الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 75 ] وقال تعالى: فاعبد الله مخلصا له الدين [الزمر: 3] أي: من الشرك والرياء؛ بالتوحيد، وتصفية السر. والإخلاص: أن يقصد العبد بعمله وجه الله. والدين: العبادة، والطاعة رأسها توحيد الله، وأنه لا شريك له.

ألا لله الدين الخالص [الزمر: 3] من شوائب الشرك وغيره. وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص الذي أمر به.

قال قتادة: الدين الخالص: شهادة أن لا إله إلا الله؛ أي: لا معبود بحق إلا هو. وفي الحديث: «إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له»، ثم تلا هذه الآية، أخرجه ابن مردويه عن يزيد الرقاشي.

ولما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص، وأن الدين الخالص له لا لغيره، بين بطلان الشرك الذي هو مخالف الإخلاص، فقال: والذين اتخذوا من دونه أولياء [الزمر: 3] الموصول عبارة عن المشركين الظالمين. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى أي: تقريبا. والمراد بالزلفى: الشفاعة؛ كما حكاه الواحدي عن المفسرين، والاستثناء مفرغ من أعم العلل. والمعنى: أن الذين لم يخلصوا العبادة لله وحده، بل شابوها بعبادة غيره، قائلين: ما نعبدهم لشيء من الأشياء، إلا ليقربونا إليه سبحانه، ويشفعوا لنا. إن الله يحكم بينهم أي: بين أهل الأديان: (يوم القيامة) ، فيجازي كلا بما يستحقه، أو بين المخلصين للدين، وبين الذين لم يخلصوا، بل أشركوا، وشابوا.

في ما هم فيه يختلفون من التوحيد، فإن كل طائفة تدعي أن الحق معها، وأن الباطل مع غيرها:


وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا

[ ص: 76 ] وما أحسن ما قيل:


ستعلم ليلى أي دين تداينت     وأي غريم في التقاضي غريمها

وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء: 227].

وقال تعالى: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين [الزمر: 11] أي: من الشرك والرياء ونحوهما، وأمرت لأن أكون أول المسلمين من هذه الأمة. وكذلك كان صلى الله عليه وسلم، فإنه أول من خالف دين آبائه، ودعا إلى التوحيد، ومنع من الشرك. إلى قوله: قل الله أعبد مخلصا له ديني غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما. فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه. الأمر للتهديد، والتقريع، والتوبيخ كقوله: اعملوا ما شئتم ، وفيه إيذان بأنهم لا يعبدون الله، ويعبدون غيره. وقال تعالى: قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون [الزمر: 64] أي: بعد مشاهدة الآيات الدالة على توحيده، وانفراده. ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك [الزمر: 65] من الرسل: لئن أشركت يا محمد -صلى الله عليه وسلم- فرضا: ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [الزمر: 65]، فيه التحذير والإنذار للعباد من الشرك؛ لأنه إذا كان موجبا لإحباط عمل الأنبياء -على الفرض والتقدير- فهو محبط لعمل غيرهم بالطريق الأولى. وقيل: هذا خاص بالأنبياء؛ لأن الشرك منهم أعظم ذنبا من الشرك من غيرهم.

بل الله فاعبد [الزمر: 66] هذا رد على المشركين، حيث أمروه بعبادة غير الله تعالى: وكن من الشاكرين لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه.

[ ص: 77 ] وقال تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر: 60] أي: ذليلين صاغرين.

وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، ودعا غير الله في الشدائد والحوائج.

وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والدعاء هو العبادة»، ثم قرأ هذه الآية. أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في «الحلية»، والبيهقي في «الشعب»، وأحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، والطبراني. وهذا الحديث نص في محل النزاع، وتفسير مرفوع لا ينبغي العدول عنه.

وقال تعالى: ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو [غافر: 64-65] أي: الباقي الذي لا يفنى، المتفرد بالألوهية، وهذا التركيب يفيد الحصر. فادعوه أي: اعبدوه مخلصين له الدين أي: الطاعة والعبادة، من الشرك إلى قوله: قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون [غافر: 66] أي: تعبدون من دون الله.

وقال تعالى: وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون [الزخرف: 26] من دون الله وتشركون به: إلا الذي فطرني [الزخرف: 27] أي: خلقني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه [الزخرف: 27، 28] أي: جعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، وهم ذريته، فلا يزال يوجد فيهم من يوحد الله. وفاعل «جعلها» إبراهيم، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد، وأمرهم أن يدينوا به، كما في قوله: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب [البقرة: 132]. وقيل: الفاعل هو الله تعالى. [ ص: 78 ] قلت: ولا مانع من حمل اللفظ على المعنيين.

قال قتادة: الكلمة: «لا إله إلا الله» لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة، ويوحده، ويدعو إلى توحيده. وقال عكرمة: هي الإسلام.

لعلهم يرجعون الزخرف: 28] أي: رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد.

وأقول: اللهم إني من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ محمد -صلى الله عليه وسلم- فارزقني ، ومن أخلفه من بعدي توحيدا لا يزال، ولا يزول، ولا يفنى أبدا ولا يحول.

وقال تعالى: إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا [الزخرف: 64] أي: عبادة الله وحده، والعمل بشرائعه: صراط مستقيم هذا تمام كلام عيسى عليه السلام. فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا [الزخرف: 65] وهم الذين أشركوا بالله، ولم يعملوا بشرائعه: من عذاب يوم أليم أي: أليم عذابه، وهو يوم القيامة.

وقال تعالى: ولا تجعلوا مع الله إلها آخر [الذاريات: 51] تنصيص على أعظم ما يجب أن يفر عنه، وهو الشرك، فنهاهم عن الشرك بالله إني لكم منه نذير مبين إلى قوله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ؛ أي: يوحدون، ويعرفوا الله بالوحدانية، وإخلاص العبادة له، وعدم الشرك به تعالى في شيء من الأشياء.

وقال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة أي: خصلة حميدة يقتدون بها في إبراهيم أي: في أفعاله وأقواله: والذين معه هم أصحابه الموحدون المؤمنون بالله وحده إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم أي: من دينكم الشرك ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة بالأفعال والبغضاء [ ص: 79 ] بالقلوب أبدا أي: هذا دأبنا معكم، ما كنتم على شرككم وكفركم حتى تؤمنوا بالله وحده [الممتحنة: 4]، وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك. فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة، والبغضاء محبة.

فيه: أنه هكذا ينبغي لكل موحد مع كل مشرك، في كل زمان، وفي كل مصر وقطر أن يقول ويفعل. وفيه: إشارة إلى إيثار عداوة أهل الشرك، وبغضهم على موالاتهم ومحبتهم.

وقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [البينة: 5]. قال الشهاب: الإخلاص: عدم الشرك، وإنه ليس بمعنى الإخلاص المتعارف. حنفاء أي: مائلين عن الأديان كلها إلى دين التوحيد، وهو ملة الإسلام.

التالي السابق


الخدمات العلمية