الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال أبو ذر انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال : هم الأخسرون ورب الكعبة فقلت ومن هم قال ؟ الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا ، من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، وقليل ما هم ، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه ، بقرونها وتطؤه بأظلافها ، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس

التالي السابق


(وقال أبو ذر) -رضي الله عنه- فيما رواه الشيخان؛ فالبخاري في الأيمان والنذور وفي الزكاة، ومسلم في الزكاة وهذا لفظه: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة) قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، (فقلت) : يا رسول الله، فداك أبي وأمي، (ومن هم؟) قال: (هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه و) عن (شماله، وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، فتنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس) .

هذا لفظ مسلم، وفي طريق آخر: وذكر نحو ما تقدم، غير أنه قال: والذي نفسي بيده ما على الأرض رجل يموت فيدع إبلا أو بقرا أو غنما لم يؤد زكاتها..
وفي بعض طرق البخاري: هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة. [ ص: 11 ] قلت: ما شأني؟ أترى بي شيئا؟ ما شأني؟! فجلست وهو يقول، فما استطعت أن أسكت وتغشاني ما شاء الله، فقلت: من هم بأبي أنت؟ الحديث .

أخرجه في كتاب الأيمان والنذور، وذكر الوعيد على من كانت له إبل أو بقر أو غنم ولم يؤد حقها من حديث أبي ذر بمثل ما ذكره مسلم في ذلك، ثم قال: رواه بكير عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وأخرج مسلم من حديث أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء، ونحن ننظر إلى أحد، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، قال: قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ما أحب أن أحدا ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار، إلا دينارا أرصده في دين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا، وحثا بين يديه، وهكذا عن يمينه، وهكذا عن شماله، قال: ثم مشينا، فقال: يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، مثل ما صنع في المرة الأولى.. الحديث .

وأخرج أيضا من حديثه قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده وليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال: من هذا؟ فقلت: أبو ذر، جعلني الله فداك، قال: يا أبا ذر تعال، فمشيت معه ساعة، فقال: إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا، فنفح به عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا، قال: فمشيت معه ساعة.. الحديث .

وأخرج أحمد وهناد وعبد بن حميد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد بلفظ: هلك المكثرون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، وقليل ما هم. وأخرجه الطبراني في الكبير من حديث عبد الرحمن بن أبزى.

وأخرج أبو نعيم في الحلية من حديث أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، اعقل ما أقول لك، إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال كذا وكذا.. الحديث .

وروى مسلم من طريق زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبينه وجنبه، ثم أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، قيل: يا رسول الله، فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر ادخر ما كانت لا يفقد فيها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، قيل: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر وغنم لا يؤدي منها حقها إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء فتنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ثم ذكر الخيل والحمر.

وفي رواية له: ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها، ولم يقل فيها أخرج البخاري من هذا الحديث ذكر الخيل إلخ، وذكر في الوعيد على من لم يؤد زكاته من رواية شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه: تأتي على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط فيها حقها تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها.

وروى مسلم عن الزبير سمع جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من صاحب إبل لا يفعل حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قط، وقعد لها بقاع قرقر تثير عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جماء ولا منكسر قرنها، ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يتبعه فاتحا فاه، فإذا أتاه فر منه، فيناديه: خذ كنزك الذي خبأته فأنا غني عنه، فإذا رأى أنه لا بد منه سلك يده في فيه، فيقضمها [ ص: 12 ] قضم الفحل.

قال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبد الله عن ذلك فقال مثل قول عبيد بن عمير، وفي لفظ آخر عن جابر رفعه: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تملؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن، ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيث ذهب، وهو يفر منه، يقال: هذا مالك الذي كنت تبخل به! فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه، فجعل يقضمها كما يقضم الفحل.

ولم يخرج البخاري عن جابر في هذا شيئا، وخرج عن أبي هريرة رفعه: كنز أحدكم يوم القيامة شجاع أقرع، وعنه رفعه: من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه، يعني بشدقيه، ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا: ولا يحسبن الذين يبخلون الآية.

وزاد في طريق أخرى: والله لن يزال يطلبه حتى يبسط يده فيلقمها فاه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ما رب النعم لم يعط حقها تسلطت عليه يوم القيامة تخبط وجهه بأخفافها. ذكر هذه الزيادة في كتاب الخيل .



(تنبيه)

فيه فائدتان متعلقتان بحديث مسلم الذي أورده المصنف:

الأولى: قوله: حتى يقضى بين الناس، قال العراقي في شرح الترمذي: يمكن أن يؤخذ منه أن مانع الزكاة آخر من يقضى فيه، وأنه يعذب بما ذكر حتى يفرغ من القضاء بين الناس، فيقضى فيه بالنار أو الجنة، ويحتمل أن المراد حتى يشرع في القضاء بين الناس ويجيء القضاء فيه إما في أوائلهم أو وسطهم أو آخرهم على ما يريد الله. وهذا أظهر ا ه .

قال ولده في شرح التقريب: قد يشير إلى الأول قوله: في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ويقال: إنما ذكر في معرض استيعاب ذلك اليوم بتعذيبه لجواز أن يكون القضاء فيه آخر الناس، وإن احتمل أن يكون فصل أمره في وسطه أو أوله والله أعلم .

الثانية: فيه أن هذا الوعيد في حق المسلمين والكفار، فإن في رواية أخرى من هذا الحديث عند مسلم: فيرى سبيله إما إلى الجنة هو المسلم، والذي إلى النار فيحتمل أن يكون على سبيل التأبيد فيها فهو الكافر، ويحتمل أن يكون على سبيل التعذيب والتمحيص ثم دخول الجنة، وهو المسلم. وفي دخول المسلم في هذا الوعيد رد على المرجئة؛ حيث يقولون: إنه لا يضر مع الإسلام معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، والكتاب والسنة مشحونتان بما يخالف قولهم، واعتذروا عن ذلك بأن المراد به التخويف لينزجر الناس عن المعصية وليس حقيقته وظاهره، وهو باطل، ولو صح قولهم لارتفع الوثوق عما جاءت به الشرائع، واحتمل في كل منها ذلك، وهذا يؤدي إلى هدم الشرائع وسقوط فائدتها، والله أعلم .




الخدمات العلمية