الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الشفاعة بالإذن

الصورة الثالثة: أن السرقة ثبتت على السارق، لكن ليست السرقة من شنشنته القديمة، وأنه لم يجعل السرقة حرفة لنفسه، ولكن وقع هذا الذنب منه بشؤم النفس الأمارة بالسوء، فهو عليه نادم، ويخاف منه ليلا ونهارا، ويقبل قانون السلطان في حقه بالرأس والعين، ويرى ذاته ذات خطأ وقصور، مستحقة للعقاب والجزاء. ولا يلتجئ ويلوذ بأحد من الأمراء والوزراء؛ فرارا من جناب السلطان، ولا يعول على حماية أحد منهم في مقابلته. بل يرى وجه الملك ليلته ونهاره، ماذا يحكم في حقه؟ وبماذا يقضي عليه؟ فيرحم عليه السلطان، ويلين له فؤاده، ولكن لا يتجاوز عنه لقانون سلطنته بلا سبب صحيح، ووجه سائغ، لئلا يخف قدر هذا القانون في أعين الناس ويستخفونه. فيدرك أمير أو وزير مرضاته في العفو عن ذلك السارق، فيشفع له، ويسعى فيه، والسلطان يعفو عن ذنبه؛ زيادة في عزة ذاك الأمير في الظاهر باسم الشفاعة.

وذاك الأمير لم يشفع فيه لكونه من ذوي قرباه، أو صديقا له، أو حماية عنده تعالى. [ ص: 18 ] بل إنما شفع بعدما وجد مرضاة الملك الكبير فيه، كيف وهو أمير السلطان، ليس بحام للسارق؟! فلو شفع فيه حماية، لصار سارقا بنفسه، لا شفيعا في غيره. وهذه الشفاعة يقال لها: «الشفاعة بالإذن»؛ يعني: تكون هذه الشفاعة بإذن من مالكها.

فحضرة الله سبحانه تكون فيها مثل هذه الشفاعة. وكل نبي، وولي، وصالح جاء ذكر شفاعته في القرآن والحديث، فالمراد بها هي التي قررناها لا غير. فعلى كل عبد أن يدعو الله وحده في كل آن، ومنه يخاف، وإليه يلتجئ، وفي تجاهه يبوء بالآثام، ويعترف بالذنوب، ويؤمن بأنه تعالى هو المالك له، والحامي إياه، وكلما وسع خياله، وساقه إليه، لا يجد ملجأ وملاذا أو منجى إلا هو سبحانه، ولا يعول على حماية أحد كائنا من كان، فليس قرية وراء عبادان.

كيف، والله سبحانه هو الغفور الرحيم، يحل المشكلات، ويسهل المعضلات، وييسر الصعوبات بفضله، وكرمه، ومنه، ولطفه، وإحسانه، وهو غافر الذنب بإفاضة رحمته على المذنبين؟! ويجعل من شاء شفيعا لأي مشفوع بإذنه؛ إيضاحا لغفرانه، وإعلاما برضوانه.

وبالجملة: كما ينبغي أن يفوض كل حاجته إليه، فكذلك يفوض هذه الحاجة إليه أيضا، حتى يجعل من شاء شافعا مشفعا له، لا أن يعتمد على حماية أحد غيره، ويدعوه لعونه ونصره، وينسى الله القادر العزيز، ويستخف بأحكامه المحكمة، وشرعه الشريف، ويقدم سلوك سبل حماته، ويقلدهم فيما يأتي به ويذر؛ فإن هذا قبيح جدا. [ ص: 19 ] وكل الأنبياء والأولياء بريؤون منه، ساخطون عليه، لا يكونون له شفعاء أبدا، ولا يسعون له أصلا، بل أولئك يغتاظون عليه، ويكونون له أعداء.

كيف! وكرامتهم في الدنيا والدين، هي تقديمهم مرضاة الله على مرضاة جميع الخلائق من المريدين والتلامذة، والأجيرين، والمماليك، والأحباب والأصحاب، وكانوا إذا رأوا من أحد خلاف مرضاة الله شيئا، صاروا له أعداء في الدنيا. فمن أين أنهم كانوا شفعاء لهؤلاء الدعاة لهم، ويجادلون فيهم عند الله على خلاف مراد الله سبحانه؟! بل إن فعلوا مثل ذلك، يسخط عليهم ربهم، ولم تبق كرامتهم وشرافتهم التي حصلت لهم. والحق الحقيقي بالقبول: أن الحب لأحد لله، والبغض لله، شأن أولياء الله الكرام، فكل من استقرت إرادة الله في حقه أن يدخله في النار، فهم حاضرون لدفعه فيها مرارا. ومن تعلقت مشيئة الله تعالى بنجاته من النار، وعرفوا مرضاته في شفاعته، فاستعدوا للشفاعة تحصيلا لرضاء الواحد الجبار.

قال الرازي في «تفسيره الكبير»: لا يملك أحد في يوم القيامة شيئا، فلا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله تعالى، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الذي يأذن في تلك الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره.

وقال القسطلاني في الفصل الثاني، من المقصد الخامس من «المواهب اللدنية»: أما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى أن يدخل الله أحدا من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم، ولعبه بهم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم يرضى بما يرضى به -تبارك وتعالى- وهو سبحانه يدخل النار من يستحقها من الكفار، والعصاة. [ ص: 20 ] ثم يحد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدا يشفع فيهم إلى أن قال: الله تعالى يأذن له في الشفاعة، فيشفع فيمن شاء أن يشفع فيه، ولا يشفع في غير من أذن له، ورضيه.

قال في «لباب التأويل» تحت قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [البقرة: 255]؛ أي: بأمره. وهذا استفهام إنكار، والمعنى لا يشفع عنده أحد إلا بأمره وإرادته. وذلك أن المشركين زعموا أن الأصنام يشفعون لهم، فأخبر أنه لا شفاعة لأحد عنده إلا ما استثناه بقوله: إلا بإذنه . يريد بذلك شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشفاعة الأنبياء والملائكة، وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض. انتهى.

قال عياض: جاء في حديث أنس، وحديث أبي هريرة، ابتداء النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد سجوده وحمده، والإذن له في الشفاعة؛ لقوله: «أمتي أمتي». وقد وقع في حديث حذيفة، وأبي هريرة ما لفظه: «فيأتون محمدا، فيقوم محمد، ويؤذن له في الشفاعة».

وقال النووي في قوله صلى الله عليه وسلم: «فيأتوني، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي»، قال عياض: معناه: فيؤذن لي في الشفاعة الموعود بها.

وقال الخازن تحت قوله سبحانه: قل لله الشفاعة جميعا [الزمر: 44]؛ أي: لا يشفع أحد إلا بإذنه، فكان الاشتغال بعبادته أولى؛ لأنه هو الشفيع في الحقيقة، وهو يأذن في الشفاعة لمن يشاء من عباده. انتهى.

والحاصل: أن الأمة أجمعت على جواز الشفاعة، ووقوعها من الأنبياء، والأولياء والصلحاء، والملائكة، وغيرهم يوم القيامة بعد الإذن من الله لمن يشاء الله العفو عن ذنوبه، والمغفرة له، لا لكل مذنب، ولا من دون إذن. وهذه المسألة من الوضوح بمكان لا يخفى إلا على من أعمى الله بصر بصيرته، وابتلي بالشرك، وهوى به الهوى في مكان سحيق.

[ ص: 21 ] وقال تعالى: أيشركون ما لا يخلق شيئا [الأعراف: 191] الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي: كيف يجعلون لله شريكا لا يخلق شيئا، ولا يقدر على نفع لهم، ولا دفع ضر عنهم؟ وهم يخلقون أي: وهؤلاء الذين جعلوهم شركاء من الأصنام والشياطين مخلوقون، وجمعهم جمع العقلاء؛ لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك.

ولا يستطيعون لهم أي: لمن جعلهم شركاء نصرا أي: إن طلبوه منهم. ولا أنفسهم ينصرون [الأعراف: 192] إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم. ومن عجز عن نصر نفسه، فهو عن نصر غيره أعجز.

وإن تدعوهم إلى الهدى هذا خطاب للمشركين بطريق الالتفات المنبئ عن مزيد الاعتناء بأمر التوبيخ والتبكيت، وبيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر، وهو مجرد الدلالة على المطلوب من غير تحصيله للطالب. أي: وإن تدعوا هؤلاء الشركاء إلى الهدى والرشاد؛ بأن تطلبوا منهم أن يهدوكم ويرشدوكم لا يتبعوكم ، ولا يجيبوكم إلى ذلك، وهو دون ما تطلبونه منهم من جلب النفع، ودفع الضرر، والنصر على الأعداء.

سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون [الأعراف: 193] أي: دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء، لا فرق بينهما؛ لأنهم لا ينفعون، ولا يضرون، ولا يسمعون، ولا يجيبون. إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم مع أنكم أكمل منهم؛ لأنكم أحياء تنطقون وتمشون وتسمعون وتبصرون، وهذه الأصنام ليست كذلك، ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله، مع قوم كانوا يعبدونها، والأولى أولى.

[ ص: 22 ] وإنما وصفها بأنها عباد مع أنها جماد، تنزيلا لها منزلة العقلاء على وفق معتقدهم؛ ولذلك قال: فادعوهم فليستجيبوا لكم . أي: ادعوا هؤلاء الشركاء أيها المشركون، فإن كانوا كما تزعمون، فليستجيبوا لكم. وإنما ورد هذا اللفظ في معرض الاستهزاء بالمشركين. إن كنتم صادقين [الأعراف: 194) فيما تدعونه لهم من قدرتهم على النفع والضر، وأنها آلهة، ثم بين غاية عجزهم، وفضل عابديهم عليهم، فقال: ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها [الأعراف: 195] الاستفهام للتقريع والتوبيخ. أي: هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء، ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم، فضلا عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم. فإنهم كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها ليست لهم أرجل يمشون بها في نفع أنفسهم، فضلا عن أن يمشوا في نفعكم، وليس لهم أيد يبطشون بها كما يبطش غيرهم من الأحياء، وليس لهم أعين يبصرون بها كما تبصرون، وليس لهم آذان يسمعون بها كما تسمعون.

فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات، وبهذه المنزلة من العجز؟

قل ادعوا شركاءكم [الأعراف: 195] الذين تزعمون أن لهم قدرة على النفع والضر، واستعينوا بهم في عداوتي حتى يتبين عجزها. ثم كيدون أنتم وهم جميعا، بما شئتم من وجوه الكيد. فلا تنظرون أي: فلا تمهلوني، ولا تؤخروا إنزال الضرر بي من جهتها. [ ص: 23 ] والكيد: المكر، وليس بعد هذا التحدي لهم، والتعجيز لأصنامهم شيء.

وهذه الآية، وإن نزلت يشرك بالله بعبادة الأصنام، ولكنها تشمل بعمومها كل من عبد من دون الله؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، وكل من هو دون الله، عاجز عن إيصال النفع ودفع الضرر مطلقا.

وفيه نفي تصرف غير الله في العالم، ويؤيده قوله تعالى في آخر هذه الآية: والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون [الأعراف: 197] كرر سبحانه هذا لمزيد التأكيد، والتقرير، ولما في تكرار التوبيخ والتقريع من الإهانة للمشركين، والتنقيص بهم، وإظهار سخف عقولهم، وركاكة أحلامهم.

وقيل: الأولى على جهة التقريع والتوبيخ، والأخرى على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة، وبين هذه الأصنام.

وإن تدعوهم أي: المشركين، قاله الحسن. وقيل: أي: الأصنام إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم؛ لأن آذانهم قد صمت عن سماع الحق، فضلا عن المساعدة والإمداد. وهذا أبلغ من نفي الاتباع.

وتراهم الرؤية بصرية ينظرون إليك أي: يقابلونك كالناظر وهم أي حال كونهم لا يبصرون [الأعراف: 198] أي: الأصنام، يشبهون الناظرين، ولا أعين لهم يبصرون بها.

وقيل: المراد بذلك: المشركون، أخبر الله عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم، وإن أبصروا بها غير ما فيه نفعهم.

وقال تعالى: ويعبدون من دون الله أي: متجاوزين الله سبحانه إلى عبادة غيره، لا بمعنى ترك عبادته بالكلية، بل بمعنى عدم الاكتفاء بها، وضم عبادة الغير إليها للتقرب والشفاعة. ما لا يضرهم ولا ينفعهم أي: ما ليس من شأنه الضر ولا النفع، ومن حق المعبود أن يكون مثيبا لمن أطاعه، معاقبا لمن عصاه. [ ص: 24 ] ونفي الضر والنفع هنا عن الأصنام ونحوها، باعتبار الذات، وإثباتهما لها في الحج في قوله: يدعو لمن ضره أقرب من نفعه [الحج: 12] باعتبار السبب، فلا منافاة بينهما.

التالي السابق


الخدمات العلمية