الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا عرفت هذه المقدمة واستبنت أن الطهارة لها أربع مراتب .

فاعلم أنا في هذا الكتاب لسنا نتكلم إلا في المرتبة الرابعة وهي نظافة الظاهر لأنا في الشطر الأول من الكتاب لا نتعرض قصدا إلا للظواهر .

فنقول طهارة الظاهر ثلاثة أقسام طهارة عن الخبث وطهارة عن الحدث وطهارة عن فضلات البدن ، وهي التي تحصل بالقلم والاستحداد واستعمال النورة والختان وغيره .

القسم الأول في طهارة الخبث .

والنظر فيه يتعلق بالمزال والمزال به والإزالة .

الطرف الأول في المزال .

وهي النجاسة .

والأعيان ثلاثة جمادات وحيوانات وأجزاء حيوانات .

أما الجمادات فطاهرة كلها إلا الخمر وكل منتبذ مسكر

التالي السابق


(فإذا عرفت هذه المقدمة واستيقنت) بقلبك (أن الطهارة لها أربع مراتب فاعلم أنا في هذا الكتاب) أي أسرار الطهارة (لسنا) وفي نسخة لا (نتكلم إلا في المرتبة الرابعة) وهي الأولى بالنسبة إلى سياقه الأول (وهي نظافة الظاهر) ونقاوته عن الأوساخ والأحداث (لأنا في الشطر الأول من الكتاب لا نتعرض قصدا إلا للظاهر) وهي الطهارة الجسمانية، وأما المراتب الثلاثة منها، فإن المصنف يشير إليها في مجموع كتابه هذا لو تأمل الإنسان في سياقاته لوجدها دالة عليها (فنقول طهارة الظاهر) على (ثلاثة أقسام طهارة عن الخبث) بدنا وثوبا، وهو النجس الحقيقي (وطهارة عن الحدث) بدنا، وهو النجس الحكمي من الأصغر والأكبر، ووقع للمصنف في الوجيز تقديم الحدث على الخبث، وهكذا هو في كتب مذهبنا، وعبارة الوجيز المطهر للحدث والخبث، وقال الرافعي في شرحه: الخبث مرقوم في النسخ برقم أبي حنيفة رحمه الله تعالى دون الحدث بناء على المشهور أن الطهورية مخصوصة بالماء في الحدث إجماعا، لكنه في الخبث مختلف فيه بيننا وبينهم. . وربما يؤخذ منه سبب تقديمه على الحدث مع تأمل فيه، وقال الأصفهاني في شرح المحرر: الحدث لفظا مشترك بين الحدث الأكبر والحدث الأصغر، لكنه إذا أطلق عن الوصفين كان المراد الأصغر غالبا، وهذا الإطلاق عرف خاص لا مفهوم لغوي بل مجاز لغوي عند بعض وحقيقة شرعية عند بعض .

وقال الشمني في شرح النقاية: الطهارة لغة النظافة وبعضها فضل ما يتنظف به، واصطلاحا النظافة عن الحدث أو الخبث، وسبب وجوبها إرادة الصلاة، أو ما يضاهيها بشرط الحدث أو الخبث، وفي الخلاصة سبب الوضوء الحدث، وقال بعضهم: إقامة الصلاة وهو الأصح وبالأول أخذ الإمام السرخسي في الأصل، وفي المحيط سبب وجوبه إنما هو إرادة الصلاة بالنص (وطهارة عن فضلات البدن، وهي التي تحصل بالقلم) كالأظافر (والاستحداد) هو استعمال الحديد أي الموسى كشعر العانة (واستعمال النورة) لمن لم يحسن الاستحداد (والختان) هو قطع القلفة (وغيره) بما يجري مجراه .

(القسم الأول في طهارة الخبث والنظر فيه يتعلق) بأمور ثلاثة (بالمزال) هو اسم مفعول من أزاله عنه فهو مزال وهي النجاسات (والمزال به) كالماء مثلا فإنه تزال به [ ص: 314 ] النجاسات (والإزالة) أي بيان كيفيتها، وقد ذكر المصنف ما في هذا القسم في ثلاثة أطراف (الطرف الأول في المزال) أي في بيان ما يزال ما هو فقال (هي النجاسات) ومنهم من فسرها بالقذارات، والصحيح أن القذر أعم من النجس (والأعيان) وهي ما له قيام بذاته بأن يتحيز بنفسه غير تابع تحيزه تحيز شيء (جمادات) هي التي لا روح فيها (وحيوانات) ذوات أرواح (وأجزاء حيوانات) مما ينفصل عنها بالجز والقطع وغير ذلك، وهذا التقسيم تبع فيه شيخه إمام الحرمين حيث قسم الأعيان إلى جماد وحيوان (أما الجمادات فطاهرة كلها) لأنها مخلوقة لمنافع العباد وإنما يحصل الانتفاع أو يكمل بالطهارة ولا يستثنى من هذا الأصل من الجمادات (إلا الخمر وكل مشتد مسكر) أي ما يسكر من الأنبذة، أما الخمر فلوجهين أحدهما أنها محرمة التناول للاحترام وضرر ظاهر، والناس مشغوفون بها، فينبغي أن تكون محكوما بنجاستها تأكيدا للزجر، والثاني أن الله تعالى سماها رجسا، وهو النجس، وأما الأنبذة المسكرة فإنها ملحقة بها في التحرير فكذا النجاسة، هذا مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، فإن الخمر عنده هي التي من ماء العنب إذا غلى واشتد، ووافقه الصاحبان أبو يوسف ومحمد، قالوا: لأن الاسم يثبت به، وكذا المعنى المحرم، وهو كونه مسكرا، وزاد أبو حنيفة رحمه الله تعالى في تعريف الخمر بعد الاشتداد فقال: وقذف بالزبد قال: لأن الغليان بذاته الشدة، وكمالها بقذف الزبد وسكونه; إذ به يتميز الصافي عن الكدر، وأحكام الشرع قطعية فيناط بالنهاية كالحد وإكفار المستحل، وأحكامه أنه حرام قليله وكثيره، وقوله: وكل مشتد مسكر، أي فإن حكمه حكم الخمر كالباذق والمنصف والمثلث والجمهوري والنبيذ، فالباذق هو المطبوخ أدنى طبخة، والمنصف ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، حكمهما واحد في الاشتداد، والمثلث ماء العنب طبخ حتى بقي ثلثه، فإذا اشتد حل عند محمد، وحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف، والجمهوري ماء العنب صب عليه الماء، وقد طبخ حتى بقي ثلثاه، وحكمه ملحق بالباذق، وحرمة الخمر عينية ونجاستها غليظة; لأنها ثبتت بالدليل القطعي، وأما حرمة الطلاء والسكر ونقيع الزبيب فإنها دون حرمة الخمر; لأنها اجتهادية ولا يكفر مستحلها، وإنما يضلل ونجاستها خفيفة في رواية وغليظة في أخرى، وذكر يحيى اليمني من الشافعية في البيان وجها ضعيفا أن النبيذ طاهر لاختلاف العلماء فيه بخلاف الخمر، وفي شرح الوجيز ذكروا وجها في أن بواطن حبات العنقود مع استحالتها خمرا لا يحكم بنجاستها تشبيها بما في باطن حيوان، وهذا ينافي إطلاق القول بالنجاسة، قال الرافعي: واعلم أن المصنف لا يريد بالجماد في هذا التقسيم مطلق ما لا حياة فيه بل وما لم يكن حيوانا من قبل ولا جزءا من حيوان ولا خارجا منه وإلا لدخل في الجمادات الميتات وأجزاء الحيوانات وما ينفصل عن باطن الحيوان، وحينئذ لا ينتظم أصل الاستثناء على الخمر والنبيذ فتأمل .



(تنبيه)

قال صاحب المختار: النجاسة غليظة وخفيفة، قال الشارح في الموضح: يعني إذا ورد نص في نجاسة شيء ونص آخر في طهارته، يرجح دليل النجاسة، لكن معارضة ذلك في النص يؤثر في تخفيف نجاسته، وإذا لم يعارضه نص تكون نجاسته غليظة، هذا هو الحكم عند أبي حنيفة. مثال المخففة بول ما يؤكل لحمه، فإن قوله صلى الله عليه سلم: استنزهوا البول. يدل على نجاسته، وحديث العرنيين يدل على طهارته، وقال: إذا اختلف العلماء في نجاسة شيء وطهارته تكون مخففة، وإذا اتفقوا على نجاسة شيء تكون مغلظة، وفائدة الخلاف تظهر في الروث، عند أبي حنيفة مغلظة؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم ألقى الروث، وقال: إنها ركس أي نجس، ولم يعارضه نص آخر، وعندهما مخففة للاختلاف، فإن مالكا رحمه الله تعالى يرى طهارته لعموم البلوى بخلاف بوله فإنه نجس نجاسة مغلظة; إذ لا ضرورة فيه، فإن الأرض تنشفه، وسيأتي الكلام عليه قريبا .




الخدمات العلمية