الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذه أحكام فقهية لا بد للغني من معرفتها وقد تعرض له وقائع نادرة خارجة عن هذا فله أن يتكل فيها على الاستفتاء عند نزول الواقعة بعد إحاطته بهذا المقدار .

التالي السابق


(فهذه أحكام فقهية) ومسائل شرعية (لا بد للغني) السالك في طريق الآخرة (من معرفتها) إجمالا إن لم يكن الوقوف على تفصيلها بالتطبيق على الأصول والقواعد، (وقد تعرض له) في أثناء ذلك (وقائع نادرة) غريبة (خارجة عن هذا) الذي أوردناه (فله أن يتكل فيها على الاستفتاء) عن سادة العلماء المتقنين (عند نزول الواقعة) وحدوث النازلة (بعد إحاطته بهذا المقدار) الذي ذكرناه في هذا الكتاب، والله أعلم .

ولنذكر ما تضمن هذا الفصل من الاعتبارات التي سبق الوعد بذكرها، مجموعة في موضوع واحد، مستفاد من كلام الشيخ الكبير -قدس سره- مما ذكره في كتاب الشريعة والحقيقة، مقتصرا منها على مسائل الفصل التي تقدم تفصيلها على لسان الشرع الظاهر .

قال رحمه الله: لما كان الزكاة معناه التطهير كان لها من الأسماء الإلهية الاسم القدوس، وهو الطاهر، وما في معناه من الأسماء الإلهية، ولما لم يكن المال الذي يخرج في الصدقة من جملة مال المخاطب بالزكاة، وكان بيده أمانة لأصحابه، لم يستحقه غير صاحبه، وإن كان عند هذا الآخر، ولكنه هو عنده بطريق الأمانة إلى أن يؤدى إلى أهله، كذلك في زكاة النفوس، فإن النفوس لها صفات تستحقها، وهي كل صفة يستحقها الممكن، وقد يوصف الإنسان بصفات لا يستحقها الممكن من حيثما هو ممكن، ولكن يستحق تلك الصفات الحق سبحانه، فيتعين على العبد أن يؤدي مثل هذه الصفات إلى الله تعالى إذا وصف بها، ليميزها عن صفاته التي يستحقها، كما أن الحق سبحانه وصف نفسه بما هو حق للممكن؛ تنزلا منه سبحانه ورحمة بعباده، فزكاة نفسك إخراج حق الله منها، وهو تطهيرها بذلك الإخراج من الصفات التي ليست بحق لها، فتأخذ ما لك منه وتعطي ما له منك، وإن كان كما قال الله تعالى: بل لله الأمر جميعا ، فكل ما سوى الله فهو لله بالله؛ إذ لا يستحق أن يكون له إلا ما هو منه؛ قال صلى الله عليه وسلم: موالي القوم منهم، وهي إشارة بديعة، فإنها كلمة تقتضي غاية الوصلة حتى لا يقال: إلا أنه هو، وتقتضي غاية البعد حتى لا يقال: إنه هو؛ إذ ما هو منك فلا يضاف إليك؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه؛ لعدم المغايرة، فهذا غاية الوصلة، وما يضاف إليك ما هو فيك فهذا غاية البعد؛ لأنه قد أوقع المغايرة بينك وبينه، فمعنى قوله: لله الأمر جميعا، أي: ما توصف أنت به ويوصف الحق به هو لله كله، فمالك لا تفهم مالك بما في قوله: أعطني مالك؟! ففي "من" باب الإشارة، واسم "من" باب الدلالة أي: الذي لك، وأصليته من اسم المالية؛ ولهذا قال: خذ من أموالهم أي: المال الذي في أموالهم مما ليس لهم، بل هو صدقة مني على من ذكرتهم في كتابي، يقول الله: ألا تراه قد قال: إن الله قد فرض علينا صدقة أو زكاة في أموالنا، بجعل أموالهم ظرفا للصدقة؟ والظرف هو عين المظروف، فمال الصدقة ما هو عين مالك، بل مالك ظرف له، فما طلب الحق منا ما هو لك، فالزكاة في النفوس آكد منها في الأموال؛ ولهذا قدمها الله في الشراء، فقال: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ، ثم قال: وأموالهم فالعبد ينفق في سبيل الله نفسه وماله .



(فصل في وجوب الزكاة) هي واجبة بالكتاب والسنة والإجماع، فلا خلاف في ذلك، أجمع كل ما سوى الله على أن وجود ما سوى الله إنما هو بالله، فردوا وجودهم إليه سبحانه لهذا الإجماع، ولا خلاف في ذلك بين كل ما سوى الله، فهذا اعتبار الإجماع في زكاة الموجود، فرددنا ما هو لله إلى الله، فلا موجود ولا موجد إلا الله، أما الكتاب فقوله: كل شيء هالك إلا وجهه وليس الوجه إلا الوجود، وأما السنة فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ فهذا اعتبار وجوب الزكاة العقلي والشرعي .



(فصل في ذكر من تجب عليه الزكاة)

فاتفق العلماء على أنها واجبة على كل مسلم حر بالغ عاقل مالك النصاب ملكا تاما، هذا محل الاتفاق، واختلفوا في وجوبها على اليتيم والمجنون والعبد وأهل الذمة والناقص الملك من الذي عليه الدين أو له الدين، ومثل المال المحبس الأصل، فاعتباره ما اتفقوا عليه، المسلم [ ص: 74 ] هو المنقاد لما يراد منه، وقد ذكرنا أن كل ما سوى الله قد انقاد في رد وجوده إلى الله، وأنه ما استفاد الوجود إلا من الله، ولا بقاء له في الوجود إلا بالله، وأما الحرية فمثل ذلك، فإنه من كان بهذه المثابة فهو حر أي: لا ملك عليه في وجوده لأحد من خلق الله، وأما البلوغ فاعتباره إدراكه للتمييز بين ما يستحقه ربه وما لا يستحقه، فإذا عرف مثل هذه فقد بلغ الحد الذي يجب عليه رد الأمور كلها إلى الله، وهي الزكاة الواجبة عليه، وأما العقل فهو أن يعقل عن الله ما يريد الله منه في خطابه إياه في نفسه بما يلهمه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قيد وجوده بوجود خالقه فهو عقل نفسه؛ إذ العقل مأخوذ من عقال الدابة، وعلى الحقيقة عقال الدابة مأخوذ من العقل، فإن العقل متقدم على عقال الدابة، فإنه لولا ما عقل أن هذا الحبل إذا شد به الدابة قيدها عن السراح ما سماه عقالا، وأما قولهم: المالك للنصاب ملكا تاما، فملكه النصاب هو عين وجوده لما ذكرنا من الإسلام والحرية والبلوغ والعقل، وأما قولهم: ملكا تاما؛ إذ التام هو الذي لا نقص فيه، والنقص صفة عدمية، فهو عدم؛ فالتام هو الموجود، فهو قول الإمام أبي حامد، يعني المصنف، وليس في الإمكان أبدع من هذا العالم؛ إذ كان إبداعه عين وجوده، ليس غير ذلك أي: ليس في الإمكان أبدع من وجوده، فإنه ممكن لنفسه، وما استفاد إلا الوجود فلا أبدع في الإمكان من الوجود، وقد حصل، فإنه ما يحصل للممكن من الحق سوى الوجود، فهذا معنى اعتبار قولهم: ملكا تاما، وأما اعتبار ما اختلفوا فيه، فقال قوم: تجب الزكاة في أموالهم، وبه أقول، وقال قوم: لا، وفرق آخرون بين ما تخرجه الأرض وما لا تخرجه، فقالوا: عليه الزكاة فيما تخرجه الأرض، وليس عليه فيما عدا ذلك من الماشية والناض والعروض، وفرق آخرون بين الناض وغيره، فقالوا: عليه الزكاة إلا في الناض خاصة .



الاعتبار: اليتيم من لا أب له بالحياة، وهو غير بالغ، أي: لم يبلغ الحلم بالسن أو الإنبات أو رؤية الماء، قال الله تعالى: لم يلد ولم يولد ، وقال سبحانه وتعالى: أنى يكون له ولد فليس الحق بأب لأحد من خلق الله، ولا أحد من خلقه يكون له ولدا سبحانه وتعالى، فمن اعتبر التكليف في عين المال قال بوجوبها، ومن اعتبر التكليف في المالك قال: لا تجب عليه؛ لأنه غير مكلف. كذلك من اعتبر وجوده لله قال: لا تجب الزكاة، فإنه ما ثم من يقبلها لو وجبت، فإنه ما ثم إلا الله، ومن اعتبر إضافة الوجود لغير الممكن، وقد كان لا يوصف بالوجود، قال بوجوب الزكاة، ولا بد إذ لا بد للإضافة من تأثير معقول؛ ولهذا تقسم الموجودات إلى قسمين: قديم، وحادث. فوجود الممكن وجود حادث؛ أي: حدث له هذا الوصف، ولا يدل حدوث الشيء عندنا على أنه لم يكن له وجود قبل حدوثه عندنا، كما تقول: حدث عندنا اليوم ضيف؛ فإنه لا يدل ذلك على أنه لم يكن له وجود قبل ذلك، فمن راعى أن الوجود الحادث غير حق الموصوف به قال بوجوب الزكاة على اليتيم؛ لأنه حق للواجب الوجود فما اتصف به هذا الممكن، كما يراعي من يرى وجوبها على اليتيم في ماله أنها حق الفقراء في عين هذا المال، فيخرجها منه من يملك التصرف في ذلك المال، وهو أولى، ومن راعى أن الزكاة عبادة لم يوجب الزكاة؛ لأن اليتيم ما بلغ حد التكليف، ومن ذلك أهل الذمة، والأكثر أنه لا زكاة على ذمي إلا طائفة روت تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب، وهو أن يؤخذ منهم ما يؤخذ من المسلمين في كل شيء، وقال به جماعة ورووه من فعل عمر بهم، وكأنهم رأوا أن مثل هذا توفيق، وإن كانت الأصول تعارضه، والذي أذهب إليه أنه لا يجوز أخذ زكاة من كافر وهي واجبة عليه، وهو معذب على منعها، إلا أنها لا تجزئ حتى يسلم، وكذلك الصلاة، فإذا أسلم تفضل الله بإسقاط ما سلف من ذلك عنه، قال تعالى: وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وقال تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف .



الاعتبار: الذمة: العهد والعقد، فإن كان عهدا مشروعا فالوفاء به هو زكاته، فالزكاة على أهل الذمة، ومن أسقط عنه الزكاة رأى أن الذمي لما عقد ساوى بين اثنين في العقد، ومن ساوى بين اثنين جعلهما مثلين، وقد قال تعالى: ليس كمثله شيء فلا يقبل توحيد بشرك، فإن الدليل يضاد المدلول، والتوحيد المدلول، والدليل مغاير، فلا توحيد، فمن جعل الدليل على التوحيد نفس التوحيد لم [ ص: 75 ] يكن هناك من تجب عليه الزكاة، فلا زكاة على الذمي، والزكاة طهارة، فلا بد من الإيمان؛ لأن الإيمان هو طهارة الباطن، ومعنى قولهم: "لا زكاة على أهل الذمة" أنها لا تجزئ منهم إذا أخرجوها مع كونها واجبة عليهم كسائر جميع فروض الشريعة لعدم الشرط المصحح لها، وهو الإيمان بجميع ما جاءت به الشريعة لا ببعضها، فلو آمن بالزكاة وحدها أو بشيء من الفرائض لم يقبل إيمانه حتى يؤمن بالجميع، ومن ذلك العبد. والناس فيه على ثلاثة مذاهب، فمن قائل: لا زكاة في ماله أصلا؛ لأنه لا يملك ملكا تاما؛ إذ للسيد انتزاعه، ولا يملك السيد ملكا تاما؛ لأن يد العبد هي المتصرفة فيه، إذا فلا زكاة في مال العبد، وقالت طائفة: زكاة مال العبد على سيده؛ لأن له انتزاعه منه، وقالت طائفة: على العبد في ماله الزكاة؛ لأن اليد على المال توجب الزكاة فيه لمكان تصرفها فيه، تشبيها بتصرف الحر .

قال شيخنا: وجمهور من قال: لا زكاة في مال العبد على أن لا زكاة في مال المكاتب حتى يعتق، قال أبو ثور: في مال المكاتب: الزكاة .



الاعتبار: العبد وما يملكه لسيده، والزكاة إنما هي حق أوجبه الله في المال لأصناف مذكورين، وهو بأيدي المؤمنين أمانة، وما هو مال ليس للحر ولا لعبد، فوجب أداؤه لأصحابه ممن هو عنده من الأحرار أو العبيد المؤمنين، والكل عبيد الله، فلا زكاة على العبد؛ لأنه مؤد أمانة، والزكاة عليه بمعنى إيصال هذا الحق إلى أهله ليطهر به، والزكاة على السيد؛ لأنه ملكه من باب ما أوجبه الحق لخلقه على نفسه؛ مثل قوله: كتب ربكم على نفسه الرحمة فكل من راعى أصلا مما ذكرناه ذهب في الزكاة في ملك العبد مذهبه، ومن ذلك المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم، وتستغرق بما تجب الزكاة فيه من أموالهم، وبأيديهم أموال تجب الزكاة فيها، فمن قائل: لا زكاة في ملكه حبا كان أو غيره، حتى تخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكى وإلا فلا، وقالت طائفة: الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها، وقالت طائفة: الدين يمنع زكاة الناض فقط، إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه، فإنه لا يمنع. وقال قوم: الدين لا يمنع زكاة أصلا .



الاعتبار: الزكاة عبادة، فهي حق الله، وحق الله أحق أن يقضى، بذا ورد النص، الزكاة حق من ذكر من الأصناف، والدين حق مترتب متقدم، فالدين أحق بالقضاء من الزكاة، ومن ذلك المال الذي هو في ذمة الغير وليس هو بيد المالك، وهو الدائن، فمن قائل: لا زكاة فيه وإن قبض، حتى يحول عليه حول، وهو في يد القابض، وبه أقول. ومن قائل: إذا قبضه زكاه لما مضى من السنين، وقال بعضهم: يزكيه لحول واحد، وإن قام عند المديان سنين، إذا كان أصله من عوض، فإن كان على غير عوض مثل الميراث فإنه يستقبل به الحول .

الاعتبار: لا مالك إلا الله، ومن ملكه الله إذا كان ما ملكه بيده بحيث يمكنه التصرف فحينئذ تجب عليه الزكاة بشرطها؛ إذ لا مراعاة لما مر من الزمان على ذلك المال حين كان بيد المديان، فإنه على الفتوح مع الله دائما، الذي بيده المال هو الله؛ فالزكاة فيه واجبة لما مر عليه من السنين .



(فصل)

إذا أخرج الزكاة فضاعت، فيه خمسة أقوال: قول: أنه لا يضمن بإطلاق، وقول: أنه يضمن بإطلاق، وقول: إن فرط ضمن، وإن لم يفرط لم يضمن، وبه أقول، وقول: إن فرط ضمن، وإن لم يفرط زكى ما بقي، والقول الخامس: يكونان شريكين في الباقي، وأما إذا ذهب بعض المال بعد الوجوب وقبل تمكن إخراج الزكاة قيل: يزكي ما بقي، وقال قوم: حال المساكين وحال رب المال حال الشريكين، يضيع بعض مالهما، وأما إذا وجبت الزكاة وتمكن من الإخراج فلم يخرج حتى ذهب بعض المال فإنه ضامن بالاتفاق، والله أعلم. إلا في الماشية عند من يرى أن وجوبها إنما يتم بشرط خروج الساعي مع الحول، وهو مذهب مالك.

الاعتبار: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنحوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم. وإنفاق الحكمة عين زكاتها، ولها أهل كما للزكاة أهل، فإذا أعطيت الحكمة غير أهلها، وأنت تظن أنه أهلها، فقد ضاعت كما ضاع هذا المال بعد إخراجه، ولم يصل إلى صاحبه، فهو ضامن لما ضاع؛ لأنه فرط حيث لم يثبت في معرفة من ضاعت عنده هذه الحكمة؛ فوجب عليه أن يخرجها مرة أخرى لمن هو أهلها حتى تقع في موضعها، وأما [ ص: 76 ] حكم الشريكين في ذلك كما تقرر، فإن حامل الحكمة إذا جعلها في غير أهلها على الظن فهو أيضا مضيع لها، والذي أعطيت له ليس بأهل لها فضاعت عنده فيضيع بعض حقها، فيستدرك معطي الحكمة غير أهلها ما فاته بأن ينظر في حال من ضاعت عنده الحكمة، فيخاطبه بالقدر الذي يليق به؛ ليستدرجه حتى يصير أهلا لها، ويضيع من حق الآخر على قدر ما نقصه من فهم الحكمة الأولى التي ضاعت عنده، والحال فيما بقي من وجوه الخلاف في الاعتبار على هذا الأسلوب سواء، فمن قال بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار، فسأله من ليس بأهل للحكمة فضاعت الحكمة، قال: لا يضمن على الإطلاق. ومن أخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، قال: يضمن على الإطلاق، وضمانها أنه يعطيها من الوجوه فيما سأله ما يليق به، وإن لم يصح ذلك في نفس الأمر كالأبنية فيمن لا يتصف بالتحيز، ومن أعرض عن الجواب الأول إلى جواب في المسألة يقتضيه حال السائل والوقت، قال: يزكي ما بقي، ويكون حكم ما مضى وضاع كحكم مال ضاع قبل الحول، ومن قال: يتعين عليه النظر في حال السائل، فلما لم يفعل بعد فرط، فإن فعل وغلط لشبهة قامت له، تخيل أنه من أهل الحكمة فلم يفرط، فهو بمنزلة من قال: إن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن .

والقول الخامس قد تقدم في الشريك، ولا يخلو العالم أن يعتقد فيما عنده من العلم الذي يحتاج الجند إليه أن يكون عنده لهم كالأمانة، فحكمه في ذلك حكم الأمين، إذ يعتقد فيه أنه دين عليه، فحكمه حكم الغريم، والحكم في الأمانة والدين والضياع معلوم، فيمشي عليه الاعتبار بتلك الوجوه، والله أعلم .



(فصل)

وأما إذا مات بعد وجوب الزكاة عليه، فقال قوم: تخرج من رأس ماله، وقال قوم: إن أوصى بها أخرجت من الثلث، وإلا فلا شيء، ومن هؤلاء من قال: نبدأ بها إن ضاق الثلث، ومنهم من قال: لا نبدأ بها لاعتبار الرجل من أهل الطريق يعطى العلم بالله، وقد قلنا: إن زكاة العلم تعليمه، فجاء مريد صادق متعطش فيسأل من سأل عن علم ما هو عالم به، فهذا أول وجوب تعليمه إياه ما سأله عنه كوجوب الزكاة بكمال الحول والنصاب، فلم يعلمه ما سأله فيه من العلم، فإن الله يسلب العالم تلك المسألة، فيبقى جاهلا بها، فيطلبها في نفسه فلا يجدها، فذلك موته بعد وجوب الزكاة؛ فإن الجهل موت، أو يكون العالم يجب عليه تعليم من هو أهل، فعلم من ليس بأهل، فذلك موته؛ حيث جهل الأهلية ممن هو للحكمة أهل ووضعها في غير أهلها، ففي الأول قد يمنح المريد الصادق تلك المسألة، ولكن من مشاهدة هذا العالم بأن يسمعه يعلمها غيره أو لا يعلمها ممن قد علمه ذلك العالم قبل ذلك، فتكون في ميزان العالم الأول، وإن كان قد جهلها، فهذا معنى: تجزئ عنه وتخرج من رأس ماله، فإن اعتذر ذلك العالم للمريد واعترف بعقوبته وذنبه، ففتح الله على المريد بها، فاعترافه بمنزلة من أوصى بها، وأما إخراجها من الثلث، فإن المريض لا يملك في ماله سوى الثلث لا غير، فكأنها وجبت فيما يملك، وكذلك هذا العالم لا يملك في هذه الحالة من نفسه إلا الاعتذار، والثلثان الآخران لا يملكهما، وهو المنة، فلا منة له في التعليم بعد هذه الواقعة ولا تجب عليه، فإنه قد نسيها، وبالجملة فينبغي لمن هذه حالته أن يجدد توبته مما وقع ويستغفر الله فيما بينه وبين الله؛ فإن الله يحب التوابين .



(فصل فيما تجب فيه الزكاة)

اتفقوا أنها تجب في ثمانية أشياء: الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر. وفي الزبيب خلاف شاذ .

الاعتبار: الزكاة تجب من الإنسان في ثمانية أعضاء: البصر والسمع واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب، ففي كل عضو، وعلى كل عضو من هذه الأعضاء صدقة واجبة، يطلب الله العبد بها في الدار الآخرة، وأما صدقة التطوع فعلى كل عرق فيه صدقة، فالزكاة التي في هذه الأعضاء هو حق الله تعالى الذي أوجب الله عليه في كل صنف منها، كما أوجب في هذه الثمانية المذكورة، فتعين على المؤمن أداء حق الله من كل عضو، فزكاة البصر مما يجب لله تعالى فيه من الحق، كالغض عن المحرمات، والنظر إلى ما يؤذي النظر إليه من القربة عند الله، كالنظر إلى المصحف وإلى وجه [ ص: 77 ] من يسر بنظرك إليه من أهل وولد، كالنظر إلى الكعبة، وعلى هذا المثال تنظر بقية أصناف الأعضاء بتصريفها فيما ينبغي، وكفها عما لا ينبغي، واعلم أن هذه الأصناف قد أحاطت بمولدات الأركان، وهي المعدن والنبات والحيوان، وما ثم مولد رابع سوى هذه الثلاثة، ففرض الله الزكاة في أنواع مخصوصة من كل جنس المولدات لطهارة الجنس، فيطهر النوع بلا شك؛ وذلك لأن الأصل الذي ظهرت عنه كلها قدوس، فلما ظهرت الأشياء لأنفسها وحصلت فيها دعاوى الملاك لها طرأ عليها من نسبة الملك لغير منشئها ما زالها عن الطهارة الأصلية التي كانت لها في أنفسها؛ فأوجب الله فيها الزكاة ليكون فيها نصيب يرجع إلى الله بأمر الله لينبه إلى مالكها الأصلي فتكسب الطهارة بذلك التنبيه، وكذلك في الاعتبار، هذه الأعضاء هي طاهرة بحكم الأصل، فإنها على الفطرة الأولى ولا تزول عنها تلك الطهارة والعدالة؛ ولهذا تستشهد يوم القيامة، وتقبل شهادتها لزكاتها الأصلية عند الحاكم: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا فهذا كله إعلام من الله لنا أن كل جزء فينا شاهد عدل زكي مرضي، وذلك بشرى خير، فإن الأمر إذا كان بهذه المثابة فالمآل إلى خير، فإن الله أجل وأعظم وأعدل من أن يعذب مكرها مقهورا، فسعد عالم الحس بلا شك، والنفس المطلوبة بالوقوف عند الحدود المسئولة عنها مرتبطة بالحس، لا انفكاك لها عن هذه الأدوات الجسمية الطبيعية الزاكية العادلة الزكية، ولا عذاب للنفس إلا بوساطة تعذيب هذه الجسوم، وقد أخبر الشارع بمآلها إلى السعادة؛ ليكون المقهور غير مؤاخذ بما جبر عليه، والنفس غير مؤاخذة بالهم ما لم تعمل، ولا عمل لها إلا بهذه الأدوات المقهورة؛ فوقع العذاب بالمجموع إلى أجل مسمى، ثم تقضى عدالة الأدوات فيرتفع العذاب ثم يقضى حكم الشرع بالرفع عن النفس بما همت، فيرتفع العذاب المعنوي، فلا يبقى عذاب معنوي ولا حسي على أحد بفضل الله، إلا قدر زمان وقوع العمل في الدنيا، وبقدر ما قصر الزمان في الدار الدنيا بذلك العمل لوجود اللذة فيه، فإن أيام النعيم قصار يكون طول العذاب على النفس مع قصر الزمان المطابق لزمان العمل، فإن أنفاس الهموم طوال، فما أطول الليل على أصحاب الآلام، وما أقصره بعينه على أصحاب العوافي، فزمان الشدة طويل على صاحبه، وزمان الرخاء قصير، واعلم أن للزكاة نصابا وحولا أي: مقدار في العين والزمان، كذلك الاعتبار في زكاة الأعضاء لها مقدار في العين والزمان، فالنصاب بلوغ العين إلى النظرة الثانية، والإصغاء إلى السماع الثاني، والقدر الزماني يصحبه، والله أعلم .



(فصل اعتبار زكاة الإبل)

حكم الشارع على الإبل أنها شياطين، فأوجب فيها الزكاة لتطهر بذلك من هذه النسبة؛ إذ الزكاة مطهرة رب المال من صفة البخل، الشيطنة البعد، وسمي الشيطان لبعده من رحمة الله لما أبى واستكبر وكان من الكافرين؛ فالأفعال والأعمال إذا لم تنسب إلى الله فقد أبعدت عن الله، فوجبت الزكاة فيها، وهو ما لله فيها من الحق يرد من الله سبحانه، فإذا ردت إليه اكتسبت حلة الحسن، فقيل: أفعال الله كلها حسنة، فالزكاة واجبة على المعتزلي من حيث اعتقاده خلق أعمال العباد لهم، والأشعري تجب عليه الزكاة لإضافة كسبه في العمل إلى نفسه، وكان في كل خمس ذود شاة والخمس هو عين الزكاة من الورق، وهو ربع العشر، فصار حكم العدد الذي كان زكاة يزكى أيضا كمن يرى الزكاة في الأوقاص، فيخرج من كل أربعة دنانير درهم ومن أربعين درهما درهم، وكما أخرجت من الذهب في الأوقاص وليس الورق من صنف الذهب، وكذلك الشاة تخرج في زكاة خمس من الإبل، وليست من صنفها، كذلك نأخذ حق الله من الجارحة بالحرق بالنار، والقطع في السرقة والنفس المكلفة هي السارقة وليست من جنس الجارحة وتطهرت من حكم السرقة بقطع اليد، كما تطهر الخمس من الإبل بإخراج الشاة، وليست من جنس المزكى، وأما الاعتبار في زكاة الغنم، فقال تعالى في نفس الإنسان: قد أفلح من زكاها وقد أقام الله سبحانه الرأس من الغنم مقام الإنسان الكامل فهو قيمته؛ فانظر ما أكمل مرتبته حيث [ ص: 78 ] كان الواحد منها قيمة نبي، قال تعالى: وفديناه بذبح عظيم فناب منابه وقام مقامه، فوجبت الزكاة في الغنم، كما أفلح من زكى نفسه، وأما الاعتبار في زكاة البقر، فقال تعالى: قد أفلح من زكاها يعني النفس، ولما كانت المناسبة بين البقر والإنسان قوية لذلك حيي به الميت لما ضرب ببعضها، فأتى بالضرب؛ لأنها صفة قهرية لما صعب على الإنسان أن يكون سبب حياته بقرة؛ لأنها ذبحت فزالت حياتها فحيي بحياتها هذا الإنسان، وكان قد أبى لما عرضت عليه، فضرب بها فحيي عن صفة قهرية للأنفة التي جبل الله الإنسان عليها، وفعل الله ذلك ليعرفه أن الاشتراك بينه وبين الحيوان في الحيوانية محقق في الحد والحقيقة، فوجبت الزكاة في البقر كما ظهرت في النفس، ثم مناسبة البرزخية بين البقر والإنسان، فإنها وسط بين الإبل والغنم في الحيوان المزكى، ثم البقرة التي ظهر الإحياء بموتها، والضرب بها برزخية بقوله: عوان بين ذلك فتحقق ما أومأنا إليه في هذا الاعتبار .



(فصل)

اختلفوا في نوع من الحيوان، وهو الخيل، فالجمهور على أنه لا زكاة في الخيل، وقالت طائفة: إذا كانت سائمة وقصد بها النسب ففيها الزكاة، أعني إذا كانت ذكرانا وإناثا .

الاعتبار: هذا النوع من الحيوان زينة الله التي أخرج لعباده، ثم إنه من الحيوان الذي له الكر والفر، فهو أنفع حيوان يجاهد عليه في سبيل الله، فالأغلب فيه أنه لله، وما كان لله فما فيه حق لله؛ لأنه كله لله، النفس مركبها البدن، فإذا كان البدن في مزاجه وتركيب طبائعه يساعد النفس الطاهرة المؤمنة على ما تريد منه من الإقبال على الله تعالى، والفرار عن مخالفة الله كان لله، وما كان لله فلا حق فيه لله؛ لأنه كله لله، وإذا كان البدن يساعد وقتا ولا يساعد وقتا آخر لخلل فيه كان رد النفس بالقهر فيما لا تساعد فيه من طاعة الله زكاة فيه، كمن يريد الصلاة ويجد كسلا في أعضائه وتكسرا فيتثبط عنها مع كونه يشتهيها؛ فأداء الزكاة في ذلك الوقت أن يقيمها ولا يتركها مع كسلها، ومن ذلك الوقت سائمة من الساعة اعتبار، متخذة للنسل؛ لأن فيها ذكرانا وإناثا أي: خواطر عقل وخواطر نفس .



(تنبيه)

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: في كل خمس ذود من الإبل شاة. اعتبار آخر هو: هل يطهر الشيء بنفسه أو يطهر بغيره؟ فالأصل الصحيح أن الشيء لا يطهر إلا بنفسه، هذا هو الحق الذي يرجع إليه، وإن وقع الخلاف في الصورة فالمراعاة إنما هي في الأصل لما فرض الله الطهارة للعبادة بالماء والتراب، وهما مخالفان في الصورة غير مخالف في الأصل؛ فالأصل أنه من الماء خلق كل شيء حي، وقال في آدم: خلقه من تراب فما أوقع الطهارة في الظاهر إلا بنفس ما خلق منه كالحيوانية الجامعة للشاء والإبل والمالية للشاء والإبل وغير ذلك، فلولا هذا الأمر الجامع ما صحت الطهرة؛ فلهذا صحت الزكاة في بعض الأموال بغير الصنف الذي تجب فيه الزكاة؛ ففي الخبر: من عرف نفسه عرف ربه؛ فبمعرفته بنفسه صحت طهارته لمعرفته لربه، فالحق هو القدوس المطلق، وتقديس العبد معرفته بنفسه، فما طهر إلا بنفسه فتحقق هذا .



(فصل)

اعتبار من اشترط السوائم في الأصناف الثلاثة، ومن لم يشترط السائمة، الأفعال المباحة كلها وغير السائمة ما عدا المباح، فمن قال: الزكاة في السائمة قال لمن المباح، لما كانت الغفلة تصحبه أوجبوا فيه الزكاة، وهو أن لا يحضر الإنسان عند فعله المباح أنه مباح بإباحة الشارع له، ولو لم يبح فعله ما فعله، فهذا القدر من النظر هو زكاته، وأما غير السائمة فلا زكاة فيها؛ لأنها كلها أفعال مقيدة بالوجوب أو الندب أو الحظر أو الكراهة، فكلها لا تخيير فيها على الإطلاق للعبد فيها، فكلها لله تعالى، وما كان لله لا زكاة فيه؛ فإن الزكاة حق الله، وهذا كله لله، وألحق بعض أصحابنا المندوب والمكروه بالمباح، فجعل فيه الزكاة كالمباح سواء، وقالت طائفة أخرى: ما هو مثل المباح، فإن فيه ما يشبه الواجب والمحظور، وفيه ما يشبه المباح، فإن كان وقته تغليب أحد النظرين فيهما كان حكمه بحكم الوقت فيهما، وهو أن يحضر له في وقت إلحاقهما بالمباح وفي وقت إلحاقهما بالواجب والمحظور، والصورة في النسبة أن السائمة مملوكة وغير السائمة مملوكة [ ص: 79 ] فالجامع بينهما الملك، ولكن ملك غير السائمة أثبت لشغل المالك بها وتعاهده إياها، والسائمة ليست كذلك وإن كانت ملكا، وكذلك المندوب والمكروه، وهو مخير في الفعل والترك فأشبه المباح، وهو مأجور في الفعل فيهما والترك، فأشبه الواجب والمحظور، وهذا أشد مذاهب القوم عندنا، ومن قال: الزكاة في الكل، قال: إنما وجب ذلك في الكل سائمة وغير سائمة؛ لأن الأفعال الواقعة من العبد منسوبة للعبد نسبة إلهية وإن اقتضى الدليل خلافها، فوجبت الزكاة في جميع الأفعال لما دخلها من النسبة إلى المخلوق، وصورة الزكاة فيها استحضارك أن جميع ما يقع منك بقضاء وقدر عن مشاهدة حضور تام في كل فعل عند الشروع في الفعل، وذلك القدر هو زمن الزكاة بمنزلة انقضاء الحول، وقدر ذلك الفعل الذي يمكن الرد فيه إلى الله ذلك هو النصاب لذلك الفعل، وهذا مذهب العلماء بالله بأن الأفعال كلها لله بوجه، وتضاف إلى العبد بوجه، فلا يحجبهم وجه عن وجه، كما لا يشغله شأن عن شأن .



(فصل)

اعتبار زكاة العوامل، عمل الأرواح عوامله الهياكل، ولا زكاة على العامل في بدنه، وإنما الزكاة على الروح، وهو قصده وتقواه؛ قال الله تعالى: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم .



(فصل، اعتبار ما لا يؤخذ في صدقة الغنم)

الهرمة؛ مثل قوله: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى وقال صلى الله عليه وسلم: وليصل أحدكم نشاطه، ولا ذات عوار، وهو العمل بغير نية أو نية بغير عمل مع التمكن من العمل، وأما مشيئة المصدق في تيس الغنم؛ فاعتباره أن لا يجحف على صاحب المال، وهو الحضور في العمل من أوله إلى آخره، فربما يقول: لا يقبل العمل إلا هكذا، ويكفي في العمل النية في أول الشروع، ولا يكلف المكلف أكثر منه، فإن استحضر المكلف النية في جميع العمل فله ذلك، وهو مشكور عليه؛ حيث أحسن في عمله وأتى بالأنفس في ذلك، والجامع لهذا الباب اتقاء ما يشين العبادات، مثل الالتفات في الصلاة والعبث فيها، والتحدث في الصلاة في النفس بالمحرمات والمكروهات وتخيلها، أمثال هذا مما هو مثل الجعرور ولون الحبيق في زكاة التمر، وغير ذلك من العيوب .



(فصل، اعتبار زكاة الخليطين)

قال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى فالمعاونة في الشيء اشتراك فيه، وهذا معنى الخليطين؛ فالخوض: كل عمل أو علم يؤدي إلى حياة القلوب فيستعينا عليه بحسب ما يحتاج كل واحد منهما من صاحبه فيه، وهو في الإنسان القلب والجارحة خليطان؛ فالجارحة تعين القلب بالعمل، والقلب يعين الجارحة بالإخلاص لها، فهما خليطان فيما شرعا فيه من عمل أو طلب علم، وأما الراعي فهو المعني الحافظ لذلك العمل، وهو الحضور والاستحضار مثل الصلاة لا يمكن أن يصرف وجهه إلى غير القبلة، ولا يمكن أن يقصد بتلك العبادة غير ربه، وهذا هو الحفظ لتلك العبادة، والقلب والحس خليطان فيه، وأما الفعل فهو السبب الموجب لما ينتجه ذلك العلم أو العمل عند الله من القبول والثواب، فهما شريكان في الأجر، فتأخذ النفس ما يليق بها مما يعطيه العلم ويأخذ الجسم ما يليق به من جنس الصورة في الدار الآخرة، والمعنى المنتج لهذا هو الفعل، وهما فيه خليطان .



(فصل)

اعتبار إخراج الزكاة من الجنس في الظاهر زكاة، وهو ما قيد الشرع به الظاهر من الأعمال الواجبة التي لها شبه في المندوب؛ ففريضة الصلاة زكاة النوافل من الصلاة، فإنها الواجبة أو صلاة ينذرها الإنسان على نفسه أو أي عبادة كانت، وكذلك في الباطن زكاة من جنسه، وهو أن له أن يكون الباعث على العبادة خوف أو طمع، والزكاة في الباعث الباطن من ذلك أن يكون باعثا لما تستحقه الربوبية من امتثال أمرها ونهيها، لا رغبة ولا رهبة إلا وفاء حق .



(فصل)

وأما ما اختلفوا فيه من النبات بعد اتفاقهم على الأصناف الثلاثة؛ فمنهم من لم ير الزكاة إلا في تلك الأصناف الثلاثة، ومنهم من قال: الزكاة في جميع المدخر المقتات، ومنهم من قال: الزكاة في كل ما تخرجه [ ص: 80 ] الأرض ما عدا الحشيش والحطب والقصب.

الاعتبار في كونه نباتا، فهذا النوع مختص بالقلب، فإنه محل نبات الخواطر، وفيه يظهر حكمها على الجوارح، فكل خاطر نبت في القلب وظهر عينه على ظاهر أرض بدنه ففيه الزكاة؛ لشهادة كل ناظر فيه أنه فعل من ظهر عليه؛ فلابد أن يزكيه برده إلى الله؛ ذلك هو زكاته، وما لم يظهر فلا يخلو صاحبه لما نبت في قلبه ما نبت، هل كان؟ فمن رأى الله فيه أو قبله، فإن كان من هذا الصنف فلا زكاة عليه فيه؛ فإنه لله، ومن رأى الله بعده من أجله، فتلك عين الزكاة قد أداها، وإن لم ير الله بوجه وجبت عليه الزكاة عند العلماء بالله، ولم تجب عليه عند الفقهاء من أهل الطريق؛ لأن الشارع لم يعتبر الهم حتى يقع الفعل، فكان نباتا سقطت فيه الزكاة كما سقطت المؤاخذة عليه، فإن كان النبات من الخواطر التي فيها قوت للنفس وجبت الزكاة؛ لما فيها من حظ النفس، فإن كان حظ النفس تبعا فلا زكاة؛ فإن قوت هذا الذي هذه صفته هو الله الذي به يقوم كل شيء .

قيل لسهل بن عبد الله: ما القوت؟ قال: الله، قيل: سألتك عن قوت الأشباح؟ قال: الله، فلما ألحوا عليه قال: ما لكم ولها؟! دع الديار إلى مالكها وبانيها، إن شاء عمرها وإن شاء خربها .



(فصل)

وأما النصاب في الأعضاء فهو أن يتجاوز في كل عضو من الأول إلى الثاني، ولكن من الأول المعفو عنه لا من الأول المندوب، فإن الأول معفو عنه لا زكاة فيه؛ فإنه لله، والثاني لك، ففيه الزكاة، ولا بد، سواء كان في النظرة الأولى أو السماع الأول أو اللفظة الأولى أو البطشة الأولى أو الشعب الأول أو الخطر الأول، والجامع كل حركة لعضو لا قصد له فيه فلا زكاة عليه، فإذا كانت الثانية التالية إليها؛ فإنها لا تكون إلا نفسية عن قصد؛ فوجبت الزكاة أي: طهارتها، والزكاة فيها هي التوبة منها لا غير، فتلتحق بالحركة الأولى في الطهارة من أهل التوبة؛ فالتوبة زكاتها هذا حد النصاب فيما تجب فيه الزكاة من جميع ما تجب فيه، ولا حاجة لتعدادها في الحكم الظاهر المشروع في تلك الأصناف؛ لأن المقصود الاعتبار، وقد بان، والله أعلم .



(فصل)

في اعتبار توقيت ما سقي بالنضح وما لم يسق به أعمال المراد، وأعمال المريد مع نفسه لربه، فيجب عليه نصف العشر، وهو أن يزكي من فعله ما طهرت فيه نفسه، والمراد مع ربه لا مع نفسه، فيجب عليه العشر، وهو نفسه كله؛ فإنه لا نفس له لرفع التعب عنه، وكذلك اعتباره في العلم الموهوب والعلم المكتسب؛ فالعلم المكتسب لم يخلص لله منه إلا نصفه، والموهوب كله لله، والكل عبارة عن قدر الزكاة لا غير، وهو ما ينسب لله من ذلك العلم أو العمل، وما ينسب للعبد من حيث حضور العبد مع نفسه في ذلك العلم أو العمل .



(فصل)

في اعتبار المقدار كيلا ووزنا وعددا جعل الوسق في الحبوب وهي النبات، وهو ستون صاعا، فالخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع، وهو ما ينبته التخلق بالأسماء من الأخلاق الإلهية، وقد ورد أن لله ثلاثمائة خلق، من تخلق بواحد منها دخل الجنة، وكلها أخلاق يصرفها الإنسان مع المخلوقات على حد أمر الله، والزكاة منها هو الخلق الذي يصرفه مع الله، فإنه أولى بمن يتخلق معه، فإنه من المحال أن يبلغ الإنسان بأخلاقه مرضاة العالم، فإيثار جناب الله أولى، وهو أن يتخلق مع كل صنف بالخلق الإلهي الذي صرفه الله معه، فتكون موافقا للحق، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، فهذا من عدد الأعيان، ولا يقصد بالعين إلا العمل لا العلم، فإن مقدار العلم معنوي ومقدار العمل حسي، ولا فيما دون خمس أواق صدقة، والأوقية أربعون درهما، والأربعون في الأوقية نظير الأربعين صباحا، من أخلصها ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، فإذا ظهرت من العبد في خمسة أحوال كما هي في الزكاة خمسة أواق حال في ظاهره له أوقية، وهو إخلاص ظاهر وحال في باطنه مثله، وحال في حده مثله، وحال في مطلعه مثله، وحال في المجموع مثله؛ فهذه خمسة أحوال مضروبة في أربعين يكون الخارج مائتان، وهو حد النصاب، فيها خمسة دراهم من كل أربعين درهما درهم، وهو ما يتعلق بكل أربعين من التوحيد المناسب لذلك النوع، ومقادير المعاني [ ص: 81 ] والأرواح أقدار من قوله: وما قدروا الله حق قدره ومقادير المحسوسات من الأعمال أوزان، وبالأوزان عرفت الأقدار .



