الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فاعلم أنه كذلك ولكن فيما يأذن المعلم في السؤال عنه فإن السؤال عما لم تبلغ مرتبتك إلى فهمه مذموم ولذلك منع الخضر موسى عليه السلام من السؤال أي : دع السؤال قبل أوانه فالمعلم أعلم بما أنت أهل له وبأوان الكشف .

وما لم يدخل أوان الكشف في كل درجة من مراقي الدرجات لا يدخل أوان السؤال عنه .

وقد قال علي رضي الله عنه أن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال ولا تعنته في الجواب ولا تلح عليه إذا كسل ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ولا تفشي له سرا ولا تغتابن أحدا عنده ولا تطلبن عثرته وإن زل قبلت معذرته وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله تعالى ولا تجلس أمامه وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته .

التالي السابق


(فاعلم) أيها السالك (أنه كذلك) أي: ما ذكرته صحيح وأن السؤال مطلوب لما ورد: شفاء العي السؤال (ولكن) ليس في كل حال بل (فيما يأذن) به (المعلم في السؤال عنه) ويرى شفاء جهله به (فإن السؤال إلى ما لا تبلغ) عداه بإلى بتضمن السؤال معنى الاحتياج أي: عما لا تصل (رتبتك) ومقامك (إلى فهمه) وإدراكه (مذموم) كالعويصات والغوامض التي لا يدركها إلا العارفون الكاملون وليس للمبتدئ الخوض في مسالكها (ولذلك) أي: لهذا السر (منع الخضر موسى) عليهما السلام (عن السؤال) أي: عن مفاتحته فإن إفشاء سر الربوبية صعب (أي: دع السؤال قبل أوانه) فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه لذلك قيل لو صبر موسى عليه السلام لأبصر أعجب العجائب كما ورد (فالمعلم أعلم بما أنت أهله) لتلقيه (وبأوان الكشف) عن مضاربه (وما لم يدخل أوان الكشف) عن الأسرار (في كل درجة من مراقي الدرجات) في الحضرات الإلهية (لا يدخل أوان السؤال) فلا يؤذن للمعلم بالكشف عن تلك الأحوال ونص الذريعة: وقول الله تعالى: فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا نهى عن المراجعة وليس ذلك نهيا عن الذي حث تعالى عليه بقوله: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وذلك النهي إنما هو نهي عن نوع من العلم الذي لم يبلغ منزلته بعد، والحث إنما هو عن سؤال تفاصيل ما خفي عليه من النوع الذي هو بصدد تعلمه وحق من هو بصدد تعلم علم من العلوم أن لا يصغي إلى الاختلافات المشككة ما لم يتهذب في قوانين ما هو بصدده لئلا تتولد له شبهة تصرفه عن التوجه فيه فيؤدي إلى الارتداد. اهـ .

كيف (وقد قال علي) ابن أبي طالب ( رضي الله عنه) وكرم وجهه فيما روي عنه فيما يجب على المتعلم لمعلمه (أن من حق العالم) الكامل المرشد إلى الله بأنوار علومه (أن لا تكثر عليه في السؤال) لأن كثرة السؤال يسقط حرمته عنده بل يكون سببا لغرور النفس ولا سيما إذا كان على الملأ (ولا تعنته في الجواب) أي: لا تشدد عليه فيه وتلزمه بما يصعب عليه هذا معنى التعنت في الأصل، كما قاله ابن الأنباري (ولا تلح عليه) من الإلحاح (إذا كسل) وفتر عن أداء الجواب لعذر ما أو هو بالجيم من اللجاج والمعنى صحيح (ولا تأخذ بثوبه) أي: طرف ردائه وما أشبه ذلك (إذا نهض) إلى القيام فإنه يؤدي إلى التضجر والتبرم (ولا تفش له سرا) عمن لا يحبه ولذلك قال أبو بكر لعمر -رضي الله عنهما- حين سأله أن يتزوج ابنته حفصة حين تأيمت من خنيس بن حذافة السهمي [ ص: 318 ] فصمت ولم يجب، وفي آخره لم أكن لأفشي سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: لأنه سمعه يذكرها، وقد أخرجه البخاري في النكاح، وفي غزوة بدر، وأخرج أبو نعيم في الحلية من رواية الشعبي عن ابن عباس قال: قال لي أبي: أي بني، أرى أمير المؤمنين يقربك ويدعوك ويستشيرك مع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاحفظ عني ثلاث خصال: اتق لا يجربن عليك كذبة ولا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، قال الشعبي: فقلت: كل واحدة خير من ألف فقال: كل واحدة خير من عشرة آلاف (ولا تغتابن عنده) أي: في مجلسه سواء كان الخطاب له أو لغيره، ممن في مجلسه (أحدا) من المسلمين لا تصريحا ولا تعريضا (ولا تطلبن عثرته) أي: سقوطه أي: لا تكون رقيبا تعد عثراته في سائر أحواله (وإن زل) عن إصابة الحق (قبلت معذرته) وحملته على العادة البشرية (وعليك أن توقره) وتبجله (وتعظمه لله تعالى) لا لعلة أخرى (ما دام يحفظ أمر الله تعالى) متأدبا بآداب الشريعة (ولا تجلس) في حضرته (أمامه) إلا عند التلقي، ولا فوقه إلا لعذر (وإن كانت له حاجة) عرضت من المهمات الدينية أو الدنيوية (سبقت القوم إلى خدمته) وقضاء حاجته .

فهذه اثنا عشر جملة تضمنت الآداب وكشفت عن وجه الحق النقاب، والمقصود من إيراد هذا الكلام هو الجملة الأولى المشتملة على النهي عن كثرة السؤال عليه ومفهومها أن كثرة السؤال ليس بممنوع، وإنما الممنوع منه الكثرة الموجبة لملل المعلم، ولحدوث الغرور في نفس المتعلم، والمفهوم من سياق المصنف عدم المفاتحة بالسؤال عليه مطلقا، فيما لم يأن أوانه، ولعله فهم من قول سيدنا علي في النهي عن كثرة السؤال في مثل هذا وإضرابه فتأمل .

وأما بقية الجمل فإنها دلت كذلك على جملة من الآداب ساقها بتمامها لما فيها من الحكم والنصائح وقد اندرج بيانها في أثناء هذه الوظائف التسعة، وقد اقتصر صاحب الذريعة على هذه الوظائف الثلاثة، وزاد المصنف عليه ما سيأتي ذكره .




الخدمات العلمية