الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
تحقيق القول في معنى حديث شد الرحال

فنقول: إن هذا الحديث -أي: حديث شد الرحال- ورد في المنع من السفر إلى غير هذه الثلاثة المساجد لقصد العبادة فيها؛ لكون جميعها -سوى هذه- متساوية الأقدام في الفضيلة. ففي أي مسجد عبد الله جاز، ومن عبده في أحد هذه المساجد، فله الفضل على العابد في غيرها.

وفيه أيضا: إشارة إلى فضيلة هذه المساجد على غيرها، كما ورد في حديث آخر عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمسة وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمس مائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة»، رواه ابن ماجه .

وعن أبي هريرة يرفعه: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام متفق عليه. وفي الباب أحاديث.

ووردت الأخبار أيضا في فضيلة مسجد «قباء». منها: حديث ابن عمر، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا، ويصلي فيه ركعتين. متفق عليه. وقد نزلت الآية الكريمة: لمسجد أسس على التقوى [التوبة: 108] في شأن هذا المسجد ومسجد المدينة معا، فثبت بهذا أن الحديث ورد مورد الحث على الترحل إلى أحد هذه المساجد الثلاثة خاصة، حتى إن مسجد قباء لم يرغب في شد الرحال إليه، مع كونه ذا فضيلة عظيمة. وهذا يدل على أن المستثنى منه هو المساجد دون المواضع؛ لأنها لو كانت مرادة، لم يصح السفر إلى موضع غير المساجد، مع أن السفر للهجرة، ولطلب [ ص: 547 ] العلم، وللتجارة وغيرها، ثبت في الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة، فلا معنى لمنع السفر لغرض من أغراض الدين والدنيا، استدلالا بهذا الحديث، فإنه ليس فيه من هذا رائحة، إنما فيه بيان فضيلتها، وجواز السفر إليها لعبادة الله تعالى؛ لأن المساجد بنيت لهذه؛ كما قال تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا . ونهى عن السفر إلى المساجد الأخرى لهذه الحسنة، حتى إلى مسجد «قباء».

وأما استنباط منع السفر لزيارة القبور، فظهر إلي أنه بعيد عن سباقه وسياقه. وإن استدل به بعض أئمة العلم، نعم لمنع شد الرحل إلى زيارة الموتى أدلة أخرى تكفي له، كما نشير إليها، بل لا حاجة إلى ذكر الأدلة على ذلك تكون، يكفي فيه أنه لم يثبت أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسفر إلى مشاهد الموتى الخالية، ومقابرهم البالية، ولم يسافر أحد من الصحابة وأهل البيت وتابعيهم بالإحسان إلى قبر من القبور البعيدة عن بلادهم الواقعة في قطر من أقطار الأرض، أو مصر من أمصارها. وما ليس عليه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو مردود في الدين، كما في الحديث الصحيح: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد»، فهذا السفر مردود؛ لأنه لم يرد به أمر الرسول -عليه السلام-. ولا ريب أن السفر لأغراض أخرى قد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-، وعن أصحابه وتابعيهم، ثبوتا لا شك فيه. فلو كان هذا السفر جائزا في الشرع، لا بد أن يقع من أحدهم. وهذا يدل على أنهم لم يروا هذا السفر جائزا، ولم يكن هذا فيهم شائعا مأثورا، وهذا الكلام في السفر لزيارة القبور عموما.

[ ص: 548 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية