الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه ، لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته . [ ص: 351 ]

وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين ، فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .

قال ابن جرير : قد أبانت هذه الآية : أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله - عز وجل - إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه ، ما لم تكن كبيرته شركا بالله - عز وجل - .

وظاهره : أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ، ورحمة ، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة .

وقد تقدم قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم .

وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر ، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته .

أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن أبي أيوب الأنصاري ، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام .

قال : «وما دينه » .

قال : يصلي ، ويوحد الله .

قال : «استوهب منه دينه ، فإن أبى ، فابتعه منه » .

فطلب الرجل منه ذلك، فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره . وقال : وجدته شحيحا على دينه ، فنزلت : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . الآية
.

وأخرج ابن الضريس ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن عدي بسند صحيح ، عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .

وقال : «إني ادخرت دعوتي ، وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » . [ ص: 352 ]

فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا
.

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عمر ، قال: لما نزلت : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [الزمر : 53] الآية .

قام رجل ، فقال : والشرك يا رسول الله ؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .


وأخرج ابن المنذر عن أبي مجلز : أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .

وأخرج أبو داود في «ناسخه » ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال في هذه الآية :

إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجى أهل التوحيد إلى مشيئته ، فلم يؤيسهم عن المغفرة .

وأخرج الترمذي ، وحسنه ، عن علي -عليه السلام - ، قال: أحب آية إلي في القرآن إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية . انتهى .

وأما الآية الثانية : فقال تحت تفسيرها : قد تقدم تفسير هذه الآية ، وتكريرها بلفظها للتأكيد .

وقيل : كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق .

وقيل : إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني أبيرق .

وهو ما رواه الثعلبي ، والقرطبي في «تفسيريهما » عن الضحاك : أن شيخا من الأعراب جاء . . . إلخ . انتهى .

وقال الشيخ «أحمد » المدعو بـ «ملاجيون » - رحمه الله تعالى - في كتابه التفسيرات الأحمدية ما نصه : [ ص: 353 ]

هذه الآية المذكورة في القرآن في هذه السورة مرتين ، وهذه أولاهما .

وقد قال في الثانية : ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا .

وقيل في نزول الآية الثانية : إنه جاء شيخ ، وذكر قصته .

قال : ولم ينقل في نزول الآية الأولى شيء ، وهي مع أختها في باب من لم يتب .

والمفهوم من كل منهما : أن الشرك بدون التوبة غير مغفور ألبتة .

وما دون ذلك من الذنوب موقوف على مشيئة الله تعالى ؛ إن شاء عذب عليها ، وإن شاء عفا عنها ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة .

وأما التائب ، فمعفو من الله تعالى ألبتة فضلا منه ، لا وجوبا عليه ، سواء كان مشركا ، أو غيره ، من الصغائر والكبائر ، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة .

وقال المعتزلة : إن الرجل إذا اجتنب الكبائر ، كان صغائره مغفورة ألبتة ، متمسكا بقوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [النساء : 31] ؛ إذ السيئات في الصغائر للمقابلة .

ونحن نحمل الكبائر على الكفر ؛ إذ هو الكامل منها ، وجمعه باعتبار أنواع الكفر ، أو أفراده القائمة بأفراد المخاطبين على ما نص به في شرح العقائد .

والسيئات تطلق على الكبائر جميعا ، فيصير المعنى : إن تجتنبوا الكفر ، نكفر عنكم ذنوبكم .

وحينئذ نحمله على الفضل والكرامة ، لا على الوجوب ؛ بدليل هذه الآية ؛ لأن قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أعم من الكبيرة الصغيرة .

فيجوز أن يغفر الكبيرة بالفضل ، وأن يعذب على الصغيرة بالعدل ، فهذه الآية حجة عليهم .

ثم إنهم -أي : المعتزلة - قالوا : معنى الآية : إن الله لا يغفر أن يشرك به لمن يشاء ؛ أي : لمن لم يتب ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ؛ أي : لمن تاب ، على ما نص به في «الكشاف » ، وغيره . [ ص: 354 ]

وهو باطل بالبداهة ، والتعقل ؛ لأن الكفر لما كان مغفورا عنه بالتوبة ؛ لقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال : 38] .

فيما دونه من الذنوب أولى أن يغفر بالتوبة .

والآية إنما سيقت لبيان التفرقة بين الكفر وسائر الذنوب ، وهو فيما ذكرنا ؛ لا فيما زعموا كما نص به في «المدارك » .

فإذا كان المقصود التفرقة بينهما ، كانت الآية حجة أيضا على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك ، وأن صاحبه خالد في النار كما نص في «البيضاوي » .

ولا يقال : إن قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [الزمر : 53] يدل على أن الشرك أيضا مغفور .

لأنا نقول : قد صرح الإمام الزاهد أن المراد من قوله : أسرفوا على أنفسهم إن كان الإسراف بالشرك ، والذنوب جميعا ، كان معنى إن الله يغفر الذنوب جميعا : يغفرها إذا آمنتم .

وإن كان الإسراف بالذنوب فقط ، فهو المطلوب .

ويكون إضافة العباد إلى الله على الأول إضافة التمليك ، وعلى الثاني : إضافة التكريم ، والتقرب .

وذلك لأن الآيات الواردة في عدم مغفرة الشرك قطعية ؛ كالآيتين المذكورتين ، وكقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة [المائدة : 72] ، وأمثاله .

والآية المعارضة المذكورة تحتمل المعاني ، فلا تستطيع أن تعارضها ، بل يجب حملها على معنى يطابق تلك الآيات ، وذلك فيما ذكرنا ، وكلام غيره أيضا يدل على أن المراد غير الشرك ، ولكن يشكل بأنه لم يقيد المغفرة هاهنا بالتوبة كما قيل في قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ولكن لا بأس به ؛ لأنه [ ص: 355 ] لا يدل على وجوب المغفرة ألبتة لكل واحد من غير توبة ، ومن غير عقوبة حتى ينافي الوعيد بالتعذيب .

ويعني من التوبة : الإخلاص بالعمل ، بل على أن الذنوب كلها -سوى الشرك - تحت مشيئته ، يمكن أن يعفو عنها عفوا ، ولو بعد بعد .

هكذا قال القاضي الأجل .

فكأنه يؤول حينئذ إلى معنى قوله : لمن يشاء .

وصاحب «الكشاف » قيده بالتوبة رعاية لمذهبه : أن الكبائر لا تغفر بدون التوبة ، ولكنه خلاف الظاهر لا حاجة إليه .

وقد ذكروا في شأن نزوله أوجها متعددة لا نوردها ؛ لطول الكلام ، وكثرة الملال . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية