الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الآية الثانية : فما تكلم فيها ببنت شفة ، بل أحال تفسيرها على الأولى ، وقال : مر تفسيره في هذه السورة .

وقال الإمام الحجة العلامة علاء الدين علي بن محمد البغدادي الصوفي المعروف بالخازن في تفسيره «لباب التأويل » تحت تفسير الآية الأولى :

قال ابن جرير الطبري : معناه : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا ، وإن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .

فعلى هذا يكون في الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع .

وقيل : إن الآية نزلت في «وحشي » ، وأصحابه ، وذلك لما قتل حمزة -رضي الله تعالى عنه - ، ورجع إلى مكة ، ندم هو وأصحابه ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إنا قد ندمنا على ما صنعنا ، وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك بمكة تقول : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [الفرقان : 68] إلى آخر الآيات ، وقد دعونا مع الله إلها آخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، وزنينا ، فلولا هذه الآيات لاتبعناك ، فنزلت : إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ، [الفرقان : 70] الآيتين .

فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فلما قرؤوهما ، كتبوا إليه : إن هذا شرط شديد ، ونخاف ألا نعمل عملا صالحا ، فنزلت : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فبعث بها إليهم . [ ص: 339 ]

فبعثوا : إنا نخاف ألا نكون من أهل المشيئة ، فنزلت : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [الزمر : 53] الآية .

فبعث بها إليهم ، فدخلوا في الإسلام ، ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل منهم .

ثم قال لوحشي : «أخبرني كيف قتلت حمزة ؟ » ، فلما أخبره ، قال:

«ويحك ! ! غيب وجهك عني » ، فلحق بالشام ، فكان به إلى أن مات
.

وقيل : لما نزلت قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية قام رجل ، فقال : يا رسول الله ! والشرك ؟ فسكت ، ثم قام إليه مرتين ، أو ثلاثا ، فنزلت هذه الآية .

ومعنى الآية : إن الله تعالى لا يغفر لمشرك مات على شركه ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .

يعني : ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من أصحاب الذنوب ، والآثام .

ففي الآية دليل على أن صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة ، فإنه في خطر المشيئة : إن شاء عفا عنه ، وأدخله الجنة بمنه ، وكرمه ، وإن شاء عذبه بالنار ، ثم أدخله الجنة برحمته ، وإحسانه ؛ لأن الله تعالى وعد المغفرة لما دون الشرك ، فإن مات على الشرك ، فهو مخلد في النار ؛ لقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .

وفي الآية رد على المعتزلة ، والقدرية حيث قالوا : لا يجوز في الحكمة أن يغفر لصاحب كبيرة .

وعند أهل السنة : الله تعالى يفعل ما يشاء : لا مكره [له] ، ولا حجر عليه .

ويدل على ذلك أيضا ما روي عن ابن عمر ، قال: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة ، شهدنا أنه من أهل النار ، حتى نزلت هذه الآية : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فأمسكنا عن الشهادة . [ ص: 340 ]

وقال ابن عباس لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ! الرجل يعمل من الصالحات لم يدع من الخير شيئا إلا عمله ، غير أنه مشرك ؟

قال عمر : هو في النار.

فقال ابن عباس : الرجل لم يدع شيئا من الشر إلا عمله ، غير أنه لم يشرك بالله شيئا .

فقال عمر : الله أعلم .

قال ابن عباس : إني لأرجو له كما أنه لا ينفع مع الشرك عمل ، كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب فسكت عمر .

عن علي بن أبي طالب قال: ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . أخرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب .

عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله ! ما الموجبتان ؟

قال : «من مات لا يشرك بالله شيئا ، دخل الجنة ، ومن مات يشرك به ، دخل النار »
.

ومن يشرك بالله يعني : يجعل معه شريكا غيره فقد افترى ؛ أي : اختلق إثما عظيما يعني : ذنبا عظيما غير مغفور إن مات عليه . انتهى .

ثم قال في تفسير الآية الثانية : إن الله لا يغفر أن يشرك نزلت في طعمة بن أبيرق أيضا ؛ لكونه مات مشركا .

ثم ذكر قول ابن عباس : إنها نزلت في شيخ من الأعراب . . . إلخ .

ثم قال: فهذا نص صريح بأن الشرك غير مغفور إذا مات صاحبه عليه ؛ لأنه قد ثبت أن المشرك إذا تاب من شركه ، وآمن ، قبلت توبته ، وصح إيمانه ، وغفرت ذنوبه كلها التي عملها في حال الشرك . [ ص: 341 ]

ويغفر ما دون ذلك يعني : ما دون الشرك لمن يشاء يعني : لمن يشاء من أهل التوحيد .

قال العلماء : لما أخبر الله أنه يغفر الشرك بالإيمان والتوبة ، علمنا أنه يغفر ما دون ذلك الشرك بالتوبة ، وهذه المشيئة فيمن لم يتب من ذنوبه من أهل التوحيد .

فإذا مات صاحب الكبيرة ، أو الصغيرة من غير توبة ، فهو على خطر المشيئة ؛ إن شاء غفر له ، وأدخله الجنة بفضله ، ورحمته ، وإن شاء عذبه ، ثم يدخله الجنة بعد ذلك.

ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا يعني : فقد ذهب عن طريق الهدى ، وحرم الخير كله إذا مات على شركه .

التالي السابق


الخدمات العلمية