(فصل)

اعتبار آخر في نصاب المكيل والموزون المعقول؛ لما ورد في الخبر من تقسيمه في الناس بالقفيز والقفيزين، والأكثر والأقل؛ فألحقه الشارع بالمكيل، فإن كان معنى فهو صاحب الكشف الأتم الأعم الأجل، والحضرات ثلاثة: معنوية وحسية وحالية؛ وهي التي تنزل المعاني إلى صورة المحسوس، أعني تجليها فيها؛ إذ لا تعقلها إلا هكذا، ومن هذه الحضرة قسمها الشارع كيلا؛ لكونها تجلت له في صورة المكيل، أعني العقول لما أراد الله من ذلك، وأما الموزون بالأعمال، وهي أيضا معان عرضية تعرض للعامل فألحقها الله بالموزون، فقال: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ، وقال: فمن يعمل مثقال ذرة فأدخل العمل في الميزان فكان موزونا، ولكن في هذه الحضرة المثالية التي لا تدري المعاني إلا في صورة المحسوس، وقد عبر الشارع عليه الصلاة والسلام من صورة اللبن إلى العلم، ومن صورة القيد إلى الثبات في الدين؛ فهذا معرفة النصاب بما هو نصاب، لا بما هو نصاب في كذا، فإن ذلك يرد في نصاب ما تخرج منه الزكاة، ويندرج في هذا الباب معرفة واحدة وكميات كثيرة، فإن لنا في ذلك مذهبا من أجل أن قطعة الفضة أو الذهب قد تكون غير مشكوكة فتكون جسما واحدا، فإذا وزنت أعطى وزنها النصاب أو أزيد من ذلك، فمن كونها جسما واحدا هل لذلك الجسم كمية واحدة أو كميات كثيرة؟ أعني أزيد من واحد؛ فاعلم أن الأعداد تعطى في الشيء كثرة الكميات وقلتها، والعدد كمية، فإن كان العدد بسيطا غير مركب فليس له سوى كمية واحدة، وهو من الواحد إلى العشرة إلى عقد العشرات عقدا عقدا كالعشرين والثلاثين إلى المائة والمائتين إلى الألف إلى الألفين وانتهى الأمر، فإذا كان الموزون أو المكيل ينطلق عليه، وهو جسم واحد عند هذه الألقاب العددية؛ فإنه ذو كم واحد، فإن انطلق عليه غير هذه الألقاب من الأعداد مثل أحد عشر أو مثل مائة وعشرون أو مثل ثلاثمائة أو مثل ثلاثة آلاف أو ما تركب من العدد، فكمياته من العدد بحسب ما تركب، أو يكون الموزون ليس جسما واحدا كالدراهم والدنانير فله أيضا كميات كثيرة؛ فإن كان العدد مركبا والموزون مجموعا من آحاد، وكان العدد والموزون ذا كمية، فإن كان أحدهما مركبا أو مجموعا والآخر ليس بمجموع أو ليس بمركب، كان ما ليس بمركب ولا مجموع ذا كمية واحدة، وكان المركب والمجموع ذا كميات؛ فاعلم ذلك .

وتحدث الكميات في الأجسام بحدوث الانقسام؛ إذ الأجسام تقبل القسمة بلا شك، ولكن هل يرد الانفصال بالقسمة على اتصال أم لا؟ فإن ورد على اتصال كما يراه بعضهم، فالجسم الواحد ذو كميات، وإن لم يرد على اتصال كما يراه بعضهم فليس له سوى كمية واحدة، وهذا التفصيل الذي ذكرناه من كميات الموزون وكميات العدد على هذا ما رأينا أحدا تعرض له، وهو مما يحتاج إليه ولا بد، ومن عرف هذه المسألة عرف هل يصح إثبات الجوهر الفرد الذي هو الجزء الذي لا يقبل القسمة أم لا يصح؟ ثم لتعلم أن من حكمة الشرع جمع أصناف العدد فيما تجب فيه الزكاة، وهي الفردية، فجعلها في الحيوان، فكان في ثلاثة أصناف، والثلاثة أول الأفراد؛ وهي: الإبل والبقر والغنم، وجعل الشفعية في صنفين في المعدن، وهو الذهب والفضة، وفي الحبوب؛ وهو الحنطة والشعير، وجعل الأحدية في صنف واحد من الثمر، وهو التمر خاصة، هذا بالاتفاق بلا خلاف، وما عدا هذا مما يزكى فبخلاف غير مجمع عليه؛ فمنه خلاف شاذ ومنه غير شاذ .



(فصل)

اعتبار زكاة الورق في كل صنف كمال ينتهي إليه، والكمال في الصنف المعدني حازه الذهب كما سيأتي، والورق على النصف من درجة الكمال، والمدة الزمانية لحصول الكمال المعدني ستة وثلاثون ألف سنة، والورق ثمان عشرة ألف سنة، وهو نصف زمان الكمال، وجميع المعارف تطلب درجة الكمال لتحصلها، فتطرأ في الطريق عطل تحول بينها وبين البلوغ إلى الغاية، فالواصل منها إلى الغاية هو المسمى ذهبا، وما نزل [ ص: 82 ] عن هذه الدرجة لمرض غلب عليه حدث له اسم آخر من فضة ونحاس، وأسرب، وقزدير، وحديد، وزئبق، فيكون الذهب عن إيجاد أبويه بالنكاح، والتسوية في التناسب واستيلاء حرارة المعدن في الكل على السواء، ولم يعرض للأبوين من البرودة واليبوسة ما يؤثر في هذا الطالب درجة الكمال قبل تحكم سلطان حرارة المعدن، فإذا كان السالك بهذه المثابة بلغ الغاية فوجد عين الذهب، فإن دخل عليه في سلوكه من البرودة فوق ما يحتاج إليه أمرضه وحال بينه وبين مطلوبه، حدث له اسم الفضة فما نزلت عن الذهب إلا بدرجة واحدة، والكمال في الأربعة، وقد نقص هذا عن الكمال بدرجة واحدة من أربعة، والأربعة أول عدد كامل؛ ولهذا يتضمن العشرة فكان في الفضة ربع العشر لنقصان درجة واحدة عن الذهب بغلبة البرودة، والبرودة أصل فاعلي، والحرارة أصل فاعلي، واليبوسة والرطوبة فرعان منفعلان فتبعث الرطوبة البرودة لكونها منفصلة عنها؛ فلهذا تكونت الفضة على النصف من زمان تكوين الذهب، ولما كان المنفعل يدل على الفاعل ويطلبه بذاته؛ لهذا استغنينا بذكر المنفعل عن ذكر ما انفعل عنه لتضمنه إياه، فقال تعالى: ولا رطب ولا يابس ولم يذكر: ولا حار ولا بارد، وهذا من فصاحة القرآن وإعجازه، وحيث علم أن الذي أتى به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن ممن اشتغل بالعلوم الطبيعية فيعرف هذا القدر فعلم قطعا أن ذلك ليس من جهته، وأنه تنزيل من حكيم حميد، وأن القائل هذا عالم، وهو الله تعالى، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم كل شيء بتعليم الله وإعلامه، لا بفكره ونظره وبحثه، فلا يعرف مقدار النبوة إلا من أطلعه الله على مثل هذه الأمور؛ فانظر ما أحكم علم الشرع في فرض الزكاة في هذه الأصناف على هذا الحد المعلوم في صنف، صنف، صنف، لمن نظر واستبصر .



(فصل)

في نصاب الذهب، قالت طائفة: تجب الزكاة في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم، ومن قائل: ليس في الذهب شيء حتى يبلغ أربعين دينارا، ففيه دينار واحد، وهو ربع العشر، أعني عشرها، ومن قائل: ليس في الذهب زكاة حتى يبلغ صرفه مائتي درهم أو قيمتها، فإذا بلغ ففيه ربع عشره، وسواء بلغ عشرين دينارا أو أقل أو أكثر، هذا فيما كان من ذلك دون الأربعين حينئذ يكون الاعتبار في الذهب ما ذكرناه، فإذا بلغ الأربعين كان الاعتبار بها نفسها لا بالدراهم لا صرفا ولا قيمة .

الاعتبار في كل أربعين دينارا دينار، وهو ربع العشر، من ذلك قد ذكرنا أن الفضة لما حكم عليها وهي تطلب الكمال الذي ناله الذهب، طبع واحد، وهو البرودة من الأربع الطبائع، فأخذت من الذهب طبعا واحدا، أخرجته في محل الاعتدال؛ فلهذا أخذ من الأربعين التي هي نصاب الذهب دينار واحد، هو ربع العشر؛ لأنك إذا ضربت أربعة في عشرة كانت أربعين، فالأربعة عشر الأربعين والواحد ربع الأربعة فهو ربع عشرها، وهو الواحد الذي أخذته الفضة وصارت به فضة في طلبها درجة الكمال، فنقص من الذهب هذا القدر فكانت زكاته دينارا، وهذا الدينار قد اجتمع مع الخمسة دراهم في كونه ربع عشر ما أخذ منه، فإن العشرين عشر المائتين وربع العشرين خمسة، فكانت في المائتين خمسة دراهم، وهي ربع عشرها، فمن حمل الذهب على الفضة وقال: إن في عشرين دينارا كما في مائتي درهم، أو من قال بالصرف والقيمة بمائتي درهم؛ فأوجب الزكاة فيما هذا قيمته أو صرفه من الذهب، وهذا فيما دون الأربعين، فإنه ما ورد نهي فيما دون الأربعين من الذهب كما ورد في الورق؛ فإنه قال: ليس فيما دون خمس أواق صدقة، ولم يقل: ليس فيما دون الأربعين؛ ولهذا ساغ الخلاف في الذهب ولم يسغ في الورق، واجتمعا في ربع العشر بكل وجه، واعتبر العشر والربع منه لتضمن الأربعة العشرة، فضربت فيها ولم تضرب في غيرها؛ لأن الأربعة تتضمن عينها وما تحتها من العدد، فيكون من المجموع عشرة؛ ولهذا قيل في الأربعة: إنه أول عدد كامل، فإن في الأربعة عينها، وفيها الثلاثة فيكون سبعة، وفيها الاثنان فيكون تسعة، وفيها الواحد فيكون عشرة؛ فمن ضرب الأربعة في العشرة كان كمن ضرب الأربعة في نفسها مما تحوي عليه، فوجبت الزكاة لنظرها لنفسها في ذلك [ ص: 83 ] ولم تنظر إلى بارئها وموجدها، فأخذ الحق منها نظرها لنفسها، وسمي زكاة لها أي: طهارة من الدعوى، فبقيت لربها، فلم يتعين له فيها حق يتميز؛ لأنها كلها لله لا لذاتها .



(فصل في اعتبار زكاة الحلي)

الحلي ما يتخذ للزينة، والزينة مأمور بها؛ قال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وقال: قل من حرم زينة الله فأضافها إليه، والزكاة حق لله، وما كان مضافا إليه لا يكون فيه حق لله؛ لأنه كله لله؛ فلا زكاة في زينة الله، ومن اتخذه لزينة الحياة الدنيا وسلب عنه زينة الله أوجب فيه الزكاة، وهو أن يجعل لله نصيبا فيه يجيء به ما أضاف منه لنفسه ويزكو ويتقدس، كما شرع الله للإنسان أن يستعين بالله، ويطلب العون منه في أفعاله التي كلفه سبحانه أن يعملها، وهو العامل سبحانه لا هم؛ فكذلك ينبغي أن يجعل الزكاة في زينة الحياة الدنيا، وإن كانت زينة الله التي أخرج لعباده فأوجبوا الزكاة في تلك الزينة كما أوجبها في الحلي .



(فصل في الأوقاص)

وهو ما زاد على النصاب مما يزكى.
أجمع العلماء على عدم زكاة الأوقاص في الماشية، وعلى أنه لا أوقاص في الحبوب، واختلفوا في أوقاص النقدين وبتركها، فيها أقوال، فإن إلحاقهما بالحبوب أولى من الحاقهما بالماشية؛ فإن الحيوان مجاور للنبات، والنبات مجاور للمعدن، فإلحاقه بالحكم في المجاور أحق؛ فإن الجار أحق بصقبه .

الاعتبار: الكمال لا يقبل النقص، والزكاة نقص من المال؛ ولهذا لما كمل الحيوان بالإنسانية لم تكن فيه زكاة، فإن الأشياء ما خلقت إلا لطلب الكمال، فلا كامل إلا الإنسان، وأكمل المعادن الذهب؛ ولهذا لا يقبل النقص بالنار مثل ما يقبله سائر المعادن، (فإن قلت) : فالفضة قد نزلت من درجة الكمال فهي ناقصة فوجبت الزكاة في أوقاصها؛ قلنا: قد أشركها للحق في الزكاة إذا بلغت النصاب بالذهب ولم يفعل ذلك في سائر المعادن، فلولا أن بينهما مناسبة قوية لما وقع الاشتراك في الحكم، فلتكن في الأوقاص كذلك، (فإن قلت) : إن الزكاة نقص من المال، ومن بلغ الكمال لا ينقص، والذهب قد بلغ الكمال، والزكاة فيه إذا بلغ النصاب، وهو ذهب في النصاب وذهب في الأوقاص ما زال عنه حكم الكمال، قلت: كذلك أقول هكذا ينبغي لو جرينا على هذا الأصل، لكننا عارضنا أصل آخر إلهي، وهو التبدل والتحول في الصور عند التجلي الإلهي، واختلاف النسب والاعتبارات على الجناب الإلهي، والعين واحدة والنسب مختلفة، فهي العاملة من كذا والقاردة والخالقة من كذا؛ فالحق سبحانه ما فرض الزكاة في أعيان المزكى من كونها أعيانا بل من كونها على الخصوص أموالا في هذه الأعيان خاصة لا في كل ما ينطلق عليه اسم مال، فاعتبرنا لما جاء الحكم فيهما إذا بلغا النصاب المالية، وما اعتبرنا أعيانهما واعتبرنا في الأوقاص أعيانها لا المالية، فرفعنا الزكاة فيهما كما اعتبرنا في تحول التجليات الاعتقادات والمرتبة، وما اعتبرنا في الذات واعتبرنا في التنزيه الذات، وما اعتبرنا المرتبة ولا الاعتقادات؛ فلما كان أصل الوجود، وهو الحق يقبل الاعتبارات سرت تلك الحقيقة في بعض الموجودات؛ فاعتبرنا بها، وجودها مختلفة تارة لأمور عقلية وتارة لأمور شرعية، ألا ترى الرقيق وهو إنسان وله الكمال إذا اعتبرنا فيه المالية واعتبرنا أيضا في المشتري له التجارة قومنا عليه بالقيمة منزلة ما يزكى به من المال، فأفرضنا من قيمته الزكاة؟ ألا ترى كمالية الحق لا تقبل وصفا من نعوت المحدثات، فلما تجلت في حضرة التمثيل للأبصار المقيدة بالحس المشترك تبعت الأحكام هذا التجلي الخاص؛ فقال تعالى: جعت فلم تطعمني، وظمئت فلم تسقني، ومرضت فلم تعدني. ولما وقع النظر فيه من حيث رفع النسب، قال: ليس كمثله شيء وقال: إنه غني عن العالمين، فمن كان غنيا عن الدلالة عليه كان هو الدليل على نفسه لشدة وضوحه؛ فإنه لا شيء أشد من الشيء في الدلالة من الشيء على نفسه، فقد نبهتك على أن الأحكام تتبع الاعتبارات والنسب، وبعد أن وقع الحكم من الشارع في أمر ما بما حكم به عليه، فلابد لنا أن ننظر ما اعتبر فيه حتى حكم عليه بذلك الحكم، وبهذا يفضل العالم على الجاهل، فإذا تقرر هذا، فاعلم أن البلوغ للعقل هو كالنصاب في المال، فكما أن النصاب إذا وجد في المال [ ص: 84 ] وجبت الزكاة فيه، كذلك يجب التكليف على العاقل إذا بلغ ثم بعد أوان البلوغ يستحكم عقله بمرور الأزمان عليه، كما يزيد المال بالتجارة فتظهر الأوقاص، فمن لم يجد في استحكام عقله أن الله هو الفاعل مطلقا، وأن العبد لا أثر له في الفعل، وجبت عليه الزكاة في الأوقاص، والزكاة حق الله في المال، فيضيف إلى الله من أعماله ما ينبغي أن يضيف، وهنا رجلان منهم من يضيف إلى الله ما يضيفه على جهة الحقيقة ويضيف إلى نفسه من أعماله ما يضيفه على جهة الأدب، ومنهم من يضيف ذلك العمل كله للإنسان عقلا وشرعا كالمعتزلي، ويضيف إلى الله من ذلك خلق القدرة له في هذا العامل لا غير، وأما من لا يرى الأفعال في استحكام عقله إلا من الله لا أثر للعبد فيها لم ير الزكاة في الأوقاص؛ لأنه ما ثم ما يرد إلى الله، فإنه علم أن الكل لله، ومن هنا قول شيبان الراعي لما سئل عن الزكاة، فقال للسائل: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ إن كان على مذهبنا فالكل لله لا نملك شيئا، وأما على مذهبكم: ففي كل أربعين شاة من الغنم شاة. فاعتبر شيبان أمرا ما فأوجب الزكاة، واعتبر أمرا آخر فلم يوجب الزكاة، والمال هو المال بعينه .



(فصل في ضم الورق إلى الذهب)

فمن قائل: تضم الدراهم إلى الدنانير، فإذا كان من مجموعها النصاب وجبت الزكاة، ومن قائل: لا تضم فضة إلى ذهب ولا ذهب إلى فضة. وبه أقول .

الاعتبار: قال عليه السلام: إن لعينك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا؛ فكل ونم. وإن كان الإنسان هو الجامع لعينه ونفسه الحيوانية، ولكن جعل الله لكل واحد منهما حقا يخصه؛ فحق العين هنا النوم، وحق النفس النباتية التغذي وهو الأكل؛ فلا يضم شيء إلى شيء، فإن النوم ما يقوم مقام الأكل ولا الأكل يقوم مقام النوم، فلا يضم الشيء إلى الشيء، ومن يرى ضم الشيء إلى الشيء يرى ضم النوم إلى الأكل؛ فإن الأكل سبب في حصول النوم؛ لما يتولد منه من الأبخرة المرطبة التي يكون بها النوم، فتنال العين حقها والنفس حقها، فلا بأس بضم الذهب إلى الفضة؛ لحصول الحق من ذلك المجموع .



