الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذب الشرك عن آدم عليه السلام

وفيه دليل على أن الجاعل شركا فيما آتاهما هو حواء دون آدم عليه السلام - وقوله: «جعلا له شركاء» بصيغة التثنية لا ينافي ذلك؛ لأنه قد يسند فعل الواحد إلى اثنين، بل إلى جماعة لأدنى ملابسة، وهو شائع في كلام العرب، وفي الكتاب العزيز من ذلك الكثير الطيب، ذكره صاحب تفسير «فتح البيان»، فراجعه.

وحاصل الكلام الطويل المسوق في هذه الآية المذكور في التفاسير: أن ما وقع فإنما وقع من حواء، لا من آدم. [ ص: 101 ] [ ص: 102 ] ولم يشرك آدم قط، ولا نبي غيره، فإن الأنبياء والرسل معصومون من الإشراك بالله تعالى في شيء من الأشياء، وإن كان صدور الصغائر منهم سائغا، مع التنبيه لهم عليها في الحال. ولكن الشأن كل الشأن في كونهم مصدرا لأكبر الكبائر الذي بعثت الرسل للنهي عنه، ولأجله أنزلت الكتب.

فتعالى الله عما يشركون سمى الله سبحانه في هذه الآية ما وقع من حواء في تسمية الولد بـ "عبد الحارث" شركا، فدلت الآية الشريفة على كون الشرك في التسمية، ككونه في صفات أخرى لله تعالى، وعلى أن أول من وقع من الشرك في بني آدم هو حواء. فكان هذا الداء العضال في نوع البشر، من زمن أبي البشر، ولم يخل عصر منه. ولهذا عظم الله مقام التوحيد، ووعد أهله بالغفران، وإن كانوا عصاة، وأي عصاة، وأوعد أهل الشرك، وإن كانوا في العبادة والصلاح في أعلى مكان. ومن هنا يقال: إن التوحيد رأس الطاعات، وإن الشرك رأس السيئات.

[ ص: 103 ] قال بعض أهل العلم في بيان معنى هذه الآية: يعني: أن الله هو الذي خلق الإنسان أولا، وجعل له زوجا، وألف بينهما، ثم إذا كان لهم رجاء الولد، يدعونه سبحانه، ويعدون أنهم يشكرونه إن آتاهم ولدا كاملا غير ناقص الخلقة. فلما يعطيهم الأولاد، يدعون غيره، ويعبدونه، وينذرون لمن دون الله. فمنهم من يذهب به إلى قبر من القبور، أو إلى فقير من الفقراء مشهور. ومنهم من يجعل على رأسه فرعا لأحد باسمه. ومنهم من يلبس خيطا لأحد، ومنهم من يلبس حديدا في الرجل باسم أحد. ومنهم من يصير فقيرا على اسم أحد. ومنهم من يسمي ولده نبي بخش، أو إمام بخش، أو بير بخش، أو سيتلا بخش، أو كنكا بخش، أو عبد فلان؛ كعبد الحسين، أو الحسن، أو المسيح، أو غلام فلان؛ كغلام محبي الدين، وغلام معين الدين، ونحو ذلك. ومرادهم بلفظ «الغلام» في هذه الأسماء: العبد، دون الولد، والعمل بالنية لا باللفظ.

فالله سبحانه لا يحتاج إلى نذورهم أصلا؛ فإنه سبحانه أغنى الأغنياء، من أشرك به في عمل، يتركه وعمله. ولكن هؤلاء المشركين يصيرون بأفعالهم هذه مطرودين مردودين من جنابه العلي، وحضرته المقدسة. انتهى.

وما أشد هؤلاء حماقة، وأكثرهم سفاهة؛ حيث لا ينسبون الأولاد إلى من أعطاها وخلقها، ويضيفونها في التسمية تارة إلى مخلوق ذي روح، وأخرى إلى ما لا روح فيه، بل إلى بعض الأمراض، وبعض الأنهار؛ كالحصبة، ونهر كنك، ونحوه. ولم يدروا أن البشر هو أشرف الكائنات جميعا، وأن كل ما هو سواه، فهو دونه في الشرف. [ ص: 104 ] فأي سفاهة أزيد من أن يعظم أشرفها أدونها، ويعبد العالي السافل؟! وأي جهل أبلغ من أن يتذلل ويخضع ويخشع المخلوق الأعلى الأكرم للأدنى الأذل؟! من كان في العقل والفهم بهذه المثابة، فهو بمعزل عن الالتفات والخطاب، والله أعلم بالصواب.

وقال تعالى: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا [الأنعام: 134] هذا بيان نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم، وإيثارهم لآلهتهم على الله سبحانه. أي: جعلوا لله سبحانه مما خلق من حرثهم ونتاج دوابهم وهي الإبل، والبقر، والغنم. نصيبا من ذلك؛ أي: قسما يصرفونه في سدنتها، والقائمين بخدمتها. فإذا ذهب ما لآلهتهم بإنفاقه في ذلك، عرضوا عنه ما جعلوه لله، وقالوا: الله غني عن ذلك.

قال ابن عباس: جعلوا لله من ثمارهم ومالهم نصيبا، وللشيطان والأوثان نصيبا. فإن سقط من ثمرهم ما جعلوه لله في نصيب الشيطان، تركوه، وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله، ردوه إلى نصيب الشيطان. وإن انفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله نزحوه، فهذا ما جعلوه لله من الحرث وسقي الماء. وأما ما جعلوه للشيطان من الأنعام، فهو قول الله: ما جعل الله من بحيرة الآية.

وقال مجاهد: جعلوا لله جزءا، ولشركائهم جزءا. [ ص: 105 ] فما ذهبت به الريح مما سموه لله إلى جزء أوثانهم تركوه، وقالوا: الله عن هذا غني. وما ذهبت به الريح من أجزاء أوثانهم، إلى جزء الله أخذوه، والأنعام التي سموا الله: البحيرة، والسائبة.

فقالوا هذا لله بزعمهم [الأنعام: 136] الزعم: الكذب، وقرئ -بضم الزاي وفتحها- وهما لغتان، وإنما نسبوا للكذب في هذه المقالة، مع أن كل شيء لله؛ لأن هذا الجعل لم يأمرهم الله به، فهو مجرد اختراع منهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية