الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فيمن ابتدأ الصوم أو الإطعام والزوجة في عصمته، وأتمها بعد الطلاق في العدة أو بعد انقضائها

                                                                                                                                                                                        الكفارة قبل العودة غير جائزة، وبعد العودة وقبل الوطء جائزة.

                                                                                                                                                                                        واختلف هل هي واجبة أو لا، وهل من شرطها أن يؤتى بها والزوجة في العصمة؟ فإن وطئ وجبت قولا واحدا، وصح أن يؤتى بها والزوجة في العصمة، وبعد أن تبتدئ في العدة وبعد انقضائها، فتجب وإن لم يطأها على أحد قولي مالك: إن العودة: العزم على الإمساك أو العزم على الوطء، وعلى هذا يصح ما ذكره محمد عنه أنها لا تسقط، وإن طلق أو ماتت قبل أن يطأ؛ فيجب أن يكفر بعد الطلاق وإن لم يرتجع، وأما على قوله: إن العودة الوطء: فلا تجب إذا عزم على الوطء ثم بدا له ألا يفعل، وإن طلق قبل الوطء أو ماتت- لم يكن عليه شيء، وعلى هذا القول يكون من شرطها أن يؤتى بها والزوجة في العصمة، وإن كفر بعد أن بانت منه لم تجزئه، لسقوط موضع العودة. [ ص: 2357 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف على هذا القول في ثلاثة مواضع:

                                                                                                                                                                                        أحدها: إذا ابتدأ الصوم والإطعام قبل الطلاق، وأتم ذلك بعد الطلاق، وبعد انقضاء العدة.

                                                                                                                                                                                        والثاني: إذا لم يتم بعد انقضاء العدة، ثم تزوجها، هل يتم على ما كان من الإطعام.

                                                                                                                                                                                        والثالث: هل يبتدئ الكفارة -بالصوم أو الإطعام- بعد الطلاق وهي في العدة من طلاق رجعي؟ فقال ابن نافع في المدونة: إذا ابتدأ الكفارة وهي زوجة فأتمها بعد الطلاق وبعد انقضاء العدة -تجزئه؛ لأنه ابتدأ وهي زوجة، وهو ممن له العودة. وقال ابن القاسم: ليس عليه أن يتم الكفارة. ولم يقل: لا تجزئه إن فعل، وظاهر قوله أنها تجزئه إن فعل، ولا تجب عليه مثل قول ابن نافع.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد: لا تجزئه إذا أتم في العدة من طلاق بائن أو بعد انقضائها. فإن تزوجها بعد ذلك، وكانت كفارته بالصيام- استأنفه؛ لأن الصيام لا يكون إلا متتابعا، وإن كانت بالإطعام أجزأه أن يتم على ما كان [ ص: 2358 ] أطعم عند مالك وابن القاسم وابن وهب، ولم تجزئه عند أشهب، وعليه أن يستأنف الكفارة، والأول أبين.

                                                                                                                                                                                        قال محمد: ولو كان الطلاق رجعيا فأتم الكفارة في العدة - أجزأت عنه إن ارتجعها بعد ذلك، أو تركها حتى بانت.

                                                                                                                                                                                        واختلف هل يبتدئ الكفارة وهي في عدة من طلاق رجعي؟ فقال مالك في كتاب محمد: يرتجع ثم يكفر. قال أشهب: فإن كفر قبل أن يرتجع وقبل أن تبين منه فذلك جائز.

                                                                                                                                                                                        وقال أحمد بن المعذل: لا تجزئه الكفارة قبل أن يرتجع؛ لأن موضع الكفارة إنما هو أن يعود إلى الإمساك والإصابة، وهذه في العدة دانية تدنو من أجلها الذي يخرجها من يده، ولا يكون عائدا إلا أن يرتجعها، قال: فإن ظاهر منها لزمه الظهار لقول الله تعالى: والذين يظاهرون من نسائهم [المجادلة: 3] فالمعتدة من نسائه، وفرق بين عقد الظهار والكفارة؛ لأنه كفر قبل أن يجمع على الإمساك وقبل أن يجمع على الوطء، ولو لم يطلق المظاهر وأجمع على الطلاق، وقال: أكفر الآن ثم أطلقها، فإن تزوجها بعد ذلك لم يكن على ظهار- لم تجزئه الكفارة إلا بعد عودة: لأن تلك لا تعد عودة، وفي عقد [ ص: 2359 ] الظهار في العدة نظر؛ لأنها قبل أن ترتجع عليه كظهر أمه على قول مالك أن الرجعة تفتقر إلى نية، وهذا هو الظاهر من قول أبي الفرج؛ لأنه قال فيمن قال لزوجته: أنت طالق، وأنت علي كظهر أمي: وقع عليه الطلاق دون الظهار، ولم يفرق بين أن يكون مدخولا بها أم لا.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد فيمن قال: أنت علي كظهر أمي، ثم أخذ في الكفارة، فلم يتمها حتى قال: أنت علي كظهر أمي، قال: يبتدئ الكفارة من الثاني وتجزئه. قال: وقيل: بل يتم الأولى ويبتدئ، وقال محمد: إذا مضى يومان أو ثلاثة أجزأه لهما: لأنه قال: ما تفاوت منه، فإن بقي شيء يسير أتمه وابتدأ.

                                                                                                                                                                                        وقال أصبغ في العتبية: يلغي ما صام، ويبتدئ صوم كفارة واحدة، وسواء صام من الأولى يسيرا أو كثيرا.

                                                                                                                                                                                        والقول إنه يبتدئ، والقول إنه يتم ويبتدئ يرجع إلى شيء واحد، وهو أنه بالخيار بين أن يبتدئ أو يتم ثم يبتدئ، وليس يريد: أنه يجب عليه أن يتم ثم يبتدئ، وقول أصبغ هو الأصل أن يبتدئ حيثما كان من صومه، وإن أتم وابتدأ فقد أحسن، وإليه يرجع القولان، وليس الخلاف إلا في موضع واحد، وهو قول محمد: أنه إذا مضى أيسره أتم وأجزأه. [ ص: 2360 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية