الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله : ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما كقوله : إن الشرك لظلم عظيم .

وفي «الصحيحين » عن ابن مسعود : أنه قال: قلت : يا رسول الله ! أي الذنوب أعظم ؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك » ، وذكر تمام الحديث .

وقال ابن مردويه بسنده عن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أخبركم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله » ، ثم قال: ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [ ص: 368 ] ، و «عقوق الوالدين » ، ثم قرأ : أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير [لقمان : 14] . انتهى .

وأما الآية الثانية ، فقال : تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة ، وهي قوله : إن الله لا يغفر الآية ، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة .

وقد روى الترمذي عن علي : أنه قال ثم ذكر قوله المذكور .

وقوله : ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ؛ أي : فقد سلك عن طريق الحق ، وضل عن الهدى ، وبعد عن الصواب ، وأهلك نفسه ، وخسرها في الدنيا ، والآخرة ، وفاتته السعادة . انتهى .

وقال المولى الأعظم حسن بن محمد بن الحسين المشتهر بنظام النيسابوري رضي الله عنه وأرضاه ، وجعل الجنة متقلبه ، ومثواه - في تفسيره «أنوار التنزيل » ما نصه :

إن الله لا يغفر : في الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع ؛ لاتصالها بقصتهم ، ولأنها دلت على أن ما سوى الشرك مغفور واليهودية غير مغفورة بالإجماع ، ومن هنا قال الشافعي -رحمه الله - : المسلم لا يقتل بالذمي ؛ لأن الذمي مشرك ، والمشرك مباح الدم ، ومباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله ، ولا يتوجه النهي عن قتله إلى ترك العمل بهذا الدليل في النهي ، فيبقى معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله .

واستدلت الأشاعرة بالآية على غفران صاحب الكبيرة قبل التوبة ؛ لأن ما دون الشرك يشمله .

والمعتزلة خصصوا الثاني لمن تاب ، كما أن الأول مخصص بالإجماع لمن لم يتب .

قالوا : ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل الدينار ، ويبذل القنطار لمن يشاء . [ ص: 369 ]

والمعنى : لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله .

والمشيئة تكون قيدا في الكبيرة ، فيستوجب الغفران .

وروى الواحدي في «البسيط » بإسناده عن ابن عمر ، قال: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل منا على كبيرة ، شهدنا أنه من أهل النار ، حتى نزلت الآية ، فأمسكنا عن الشهادة .

وقال ابن عباس بمحضر عمر -رضي الله عنه - : إني لأرجو كما لا ينفع من الشرك عمل ، كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب ، فسكت عمر .

وعن ابن عباس -رضي الله عنه - : لما قتل وحشي حمزة يوم «أحد » ، وكانوا قد وعدوه الإعتاق إن هو فعل ذلك، ثم ما وفوا بذلك، فعند ذلك ندم هو وأصحابه ، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ندمهم ، وأنه لا يمنعهم من الدخول في الإسلام إلا قوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر .

فقالوا : قد ارتكبنا كل ما في الآية ، فنزل قوله : إلا من تاب وآمن وعمل صالحا .

فقالوا : هذا شرط شديد ، نخاف ألا نقوم به ، فنزل قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به .

فقالوا : نخاف ألا نكون من أهل مشيئته ، فنزل : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ، فدخلوا عند ذلك في الإسلام
.

ومن يشرك بالله فقد افترى : اختلق ، وافتعل إثما عظيما ؛ لأنه ادعى ما لا يصح كونه . انتهى .

وأما الآية الثانية ، فقال : ثم إنه كرر في السورة قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ؛ لأنه لا أجل من وجود الصانع ، ووحدته . والمطلوب كلما كان أجل ، كان نقيضه أبعد . انتهى . [ ص: 370 ]

وقال القاضي ثناء الله الباني بتى -رحمه الله تعالى - في تفسيره «المظهري » ما نصه :

أخرج الطبراني ، وابن أبي حاتم عن أبي أيوب الأنصاري ، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام ، قال: «وما دينه ؟ » ، قال: يصلي ، ويوحد ، قال: «استوهبه منه دينه ، فإن أبى ، فابتعه منه » ، فطلب الرجل ذلك منه ، فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا على دينه ، قال: فنزلت : إن الله لا يغفر أن يشرك به تعالى في وجوب الوجود ، أو العبادة إذا مات وهو مشرك ، وأما إذا تاب عن الشرك ، وآمن ، فيغفر له ما قد سلف منه من الشرك وغيره إجماعا ؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .

يعني : كأنه لم يصدر عنه ذلك الذنب قط .

قال الله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال : 38] .

ويغفر ما دون ذلك يعني : ما سوى الشرك من الذنوب ، صغيرة كانت أو كبيرة ، صدرت عنه خطأ أو عمدا ، وإن مات مذنبا لم يتب لمن يشاء تعميم المغفرة لما دون الشرك .

وتقييدها بالمشيئة مبطل لمذهب المرجئة ؛ حيث قالوا بوجوب المغفرة لكل ذنب .

وقالوا : لا يضر ذنب مع الإيمان ، كما لا ينفع عمل مع الشرك .

ومذهب المعتزلة حيث قيدوا مغفرة الذنوب بالتوبة .

فإن الآية تدل على نفي التقييد بالتوبة ؛ لأن سوق الكلام للتفرقة بين حال المشرك ، والمذنب ، والتقييد بالمشيئة يبطل القول بوجوب المغفرة للتائب ، ووجوب التعذيب لغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية