الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وحيث انتهى الكلام بنا إلى هذا المقام، وأشرنا إلى ما يستفاد من بعض العلوم المعدة لكتاب الله العزيز، لاسيما من سورة فاتحة الكتاب التي هي شفاء من كل داء لأولي الألباب، فلنرجع إلى ذكر الآيات الشريفة، والنصوص الكريمة الواردة في بيان التوحيد، وإثبات الإخلاص مقتصرا في تفسير معانيها على أوجز لفظ، وأخصر عبارة، طاويا للكشح عن الكلام على مبانيها، ومفاهيمها على الوجه الذي سقناه في هذه السورة، إحالة لدقائقها وحقائقها على أفهام العلماء الفحول، الناظرين في هذا الكتاب.

فأقول، وبالله أجول، وأصول:

قال الله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [النساء: 1] النداء في الأصل: طلب الإقبال، والمراد به هنا: التنبيه، والخطاب عام لسائر المكلفين.

[ ص: 22 ] وأصل العبادة: غاية التذلل، وهو أقصى غايات الخضوع، والعبودية أدنى منها.

وسمي العبد عبدا: لذلته، وانقياده، ولا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى.

قال ابن كثير: وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف.

قال ابن عباس في الآية: وحدوا.

قيل: وكل ما ورد في القرآن من العبادة معناه التوحيد.

قال الشيخ العلامة علي المهايمي في تفسيره «تبصير الرحمن»: اعبدوا ربكم؛ فإن مقتضى حقيقة الرب أن يكون معبودا، وحقيقة العبد أن يكون عابدا، سيما إذا أنعم عليه بأجل النعم، وهو الإيجاد، وما يتوقف عليه.

وقال تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله [البقرة: 83] قال أهل العلم: عبادة الله: إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتابه.

والآية خبر بمعنى النهي، وهو أبلغ من صريح النهي؛ لما فيه من الاعتناء بشأن المنهي عنه، وتأكد طلب امتثاله، حتى كأنه امتثل وأخبر عنه.

وقال تعالى: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون [البقرة: 163].

أي: مخلصون له التوحيد، والعبودية.

وقال تعالى: وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم . [البقرة:163].

معناه: لا شريك له في الألوهية، ولا نظير له في الربوبية.

[ ص: 23 ] والتوحيد: هو نفي الشريك، والقسيم، والشبيه.

فالله تعالى واحد في أفعاله، لا شريك له يشاركه في مصنوعاته، وواحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في صفاته، لا يشبهه شيء من خلقه.

فيه: تقرير للوحدانية بنفي الألوهية من غيره، وإثباتها له.

وفيه: الإرشاد إلى التوحيد، وقطع العلائق، والإشارة إلى أن أول ما يجب بيانه، ويحرم كتمانه، هو أمر التوحيد.

ومن ثم ورد عن أسماء بنت يزيد بن السكن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: وإلهكم إله واحد [البقرة: 163] إلخ. و الله لا إله إلا هو الحي القيوم [البقرة:255].

أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، والدارمي، وأبو داود، والترمذي، وصححه، وابن ماجه.

وأخرج الديلمي عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء أشد على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة: وإلهكم إله واحد الآيتين، وذلك لاشتمال هذه الآيات على إثبات التوحيد، ونفي الشرك».

وقال تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم إلى آخر الآية، وهي آية الكرسي، وهي أفضل آية في القرآن قد اشتملت على أمهات المسائل الإلهية.

فإنها دالة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية، متصف بالحياة الأبدية، واجب الوجود لذاته، موجد لغيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية