الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في القصار يخطئ فيدفع الثوب إلى غير صاحبه، فيقطعه الآخر أو يخيطه أو يلبسه

                                                                                                                                                                                        ومن "المدونة" قال ابن القاسم في القصار يخطئ فيدفع الثوب إلى غير صاحبه فيقطعه الآخر أو يخيطه، ثم يأتي صاحبه: إن له أن يأخذه ويدفع إلى الخياط أجر الخياطة، فإن أبى أن يدفع أجر الخياطة كان الذي خاطه بالخيار بين أن يعطيه قيمته صحيحا أو يسلمه بخياطته، فإن أسلمه كان صاحبه بالخيار بين أن يمسكه أو يسلمه للقصار ويغرمه قيمته.

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون: إذا أبى صاحب الثوب أن يعطي أجر الخياطة، لم يكن له إلا أن يضمن القصار ثم يقال للقصار: أعطه أجر خياطته، فإن أبى أعطاه الآخر قيمته غير مخيط، يريد مقطوعا، قال: فإن أبى كانا شريكين، هذا بقيمة ثوبه وهذا بخياطته.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رحمه الله-: لا خلاف أن لرب الثوب أن يغرم القصار قيمة ثوبه صحيحا، وإنما الخلاف في حكم القصار ورب الثوب مع القاطع، فاختلف في أربعة مواضع: أحدها: هل يغرم القصار ما نقصه القطع؟ والثاني: هل لصاحبه أن يأخذه ولا شيء عليه في الخياطة؟ والثالث: إذا لم يكن على القاطع أن يغرم عن القطع شيئا وتمسك به لمكان خياطته: هل يغرم قيمته صحيحا أو مقطوعا؟ والرابع: إذا لم يختر أن يمسكه لموضع خياطته وسلمه: هل يسقط [ ص: 4899 ] مقاله في الخياطة أو يكون شريكا بها؟

                                                                                                                                                                                        فأما الغرم عن القطع ففيه ثلاثة أقوال: فرأى ابن القاسم: لا شيء لصاحبه على القاطع بما كان قادرا على أن يأخذ قيمته من القصار صحيحا ولا يكون للقصار على القاطع شيء; لأنه سلطه على القطع، إلا أن يكون القصار عديما فيرجع على القاطع بما نقصه القطع; لأنه مستحق لثوبه في يد من قطعه.

                                                                                                                                                                                        والقول الثاني: أن للقصار أن يغرمه قيمة القطع قياسا على قول مالك في "كتاب محمد" فيمن اشترى ثوبا فأعطاه البائع غيره فقطعه المشتري: إن عليه قيمة القطع، يريد: لأن البائع سلمه، وهو يرى أنه مجبور على تسليمه، وكذلك القصار القول قوله.

                                                                                                                                                                                        والقول الثالث: أن لا شيء على القاطع وإن كان القصار عديما قياسا على أحد القولين فيمن اشترى عبدا فقتله خطأ فقد قيل: لا شيء على القاتل، فكذلك القاطع، إلا أن يقوم دليل أنه عالم أنه غير ثوبه; لأنه أجود بالشيء البين، أو أطول بالشيء الكثير - فلا يصدق أنه لم يعلم.

                                                                                                                                                                                        وأما الخياطة، فقال ابن القاسم: لا يأخذه صاحبه إلا أن يدفع أجرة الخياطة. وقيل: إن نقصت الخياطة من قيمته كان لصاحبه أن يأخذه بلا [ ص: 4900 ] غرم إن أحب، وإلا ضمن القصار. وهذا راجع إلى الخلاف: هل تكون الشركة بقيمة الخياطة أو بما زادت؟ والصواب أن تكون الشركة بما زادت الصنعة فإن لم تزد لم يكن له شيء، ويجري فيها قول ثالث: أن لا شيء له وإن زادت، قياسا على أحد القولين فيمن استحق قمحه وقد طحن: أن لا شيء على المستحق; لأن الطحن والخياطة ليست بسلعة أضيفت إليها كالصبغ. وقال ابن القاسم: إذا أبى المستحق أن يدفع أجرة الخياطة وأمسكه القاطع لموضع خياطته: أنه يغرم قيمته صحيحا. وقيل: يغرم قيمته مقطوعا، وهو أحسن; لأن ابن القاسم لم يجعل عليه للقطع شيئا إذا أسلمه، وكذلك ينبغي إذا أمسكه أن لا يكون عليه في القطع شيء.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن اشترى ثوبا فأعطاه البائع غيره فقطعه: إن لصاحبه أن يأخذه مقطوعا ولا شيء على القاطع، وإن خاطه لم يكن له أن يأخذه، إلا أن يدفع أجر الخياطة، فإن أبى قيل للآخر: أعطه قيمته صحيحا، فإن أبى أسلمه بخياطته. وقال سحنون: إذا أبى هذا أن يعطي أجر الخياطة وأبى الآخر أن يعطيه قيمة الثوب كانا شريكين.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في "كتاب محمد": إذا قطع المشتري الثوب، فإن أدركه البائع أخذه، وإن لم يدركه لم يكن عليه فيه شيء وكان للمشتري ثوبه; لأنه يقول: لا أريد ثوبين وإنما اشتريت ثوبا بدينارين ولم أرد ثوبا بعشرين. وإن كان الثاني [ ص: 4901 ] دون ثوبه لكان له أن يرده وما نقصه القطع ويأخذ ثوبه، وله أن يدفع قيمته يوم قبضه، ثم يكون بالخيار في ثوبه: فإن أحب أخذه، وإن أحب لم يأخذه; لأنه يقول: لم أرد إلا ثوبا ولم أرد ثوبين، فيلزمه ما نقصه القطع.

                                                                                                                                                                                        وقول ابن القاسم أبين; لأن البائع أخطأ على ماله وسلطه على قطعه، ولو باعه لمن أسلمه إليه لم يكن عليه سوى الثمن الذي باعه به، وإن ضاع وثبت ضياعه ببينة كانت مصيبته من البائع، ويأخذ المشتري ثوبه في جميع ذلك.

                                                                                                                                                                                        ومحمل قول مالك أن الثاني يمضي في الأول وإن كان الثاني أثمن - على أنه تلف ببينة; لأن البائع طالب الفضل فإذا ضاع قال: أنا أسقط مقالتي في ذلك الفضل وأمضيه له بثوبه.

                                                                                                                                                                                        وكذلك إذا فات بلباس ولم يصون به ماله; لأن الأول كان يغني عن الثاني، وإن فات ببيع كان للبائع أن يأخذ ما بيع به ويسلم الثوب الذي بقي عنده، ويتفق في هذا الموضع مالك وابن القاسم، إلا أن يرى أن فضل ما بين الثوبين لا يخفى على مثل ذلك المشتري، فيحمل على أنه قطعه بعد معرفته أنه غير ثوبه، ويلزمه غرم قيمته ويأخذ ثوبه.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك: إذا أمر البزاز بعض قومه أن يدفع الثوب إلى مبتاعه، ثم قال بعد ذلك: إن الثوب المقبوض غير المبيع، أحلف بالله ورد عليه الثوب، ولو كان هو دافعه لم يصدق إلا أن يأتي بأمر يعرف فيه صدقه من رقم الثوب أنه أكثر مما باعه به أو شهادة. [ ص: 4902 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية