الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفرقة الناجية

وهذه الأحاديث أفادت : أن الجماعة عبارة عن جماعة الصحابة - رضي الله عنهم - ، والفرقة الناجية هي التي على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وطريقة أصحابه .

ودل قيد «اليوم» أن المعتبر من شرائع الدين : ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن بعده - عليه السلام - اختلف الصحابة أيضا في مواضع ومسائل ، فالتي تستحق للأخذ والتمسك بها هي السنة الصريحة الصحيحة ، الصرفة ، المحضة ، التي لا يشوبها اجتهاد ، ولا رأي ، ولا قياس ، ولا شيء .

ولا مصداق لذلك إلا طريقة الأئمة المحدثين السابقين ، وأصحاب الأمهات الست ، ومن حذا حذوهم في التقوى وإصلاح الدين .

وأما من سلك السبل ، ودخل في فج عميق ، وابتدع بدعا لا يرضاها الله ولا رسوله ، وقلد الكبار من الأمة ، وتمسك بأقوال الأحبار والرهبان ، وخاض في التفريع الحادث ، وبنى عليه مذهبه ، واتخذه قدوة ، وترك السنن الثابتة في دواوين الإسلام ، أو أولها وحرفها ، وأنزلها على قواعد المذهب; صونا لمذهبه ، وحماية لأهله ، وانتصارا لمن قلده ، وقدم القياس والاجتهاد على نصوص الكتاب والسنة ، وتشبث بأذيال أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم إلى [ ص: 44 ] هذا اليوم; تقديما لهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في فقه الأحكام ، وفهم معاني في الكتاب والسنة ، فقد حرم حلاوة الإيمان ، وخرج من إحاطة الفرقة الناجية بلا شك وارتياب .

وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن حال هذا القوم في هذا الحديث بقوله الشريف : «وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء» ; أي : تدخل وتسري .

والمراد بالأهواء : «البدع» ، ومحدثات الأمور ، ودخول الآراء في الدين ، وإيثار تقليد الرجال بلا برهان ولا سلطان .

قال بعض العلماء : واحد الأهواء : هوى; بمعنى : إرادة النفس ، وشهوتها الداعية إلى تلك المذاهب والمشارب .

«كما يتجارى الكلب بصاحبه» الكلب - بفتح اللام - : داء يعرض للآدمي من عض الكلب ، فيصير مجنونا ، ويستولي عليه ، ويسري فيه ، ولا يستطيع أن ينظر إلى الماء ، وإن نظر يصيح ، وربما يموت من العطش ، ولا يتمكن من شرب الماء ، وهو شبيه المانيخوليا .

«لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» .

قال بعض أهل العلم : تشبيه أهل الهوى بصاحب هذه العلة; لاستيلائها عليه ، وتولد الأعراض الردية منها ، وتعدي ضررها إلى غيره ، كما تتعدى علة البدعة في أهل الأهواء .

وكما أن صاحب الكلب يفر من الماء ، ولا يتمكن من شربه ، ويموت عطشانا ، فكذلك أهل الأهواء يفرون من علم الدين الذي هو اتباع الكتاب والسنة ، ولا يتمكنون من الاستفادة منهما ، ويموتون محرومين عنه في بادية الجهل ، وهاوية البدعة - نسأل الله العافية . . هكذا في «أشعة اللمعات) .

وإذا عرفت هذا ، عرفت أن كل مخالف للسنة الصحيحة ، مقلدا كان ، أو [ ص: 45 ] مجتهدا ، عاما كان أو خاصيا ، ذو داء الكلب ، إذا أراد خلافها .

وأما من لم تبلغه السنة ، ولم يعلم بها ، ونيته الاتباع ، والفرار من الابتداع ، فأرجو ألا يكون من هذا القبيل .

ولكن عليه أن يسعى في درك الأحكام على الوجه الثابت من القرآن والحديث; باكتساب العلم من الثقات العارفين بهما ، أو بسؤالهم عن نصوصهما وأدلتهما ، حتى لا يتوجه إليه اعتراض ، ويبقى سليما من الأهواء المضلة ، والآراء الفاسدة .

