في المستقبل ، وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل .

وتخصيص الذباب ؛ لمهانته ، واستقذاره مع كونه صغير الحجم ، حقير الذات ، وهو أجهل الحيوانات ؛ لأنه يرمي نفسه في المهلكات .

ولو اجتمعوا له ؛ أي : إن اجتمعت الأصنام ، فهي لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها ، فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودة ؟ ! [ ص: 260 ]

وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ؛ أي : إن أخذ ، واختطف منهم هذا الخلق الأقل الأرذل شيئا من الأشياء بسرعة ؛ لا يقدرون على تخليصه منه ؟ لكمال عجزهم ، وفرط ضعفهم .

وإذا عجزوا عن هذا ، فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرما ، وأشد منه قوة أعجز ، وأضعف .

ضعف الطالب والمطلوب والصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب ، أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه ، والمطلوب : الذباب .

وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف .

ولو حققت ، وجدت الطالب أضعف .

فإن الذباب حيوان ، وهو جماد ، وهو غالب ، وذلك مغلوب .

وقيل : الطالب : عابد الصنم ، والمطلوب : الصنم .

وقال ابن عباس : الطالب : آلهتهم ، والمطلوب : الذباب .

ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حق معرفته ، فقال :

ما قدروا الله حق قدره [الحج : 74] ؛ حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له ، مع كون حالها هذا الحال .

إن الله لقوي عزيز لا يغالبه أحد ، بخلاف آلهة المشركين ؛ فإنها جماد لا يعقل ، ولا ينفع ، ولا يضر ، ولا يقدر على شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية