الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في التعريض بالقذف والشتم، ومن شتم بلفظ متردد بين القدف وغيره

                                                                                                                                                                                        ومن شتم رجلا فإنه لا يخلو من خمسة أوجه:

                                                                                                                                                                                        إما أن يقذف ويصرح بالقذف، أو يعرض به، أو يشتم بما لا يراد به قذف، أو يعرض به، أو بلفظ محتمل هل يراد به القذف أم لا؟

                                                                                                                                                                                        فإن صرح بالقذف أو عرض به، حد، وإن شتم بلفظ لا يراد به القذف أو عرض به، عوقب ولم يحد.

                                                                                                                                                                                        وإن أشكل الأمر هل يراد به القذف أم لا؟ أحلف أنه لم يرد قذفا، وعوقب.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا نكل هل يحد أم لا؟ فأجراه مرة على النكول عن أيمان التهم: أنه يغرم ما نكل عنه، وكذلك هذا يحد فيما نكل عنه، ورأى مرة أنه بخلاف المال، فلا يؤخذ منه الحد، ومثله إذا نكل عن الطلاق والعتق عندما شهد عليه بذلك شاهد، فاختلف هل يطلق عليه ويعتق أم لا؟

                                                                                                                                                                                        والتعريض يختلف، فإن كان من أجنبي حد، وإن كان من الأب لولده لم يحد إلا أن يصرح.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان التعريض من الزوج لامرأته، هل يحمل على أنه أراد [ ص: 6251 ] قذفا أم لا؟ وقد مضى ذلك في كتاب اللعان.

                                                                                                                                                                                        ومن التعريض أن يقول الرجل لمن شاتمه: ما أنا بزان، واللفظ يقتضي مدح نفسه، ونفي الزنى عنها، والقصد إثباته على من يخاطبه، وكذلك قوله: ما يطعن في فرجي بشيء، وإني لعفيف الفرج، أو إنك لعفيف الفرج - كل ذلك يحد فيه. وإن لم يذكر الفرج، وقال: إني لعفيف، أو ما أنت بعفيف أو عفيفة - افترق الجواب، فإن قال ذلك لرجل- أحلف أنه لم يرد قذفا ولم يحد، وهو قول مالك وعبد الملك .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال ذلك لامرأة، فقال: إني لعفيف، أو يا عفيفة، فقال مالك: يعاقب ولا يحد ، وقال عبد الملك في كتاب ابن حبيب: يحد .

                                                                                                                                                                                        وإن قال ذلك لرجل حد، إلا أن يدعي أنه أراد عفيف المكسب والمطعم والحال، فيحلف ولا حد عليه، وينكل، قال: لأن المرأة لا يعرض لها بالعفاف إلا في الفرج، والرجل يعرض له بذلك في غير وجه; في المال واللسان والفرج .

                                                                                                                                                                                        قلت : إن كان قبل الرجل ظنة في الفرج- لم يصدق أنه أراد غيره، وإن لم يكن قبل المرأة ظنة في الفرج، وعلم منها بذاءة اللسان وقلة تصون في حالها، [ ص: 6252 ] أو تتهم بسرقة- صدق أنه أراد ذلك.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن قال لرجل: "يا فاسق يا فاجر": ينكل، وإن قال: يا خبيث أحلف أنه لم يرد قذفا، ثم ينكل، فإن نكل عن اليمين لم يحد ونكل . يريد: أنه يزاد في نكاله.

                                                                                                                                                                                        وإن قال: يا ابن الفاسقة أو يا ابن الفاجرة، نكل، وإن قال: يا ابن الخبيثة، أحلف أنه ما أراد قذفا ونكل، فإن نكل عن اليمين، حبس حتى يحلف، وإن طال حبسه نكل ولم يره من التعريض .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد: إن قال: يا فاسق يا فاجر يا خبيث، أحلف ، فإن نكل حد، وكذلك إن قال: يا ابن الفاسقة، يا ابن الفاجرة، يا ابن الخبيثة: إن نكل عن اليمين حد .

                                                                                                                                                                                        قال محمد: يحلف أنه لم يرد نفيه من أبيه ولا قذفه لأبيه، فإن نكل حد .

                                                                                                                                                                                        وقال عبد الملك بن الماجشون في كتاب ابن حبيب: إذا قال يا ابن الفاسقة، أو يا ابن الفاجرة، أو يا ابن الخبيثة، فإن نكل عن اليمين حد.

                                                                                                                                                                                        ومضى في ذلك على أصله: أن قول ذلك للنساء أشد، إلا أنه عنده من الأمر المتردد هل يراد به القذف أم لا؟ [ ص: 6253 ]

                                                                                                                                                                                        ورأى ابن القاسم أن قوله: يا ابن الخبيثة أشد من قوله: يا ابن الفاسقة . ذلك لأن الفسق: الخروج من الطاعة جملة، ولا يختص بالفاحشة، قال الله -عز وجل- إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه [سورة الكهف آية: 50]. وإن الخبث يراد به الفاحشة، قال الله -عز وجل- في قوم لوط: القرية التي كانت تعمل الخبائث سورة الأنبياء آية: 74] ، وقال: الخبيثات للخبيثين [سورة النور آية: 26] ، ولم يحمل القائل على أنه أراد ذلك; لأن العامة لا تعرفه فتقصد إليه، وإنما اتقى أن يكون يريد ذلك، فاستظهر باليمين، والقول اليوم على من قال: يا فاسق أشد; لأن العامة لا تعرف الفسق إلا الفاحشة.

                                                                                                                                                                                        وإن قال: يا فاجر بفلانة، حد، إلا أن تكون له بينة على أمر صنعه بها من الفجور، مثل أن يكون خاصمها وادعى عليها مالا، فيحلف أنه أراد ذلك، فإن نكل عن اليمين لم يحد; لأنها يمين استظهار. وكذلك إذا قال: جامعت فلانة حراما، أو باضعتها حراما، وقال: لم أرد بذلك أنك زنيت بها - حد، ولم يصدق إلا أن يقيم بينة أنه تزوجها. ولو قال ذلك في نفسه- قال: جامعتها حراما- ثم قال: كنت تزوجتها، لم يصدق، وحد حد القذف، ولم يحد للزنى للشبهة في ذلك، إلا أن تكون له بينة على التزويج ، ولو قال: رأيت فلانا يصيب أمك حلالا فإن كان في مشاتمة حد .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن قال لرجل: جامعت فلانة بين فخذيها أو في [ ص: 6254 ] أعكانها أنه تعريض يوجب الحد. وقال أشهب: لا حد عليه; لأنه صرح بما رماها به، وقد ترك عمر زيادا الذي قال: رأيته بين فخذيها .

                                                                                                                                                                                        والقول الأول أحسن; لأنه قال ذلك على وجه المشاتمة، والآخر أتى على وجه الشهادة.

                                                                                                                                                                                        وقد قال ابن القاسم في الأربعة الذين شهدوا بالزنى، فلما كشفوا قال أحدهم: رأيته بين فخذيها أنه لا حد عليه; لأنه أتى على وجه الشهادة .

                                                                                                                                                                                        وإن قال: رأيتك تطلب امرأة، أو في إثرها، أو تقبلها، أو اقتحمت عليها، أو دخلت فلانة عليك- لم يحد، يريد: ويحلف أنه لم يرد قذفا .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال: زنى فوك، زنت يدك، زنت رجلك ، فقال ابن القاسم: يحد، ورآه من التعريض. وقال أشهب في كتاب محمد: لا حد عليه . [ ص: 6255 ]

                                                                                                                                                                                        والأول أحسن، إلا أن يكون قوله ذلك بإثر ما تكلم الآخر بباطل بطش بذلك أو سعى فيه، فادعى أنه إنما أراد ذلك، فإنه يحلف ولا يحد.

                                                                                                                                                                                        وفي كتاب محمد: إذا قال: يا متسور الجدران، ثم قال: أردت النخل، أنه يحد ولا يقبل قوله .

                                                                                                                                                                                        قلت: ولو كان المقول له ممن يتهم بالسرقة، وقال: ذلك أردت، لقبل قوله إذا حلف أنه أراد ذلك.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك: جلد مروان رجلا الحد قال لرجل: إن أمك تحب الظلم، وقال مالك: ولا أرى فيه الحد، وفيه النكال .