(فصل في الشريكين)

فمن قائل: إن الشريكين لا زكاة في مالهما حتى يكون لكل واحد منهما نصاب، وبه أقول، ومن قائل: إن المال المشترك حكمه حكم مال رجل واحد .

الاعتبار: العمل من الإنسان إذا وقع فيه الاشتراك، فليس فيه حق لله، فلا زكاة فيه، ففي الخبر: من قال: هذا لله وبوجوهكم فهو لوجوهكم، ليس لله منه شيء. فالنصاب بالاشتراك غير معتبر؛ فإن الشريكين في حكم الانفصال، وإن كانا متصلين، فإن الاتصال هو الدليل على وجود الانفصال؛ إذ لولا الفصل لم يكن الاتصال، وإذا كان الحكم للانفصال ولم يبلغ أحدهما ما عنده النصاب فيما له لم تجب عليه الزكاة، فإن الزكاة وإن كانت تطلب المال فما تطلبه إلا من المطلق بإخراجه، ألا ترى المال في بيت المال ما فيه زكاة؛ لاشتراك الخلق فيه مع وجود النصاب فيه، وحلول الحول؛ إذ أمسكه الإمام ولم يفرقه لمصلحة رآها في ذلك، فلما اعتبر الخلق المشتركون فيه لم يبلغ حصة واحد منهم النصاب ولم يتعين أيضا رب المال، فإذا عينه الإمام ودفع له ما يبلغ النصاب فقد خرج من بيت المال، وتعين مالكه، فزال ذلك الحكم، وإذا مضى عليه الحول أدى زكاته .



(فصل اعتبار الحول في الزكاة)

الحول في وجوبها كمال الزمان، فأشبه كمال النصاب، فكما وجبت بكمال النصاب وجبت بكمال الزمان، ومعنى كمال الزمان تعميمه للفصول الأربعة فيه؛ ولهذا ينتظر بالعنين الحول الكامل حتى تمر عليه الفصول الأربعة فلا تغير في حاله شيئا، أي: لا حكم له في عنته لعدم استعداده لتأثيرها، وكمال الإنسان إنما هو في عقله، فإذا كمل في عقله فقد كمل حوله فوجب عليه إخراج الزكاة، وهي أن يعلم ما لله عليه من الحقوق فيجتهد في أداء ذلك، ووقت الحبوب والتمر يوم حصاده وجذه من غير اشتراط الحول على الأصل، وهو ما للخريف والشتاء والربيع والصيف فيه من الأثر، فكأنه ما خرج عن حكم الحول بهذا الاعتبار، فمن العبادات ما هي مرتبطة بالحول كالحج والصيام، وما ذكر من صنف ما من أصناف المال المزكى، ومن العبادة الواجبة ما لا يرتبط بالحول كالصلاة والعمرة ونوافل الخيرات [ ص: 85 ] ما عدا الحج؛ فإن واجبه وناقلته سواء في الحول .



(فصل في زكاة المعدن) فمنهم من راعى فيه الحول مع النصاب تشبيها بالنقدين، ومنهم من راعى فيه النصاب دون الحول تشبيها بما تخرجه الأرض مما تجب فيه الزكاة .

الاعتبار: المعدن للطبيعة التي تتكون منها الأجسام، ونفوس الأجسام الجزئية والطبيعية أربعة حقائق بتأليفها ظهر عالم الأجسام، وفي العلم الإلهي إن العالم ظهر عن الله تعالى من كونه حيا عالما مريدا قادرا لا غير، وكل اسم له حكم في العالم فداخل تحت حيطة هذه الأربعة الأسماء الأمهات، فمن راعى النصاب دون الحول اعتبر هذا؛ فإنه فوق الزمان، فإذا تكون عن الإنسان بما يتكون عن الطبيعة فقد بلغ النصاب فوجبت الزكاة، وهي إلحاق ذلك بالأربع الصفات الثابتة في العلم الإلهي الذي لا يصحح التكوين إلا بها، والطبيعة إله لا لله، ومن اعتبر الحول مع النصاب فإنه إذا تكون عن الإنسان ما يتكون عن العناصر لا عن الطبيعة، والعناصر لا يتكون عنها شيء إلا بمرور الأزمان عليها، وهي حركات الأفلاك التي فوقها، فزكاتها مقيدة بالزمان، وهي إعطاء حق الله من ذلك التكوين بإضافته إلى الوجه الخاص الإلهي الذي له في كل ممكن من غير نظر إلى شبيه، وهذا هو عالم الخلق والأمر، والأول هو عالم الأمر خاصة؛ فاعلم ذلك .



(فصل اعتبار زكاة الركاز) ما هو مركوز في طبيعة الإنسان هو الركاز، وهو حب الرياسة وجلب المنافع ودفع المضار، والخمس فيه إذا وجد الرياسة في قلبه فليقصد بها إعلاء كلمة الله، وزكاتها أن لا يقصد بها إلا إهانة الكفار وعدم المبالاة بهم، وكذلك جلب المنافع ودفع المضار، فزكاة جلب المنافع أن تكون المنفعة تعينه على القيام بطاعة الله مثل نوم أو أكل أو شرب أو مال، وكذلك دفع المضار لا يدفعها إلا من حيث إنها تضر بدينه، فذلك خمس زكاتها، والله أعلم .



(فصل في حول ربح المال) فطائفة رأت أن حوله يعتبر من يوم استفيد، سواء كان الأصل نصابا أو لم يكن، وبه أقول. وطائفة قالت: حول الربح هو حول الأصل، أي: إذا كمل الأصل حولا زكي الربح معه، سواء كان الأصل نصابا أو أقل من نصاب، إذا بلغ الأصل مع ربحه نصابا، وانفرد بهذا مالك وأصحابه، وفرقت طائفة بين أن يكون رأس المال الحائل عليه الحول نصابا أو لا يكون، فقالوا: إن كان نصابا زكى ربحه مع رأس ماله، وإن لم يكن نصابا لم يزك .

الاعتبار: الأعمال هي المال وربحها ما يكون عنها من الصور، كالمصلي أو الذاكر يخلق له من ذكره وصلاته ملكا يستغفر له إلى يوم القيامة؛ فالصور التي تلبس الأعمال هي إرباحها كمانع الزكاة يأتيه ماله الذي هو قدر الزكاة شجاعا أقرع يطوق به، ويقال: هذا كنزك، والأعمال على قسمين: عمل روحاني وهو عمل القلوب، وعمل طبيعي وهو عمل الأجسام. وهي الأعمال المحسوسة، فما كان من عمل محسوس اعتبر فيه الحول، وما كان من عمل معنوي لم يعتبر فيه الحول؛ لأنه صار حينئذ من حكم الزمان، ولا بد من اعتبار النصاب في المعنى والحس، وقد تقدم ذلك، وصورة الزكاة في ذلك الربح، هو ما يعود منه على العامل من الخير من كونه موصوفا بصفات الدين بإعطائهم الزكاة من فقير ومسكين وغير ذلك .



(فصل في اعتبار زكاة الفطر) أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل اثنين صغير أو كبير، اعتباره متعلم أو عالم، وحر أو عبد، اعتباره من تحرز عن رق الأكوان فكان وقته شهوده، كونه حرا عنها أو عبدا من كان وقته شهوده عبودية لربه من غير نظر إلى الأكوان، وذكر أو أنثى اعتباره عقل أو نفس إلهي أو طبيعي، وغني أو فقير اعتباره غني بالله أو فقير إلى الله، وقوله: صاع من تمر، الصاع أربعة أمداد، ونشأته من أربعة أركان، فتكون زكاته عن إقامة أركانه أو نشأته على الكمال من روحه وعقله وجسده، ومرتبته شهوده فيها الأربع نسب التي يصف بها ربه في إيجاد عينه وأصول كونه من حياة وعلم وإرادة وقدرة، لكل صفة مد ليكون الجملة صاعا؛ إذ لهذه النسب صح أن يكون له ربا والآخر مربوبا .



[ ص: 86 ] (فصل في اعتبار إخراجها عن كل من يمونه) الإنسان، الشيخ يقصد بالتلميذ في التربية ما لا يبلغه علم التلميذ حتى يحصل له بذلك زكاة تعليمه، فإن فضل ذلك المقري على التلميذ يعود، فكان التلميذ أعطاه، وينجر في هذا الفصل زكاة الولي من مال اليتيم. وإذ قد فرغنا من ذكر الاعتبارات المتعلقة بمسائل الفصل، فلنشرع في شرح كلام المصنف:




الخدمات العلمية