وليس في الحديث والقرآن ما يشكل فهمه على الإنسان .

بخلاف كتب الفروع والجدل والكلام ، وما في معناها; فإنها كلها سفسطة ، وجهل ، وفضل ، وفيها من الأقوال المختلفة ، والآراء المتباينة ما لا يأتي عليه الحصر .

ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [النساء : 82] .

وإنك إذا تتبعت مذاهبهم ومشاربهم ، وجدت أهل كل مذهب يرد على مذهب آخر ، ويضلله ، ويبدعه ، بل يكفره .

وهذا كما قال تعالى : وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء [البقرة : 113] .

أما قرع سمعك ما قاله المقلدون : إن الشافعي إذا تحنف ، يخلع عليه ، وأن الحنفي إذا تشفع يعزر ، وإن اللائق بالحنفي أن يعتقد أن مذهبه صواب ، ومذهب غيره خطأ يحتمل الصواب ، وكذلك يقول غير الحنفي في حق غيره . وكل ذلك بمعزل عن الدين .

ولا تجد أبدا أحدا من أهل الحديث أصحاب السنة والجماعة المسماة بالفرقة الناجية يبدع غيره من المحدثين ، أو يخالفه في أصول الدين ، بل في الفروع ، إلا ما شاء الله تعالى; نظرا إلى قوة الدليل ، أو ضعفه ، والنادر كالمعدوم .

[ ص: 46 ] وقد قال الله تعالى : ومن أصدق من الله قيلا [النساء : 122] ، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك [هود : 118 - 119] .

ويؤيد ما قلناه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - يرفعه : «إن الله لا يجمع أمتي - أو قال : أمة محمد - على ضلالة ، ويد الله على الجماعة ، ومن شذ ، شذ في النار» رواه الترمذي .

تأمل في هذا الخبر ، وأدرك أن المراد بالجماعة هنا ما قد سبقك ، والله حاميها ومؤيدها ، والشاذ مستحق للنار .

وقد وجد مصداق هذا الحديث بوجود أهل السنة المطهرة في كل زمن وقطر ، من عصر النبوة إلى يومنا هذا ، ولله الحمد .

ولولا هذه الجماعة ، لكان الدين كاد أن يذهب ، ولكن الله تعالى من على غرباء هذه الأمة بإبقائها ، وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بوجودها إلى قيام الساعة ، منصورة ظاهرة على غيرها ، غير مخذولة من جهة من خالفها ، ظاهرا وباطنا ، والله على كل شيء قدير .

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا بني! إن قدرت أن تصبح وتمسي ، وليس في قلبك غش لأحد ، فافعل»، الغش : ضد النصح الذي هو إرادة الخير للمنصوح له .

ثم قال; أي : ترغيبا في هذا الفعل ، ومدحا له : «يا بني! وذلك من سنتي» السنية ، وطريقتي المرضية ، ومن أحب سنتي : العبادتية والعادية ، فقد أحبني; لأن حب طريقة أحد وسيرته إنما ينشأ من محبته ، وهو الباعث عليها ، وعلى التمسك بها .

«ومن أحبني ، كان معي في الجنة» كما في حديث آخر : «المرء مع من أحب ، وإنك مع من أحببت» .

قال في «أشعة اللمعات» : في الحديث إشارة إلى أن حب سنته صلى الله عليه وسلم يورث [ ص: 47 ] محبته - عليه السلام - ، وموافقته ، فكيف إذا عمل بها أيضا؟ رزقنا الله . انتهى . رواه الترمذي .

قلت : وفي الحديث أيضا دلالة على أن علامة حبه صلى الله عليه وسلم اتباع سنته ، ومن ابتدع شيئا خلاف السنة ، وادعى أنه محب للرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو كاذب; لأن فعله يكذب قوله ، وإنك ترى أكثر الناس حالهم كذلك في دعوى الوداد .

التالي السابق


الخدمات العلمية