                                                                                                                                                                                        قلت : أما إن قال الظلم بإسكان اللام فالجواب كما قال مالك، ولا أرى فيه الحد ، وإن قال الظلم بفتح اللام فإنه يحد.

                                                                                                                                                                                        وإن قال: يا محدودا في الزنى، حد، وإن قال: يا محدودا في شرب الخمر أو القذف ، عوقب ولم يحد، وإن قال: يا محدودا، ولم يزد شيئا سئل ما أراد [ ص: 6256 ] بذلك ؟ فإن قال: أردت في شرب أو قذف- حلف على ذلك وعوقب ولم يحد، وإن نكل حد، وهو قول أصبغ: أنه يحد إذا نكل، وعلى القول الآخر: يزاد في عقوبته، ولا يحد .

                                                                                                                                                                                        قال مالك: ومن وقع بينه وبين رجل منازعة، فقال له: لأجلدنك حدين، فإنه يحلف ما أراد الفرية، فإن حلف أدب .

                                                                                                                                                                                        واختلف فيمن قال لامرأة : يا زانية، فقالت: زنيت بك، فقال مالك: تحد للرجل، وتحد للزنى، إلا أن تنزع عن قولها، فتضرب للرجل، ويدرأ عنها حد الزنى، ويدرأ حد القذف عن الرجل; لأنها صدقته .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد: إلا أن تنزع هي وتقول: ما قلت ذلك إلا على وجه المجاوبة ولم أرد قذفا ولا إقرارا مني بالزنى فيكون الحد على الرجل كما هو ولا حد عليها في قذف ولا زنى .

                                                                                                                                                                                        وقال فيها أصبغ: بل على كل واحد منهما الحد لصاحبه، وإن نزعت عن قولها; لأن كل واحد منهما قاذف لصاحبه; لأن قولها ليس بتصديق، ولكن ذلك منها رد عليه .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في كتاب محمد: ومن قال لرجل: أراك زانيا، فقال: أنت أزنى [ ص: 6257 ] مني، قال: عليهما الحد. قال أصبغ: هما قاذفان، وليس قوله، أنت أزنى مني إقرار منه بالزنا، ومحمله محمل الرد لما قال له. وروى عن ابن شهاب أن ذلك قذف له وإقرار على أنفسهما .

                                                                                                                                                                                        وقول أشهب أحسن، وهذا مما تقول المرأة، أي: أنت تعلم أني لم أفعل ذلك كما لم أفعله معك، وأما قوله: أنت أزنى مني، فهو قذف على كل حال، وليس بإقرار.

                                                                                                                                                                                        واختلف فيمن قال لرجل: يا ابن الزانية، وقال الآخر: أخزى الله ابن الزانية، فقال ابن القاسم: يحلف القائل "أخزى الله ابن الزانية" أنه ما أراد قذفا، فإن أبى أن يحلف، سجن حتى يحلف. ورآه أصبغ معرضا، وقال يجلد ثمانين; لأنه جواب في مشاتمة، وتعريض له .

                                                                                                                                                                                        وقول ابن القاسم أبين; لأنه نسبه إلى الشيء فبرأ نفسه منه بقوله ذلك.

                                                                                                                                                                                        ومن حمل كتابا فيه قذف ودفعه لرجل فيه: "يا ابن الفاعلة" - حد إن كان يعرف ما فيه. ومن قذف رجلا بما عمل قوم لوط حد.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال رجل لرجل: يا مخنث، فقال مالك في المدونة: يحلف أنه ما أراد قذفا، وينكل، فإن نكل هو حد . [ ص: 6258 ]

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب محمد : إن كان في المقول له توضيع في بدنه خلقة فيه، أو من عمل النساء شيء، أو لين الكلام، أحلف ما أراد غيره، وإن كان بريئا من ذلك لا شيء فيه منه حد القائل .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد بن مسلمة في الرجل يأتي بالأمر ويسابب الرجل بما يشبه الفرية والشتم فيحلف إن قال: لم أرد الشتم، فإن حلف عوقب، وإن نكل حد.

                                                                                                                                                                                        ومن قال لرجل: أنا أفتري عليك، وأنا أقذفك، لا حد عليه، ويحلف أنه ما أراد: أقذفك بالفاحشة.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك: فيمن قال لرجل: إن لم أكن أصح منك فأنت ابن زانية، يقول: لست أقارف ما تقارف: إنه إن أقام البينة على ذلك نكل، وإن لم يأت بالبينة حد، وعلى هذا يجري الجواب إذا قال: إن لم أكن خيرا منك .

                                                                                                                                                                                        وقال أصبغ في كتاب ابن حبيب في من قال لرجل: يا أحمق، فقال: أحمقنا ابن زانية- فعليه الحد .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في كتاب محمد فيمن قال: من رماني منكم، أو لبس ثوبي، أو ركب دابتي فهو ابن زانية، فإنه إن كان أراد من فعل ذلك، وقد كان فعل ذلك به أحد حد له، وإن أراد المستقبل، من يرميه أو يلبس ثوبه أو يركب دابته، فرماه منهم رجل أو لبس ثوبه أو ركب دابته بعد قوله ذلك- فلا حد عليه. [ ص: 6259 ]

                                                                                                                                                                                        قال: وكذلك كل ما لا يحل لأحد أن يفعله به، ففعله بعد قوله- فلا حد عليه. قال: وأما إن كان قوله لمن لا يملك منعه فعليه الحد، ثم ينظر، فإن كان من الأمر العام مثل أن يقول: من دخل المسجد، أو من دخل الحمام فهو ابن زانية - فعليه الحد، وسواء أراد بذلك الماضي أو المستقبل، ويحد ساعتئذ وإن لم يدخل بعد قوله أحد، وإن كان من الأمر الخاص مثل أن يقول: من رمى فلانا، أو لبس ثوبه أو ركب دابته فهو ابن زانية- فإن فعل ذلك حد .

                                                                                                                                                                                        وكذلك إذا جحد رجل حقه، فقيل له: فلان وفلان يشهدان عليك، فقال: من شهد علي منهما فهو ابن زانية، فشهدا عليه فعليه الحد. وكذلك إذا قيل له: إنك قد فعلت كذا وكذا ، فقال: من قال إني فعلته فهو ابن زانية، فقال إنسان: أنا قلته، فإن أثبت بينة أنه قال ذلك- حد له، وإلا لم يحد.

                                                                                                                                                                                        وإن قال: يا زوج الزانية، ولا زوجة له- لم يحد، وإن كانت له زوجة حد. وإن قال: يا قرنان -ولا زوجة له- لم يحد، فإن كانت له زوجة حد، وإن قال: يا قرنان، ولا زوجة - عوقب للرجل، فإن كانت له زوجة عوقب له، وحد للمرأة.

                                                                                                                                                                                        وقال أصبغ في كتاب ابن حبيب: إن قال لرجل: يا زوج الزانية، وله زوجتان، فعفت واحدة، وقامت الأخرى; فإن زعم أنه أراد بالقذف التي [ ص: 6260 ] عفت- حلف بالله على ذلك وبرئ من الحد، فإن نكل عن اليمين حد .

                                                                                                                                                                                        وإن قال: يا كافر، يا يهودي، يا شارب الخمر، يا خنزير، يا آكل الربا، نكل ، ولم يحلف أنه لم يرد قذفا; لأن هذه الأشياء لا يراد بها التعريض للقذف، والعقوبة في جميع ما تقدم أنه يلزمه فيه النكال على قدر القائل والمقول له والقول ، فإن كان القائل ممن لا قدر له أو عرف بالأذى والمقول له من أهل الخير والصيانة- كانت العقوبة أشد، وإن كان من أهل الخير والصيانة- كانت العقوبة أخف، إلا أن يكون مضمون القول الأمر الخفيف، فلا يعاقب، ويزجر بالقول، وإن كان القائل ممن له قدر ومعروف بالخير والمقول له على غير ذلك - زجر بالقول. قال مالك: فقد يتجافى السلطان عن الفلتة التي تكون من ذوي المروءات . [ ص: 6261 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية