الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الحالات التي يجتمع فيها الإيمان مع الشرك

الأول : أن أهل الجاهلية كانوا يقرون بأن الله سبحانه خالقهم ، ورازقهم ، ويعتقدون غيره من أصنامهم ، وطواغيتهم .

فهذا الإقرار الصادر منهم بأن الله -عز وجل - خالقهم ، ورازقهم ، وهو يصدق عليه أنه إيمان بالمعنى الأعم ؛ أي : تصديق ، لا بالمعنى الأخص ؛ أعني : إيمان المؤمنين .

فهذا الإيمان الصادر منهم واقع منهم في حال الشرك ، فقد آمنوا حال كونهم مشركين .

وإلى هذا الوجه ذهب الجمهور من المفسرين ، وغيرهم ، ولكنهم لم يذكروا ما ذكرناه هاهنا ، من تقرير كونه إيمانا بالمعنى الأعم ، ولا بد من ذلك حتى يستقيم الكلام ، ويصدق عليه مسمى الإيمان .

الوجه الثاني : أن المراد بالآية : المنافقون ؛ فإنهم كانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الشرك ، فما كانوا يؤمنون ظاهرا إلا وهم مشركون باطنا . روي هذا عن الحسن البصري .

الوجه الثالث : أنهم أهل الكتاب ؛ يؤمنون بكتابهم ، ويقلدون آباءهم في الكفر بغيره ، ويقولون: المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله .

فهم يؤمنون بما أنزل على أنبيائهم حال كونهم مشركين .

الرابع : أن المقصود بذلك ما كان يقع في تلبية العرب من قولهم : «لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك » .

فقد كانوا في هذه التلبية يؤمنون بالله وهم مشركون . روي نحو ذلك عن ابن عباس .

الخامس : أن المراد بهذه الآية : المراؤون من هذه الأمة ؛ لأن الرياء هو الشرك المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل » . [ ص: 385 ]

فالمراؤون آمنوا بالله حال كونهم مشركين بالرياء ، وفيه حديث محمود بن لبيد ، وسيأتي .

السادس : أن المراد بالآية : من نسي ربه في الرخاء ، وذكره عند الشدائد .

روي ذلك عن عطاء ، وفيه : أنه لا يصدق على ذلك أنه آمن بالله حال كونه مشركا إلا أن يجعل مجرد نسيان الذكر والدعاء عند الرخاء شركا مجازا ، كأنه بنسيانه ، وتركه الدعاء قد عبد إلها آخر .

وهو بعيد ، على أنه لا يمكن اجتماع الأمرين ؛ لأنه حال الذكر والدعاء غير متصف بالنسيان ، وترك الذكر ، وقد تقرر أن الحال قيد في عاملها ، إلا أن يعتبر ما كان عليه الشيء ، فإن ذلك أحد العلامات المتحدة للتجوز .

السابع : أن المراد : من أسلم من المشركين ؛ فإنه كان مشركا قبل إيمانه .

حكى ذلك الحاكم في «تفسيره » .

وتقريره : أنه ما يؤمن أحدهم بالله إلا وقد كان مشركا قبل إيمانه .

والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله ، والجواب الجواب .

وأيضا : ليس أن يكون كل مؤمن في الحال كان مشركا في الماضي ؛ فإن كل مولود يولد على فطرة الإسلام ، ومن ولد عليها ، ثم أبواه لم يهوداه ، وينصراه ، ويمجساه ، ونشأ على الإسلام ، فلا يصح فيه أن يقال : إنه كان مشركا من قبل ، ثم آمن ، بل كثير من الناس آمنوا منذ فتحوا الأعين ، وبقوا عليه إلى الحال .

الثامن : أن المراد بالشرك هنا : ما يعرض من الخواطر ، والأحوال حال الإيمان . قاله الواسطي كما حكاه عنه البقاعي .

وفيه : أن هذه الخواطر ، والأحوال إن كانت مما يصدق عليه الشرك الأكبر ، أو الأصغر ، فذاك ، وإن كانت خارجة عن ذلك، فهو فاسد .

التاسع : أنهم الذين يشبهون الله بخلقه . ذكره في «الكشاف » عن ابن عباس .

وتقريره : أنهم آمنوا بالله حال تشبيههم له بما يكون شركا ، أو يؤول إلى الشرك . [ ص: 386 ]

العاشر : هو ما يقوله القدرية من إثبات القدرة للعبد . حكاه النسفي في «المدارك » .

وتقريره : أنهم آمنوا بالله حال إثباتهم ما هو مختص به لغيره ، وهو شرك ، أو منزل منزلة الشرك .

الحادي عشر : ما قاله محيي الدين بن عربي في «تفسيره » : أن أكثر الناس إنما يؤمنون بغير الله ، ويكفرون بالله دائما ، ففي بعض الأحيان يشركون الله سبحانه مع ذلك الإله الذي يؤمنون به ، فلا يؤمن أكثرهم بالله إلا حال كونه مشركا .

وفيه : أن ظاهر النظم القرآني : أن الإيمان بالله ، والشرك به تشريك غيره معه ، لا تشريكه مع غيره ، وبين المعنيين فرق واضح .

الثاني عشر : ذكره ابن كثير في تفسيرها ، وهو أن ثم شركا خفيا لا يشعر به غالب الناس ممن يفعله .

كما يروى عن حذيفة : أنه دخل على مريض يزوره ، فرأى في عضده سيرا فقطعه ، أو انتزعه ، ثم قال: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .

وفي الحديث الذي رواه الترمذي ، وحسنه عن ابن عمر مرفوعا : «من حلف بغير الله ، فقد أشرك » .

وأخرج أحمد ، وأبو داود من حديث ابن مسعود ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرقى والتمائم ، والتولة شرك ، وفي لفظ لهما : «الطيرة شرك ، وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل » . [ ص: 387 ]

وروى أحمد في «المسند » عن عيسى بن عبد الرحمن ، قال: دخلت على عبد الله بن حكيم وهو مريض ، فقيل له : لو تعلقت شيئا ، فقال : أتعلق شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلق شيئا ، وكل إليه » ؟ ! .

وروى النسائي عن أبي هريرة ، وأحمد في «المسند » عن عقبة بن عامر ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علق تميمة ، فقد أشرك » .

وفي «صحيح مسلم » عن أبي هريرة ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يقول الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه غيري ، تركته وشركه » .

وروى أحمد من حديث غيره أيضا ، وفي «المستدرك » : «من ردته الطيرة عن حاجة ، فقد أشرك » ، قالوا : يا رسول الله ! وما كفارة ذلك ؟ قال: «أن يقول أحدهم : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، لا إله غيرك » .

وأخرج أحمد من حديث أبي موسى ، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فقال : «أيها الناس ! اتقوا هذا الشرك ؛ فإنه أخفى من دبيب النمل ، قالوا : كيف نجتنبه ، وهو أخفى من دبيب النمل ؟ قال: «قولوا : اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك شيئا ونحن نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه » . وقد روي من حديث غيره .

عرفت ما تضمنته كتب التفسير من الوجوه التي ذكرناها ، وعرفت تقريرها على الوجه الذي قررناه ، فاعلم أن هذه الأقوال إنما هي اختلاف في سبب النزول .

وأما النظم القرآني ، فهو صالح لحمله على كل ما يصدق عليه مسمى الإيمان مع وجود مسمى الشرك .

والاعتبار بما يفيده اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في موطنه .

فيقال مثلا في أهل الشرك : إنه ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق الرازق ، إلا وهو مشرك بالله بما يعتقده من الأصنام . [ ص: 388 ]

ويقال فيمن كان واقعا في شرك من الشرك الخفي وهو من المسلمين : إنه ما يؤمن بالله إلا وهو مشرك بذلك الشرك الخفي .

ويقال مثلا في سائر الوجوه بنحو هذا على التقرير الذي قررناه سابقا .

وهذا يصلح أن يكون وجها مستقلا ، وهو أوجهها ، وأرجحها فيما أحسب ، وإن لم يذكره أحد من المفسرين .

فالقول بأنه يشكل وجود اتصافهم بالإيمان في حال تلبسهم بالشرك إشكال واقع موقعه به وسؤالك حال محله ، وجوابه قد ظهر مما سبق .

فإنه يقال مثلا : إن أهل الجاهلية كان إيمانهم المجامع للشرك هو مجرد الإقرار بأن الله الخالق الرازق ، وهو لا ينافي ما هم عليه من الشرك .

وكذلك يقال : إن أهل الإسلام كان شرك من وقع منهم في الشرك الخفي الأكبر غير مناف لوجود الإيمان منهم ؛ لأن الشرك الأصغر لا يخرج به فاعله عن مسمى الإيمان ، ولذلك كان كفارته أن يتعوذ بالله من أن يشرك به ، وأن يقول في الطيرة : «اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك » .

فقد صح بهذا أنه اجتمع الإيمان الحقيقي ، والشرك الخفي في بعض المؤمنين .

واجتمع الإيمان بالمعنى الأعم ، والشرك الحقيقي في أهل الجاهلية .

وكذلك يقال في أهل الكتاب : إنه اجتمع فيهم الإيمان بما أنزل الله على أنبيائهم ، والإشراك بجعل المخلوقين أبناء لله -عز وجل - ، وهكذا في بقية الوجوه .

انتهى كلام الشوكاني -رحمه الله - في تفسير هذه الآية .

ويحتمل أن يكون المعنى : وما يؤمن أكثر المشركين من طوائف الناس بالله تعالى بالتكلم بكلمة الإخلاص ، والتوحيد ، والإقرار به لسانا ، وجنانا إلا وهم مشركون ببقاء الرسوم الجاهلية اللازمة للشرك ؛ فإنها لا تذهب عنهم أبدا بعيدا . [ ص: 389 ]

ألا ترى أن الهنود يسلمون ، والنصارى ، واليهود ، والمجوس يسلمون ، ويعتقدون حقية الإسلام ، ويتوبون من دينهم الذي كانوا عليه هم وآباؤهم من قبل ، ويصلون ، ويصومون ، ثم يأتون برسوم قومهم كلها ، أو بعضها ، ولا يرون ذلك منافيا للإسلام ؟ !

ولا سيما تحملهم على إتيانها وبقائها نساؤهم ، فيصنعونها وهم يدعون الإيمان ، وينفرون عن اسم الشرك ، ولا يخلص إلى قلبهم حلاوة الإيمان ، فهم يصدق عليهم الآية الشريفة .

وهذا واقع كثيرا في أقوام ، أو أشخاص جديدي الإسلام ، حديثي العهد بالإيمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية