الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في عقد الشركة هل يلزم الوفاء به؟

                                                                                                                                                                                        وإذا كانت الشركة بأن أخرجا دنانير ودراهم ليشتريا بها سلعة بعينها لا يقدر أحدهما على شرائها بماله بانفراده، لم يكن لأحدهما الرجوع عن ذلك; لأنهما أوجبا أمرا جائزا يتعلق به حق لمن طلب الوفاء به، وإن كان يقدر كل واحد بانفراده على شرائها وكان شراء الجملة أرخص فكذلك. وإن كان الشراء في الجملة وعلى الانفراد سواء، جرت على القولين فيمن اشترط شرطا جائزا لا يفيد، فاختلف هل يلزم الوفاء به أم لا؟.

                                                                                                                                                                                        وإن كانت الشركة ليتجرا في شيء بعينه وما لا أمد لانقضائه، كان لكل واحد منهما الرجوع عن ذلك، وتكون له دنانيره وإن كان لها فضل; لأنه إنما رضي أن تكون بينهما لمكان التجر في المستقبل، فإذا لم يصح له كان له دنانيره.

                                                                                                                                                                                        وكذلك إذا أخرج أحدهما دنانير والآخر دراهم -على قول من أجاز ذلك- ثم بدا لأحدهما، فيكون له ما كان أخرجه; لأنه لم يكن له غرض في الصرف إلا لمكان الشركة والتجر في المستقبل. ويجري فيها قول آخر: أنه تلزم الشركة لأول نضة، قياسا على أحد قولي مالك فيمن عقد الكراء مشاهرة; [ ص: 4829 ] أنه يلزم أول الشهر.

                                                                                                                                                                                        وإن كانت الشركة في سلع أخرج كل واحد منهما سلعة، كانت الشركة على ثلاثة أوجه: فإن كان القصد بيع نصف إحداهما بنصف الأخرى لا أكثر من ذلك، كانت لازمة لا رجوع لأحدهما عنها، ومن دعا منهما إلى المفاصلة والبيع كان ذلك له. وإن كان قصدهما التربص بها لما يرجى من حوالة الأسواق لموسم يرجى وما أشبه ذلك -وذلك القصد لو لم تكن شركة- كان القول قول من دعا إلى تأخير المفاصلة إلى الوقت المعتاد، ويصير حكمهما فيها حكم القراض، أنه لا يمكن أحدهما من بيعه قبل الأوان الذي يؤخر إليه، إلا أن يكون مما ينقسم من غير نقص ولا مضرة فيقسم بينهما، وهذا في الشريكين.

                                                                                                                                                                                        وإن كان القصد تمادي التجر بأثمانها كان القول قول من دعا إلى ترك التجر بأثمانها في المستقبل على أحد قولي مالك في الكراء، ويكون لمن أحب التمادي الخيار في نقض الشركة في العرضين دون من أحب ألا يتمادى فيها; لأن مقال من أحب التمادي أن يقول: لم أقصد بإخراج عرضي والشركة فيه إلا لمكان ما [ ص: 4830 ] نرجو من التجر في المستقبل، ولولا ذلك لم أشاركك فيه، فإذا لم تمكني من الوجه الذي شاركتك له عدت في عرضي، ولا مقال في ذلك لمن كره التمادي; لأن الآخر يقول: قد ملكت عليك نصف عرضك ومكنتك من الوجه الذي قصدت الشركة لأجله.

                                                                                                                                                                                        ولو أخرجا دنانير ثم سافر أحدهما بالمال، لزمت الشركة، وليس للحاضر أن يوكل من يأخذ ذلك منه بعد أن خرج الآخر لأجله، وليس للذي سافر بالمال أن يترك الشركة ويوقف له ماله هناك، ولو سافرا جميعا وكان السفر لأجل التعاون بالمالين وإنما يتجران فيما لا يقدر أحدهما أن يتجر فيه على الانفراد، لكان القول قول من دعا إلى التمادي لأول نضة.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الشركة في الحرث إذا أراد أحدهما النزوع قبل الحرث. قال ابن القاسم في كتاب محمد: ذلك له. وقال سحنون: ليس ذلك له.

                                                                                                                                                                                        وإن كانا قد بذرا، لم يكن لواحد منهما النزوع قولا واحدا; لأنه لا تجوز قسمته، بذر من الأرض أو لم يبذر. وقال ابن حبيب: إن ذهب السيل بذلك الزرع لم يجبر أحدهما على أن يعيد بذرا آخر. وإن هلك ثور أحدهما أو غلامه أو بعض الأداة جبر الآبي منهما، وإن ذهب البذر قبل أن يزرعا أو بذر أحدهما، لم يجبر الآبي منهما. وقول سحنون أبين، وهو الأصل في الشركة في المعينات، هذا إذا اشتركا ليعملا بطنا واحدا، وإن كان ليعملا في المستقبل ولم يسميا، لزم أول بطن على أحد القولين. [ ص: 4831 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية