الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومهما كان شاكا ليلة الشك لم ينفعه جزمه النية باللسان فإن النية محلها القلب .

ولا يتصور فيه جزم القصد مع الشك كما لو قال في وسط رمضان : أصوم غدا إن كان من رمضان فإن ذلك لا يضره لأنه ترديد لفظ ومحل النية لا يتصور فيه تردد بل هو قاطع بأنه من رمضان

التالي السابق


ثم قال المصنف رحمه الله تعالى : (ومهما كان شاكا ليلة الشك) وهي ليلة الثلاثين من شعبان (لم ينفعه جزمه النية باللسان فإن النية محلها القلب) ولا يشترط النطق في الصوم بلا خلاف (ولا يتصور فيها جزم القصد مع الشك) والترديد (كما لو قال في وسط رمضان : أصوم غدا إن كان من رمضان فإن ذلك لا يضره لأنه ترديد لفظ) لا اعتبار به (ومحل النية لا يتصور فيه التردد بل هو قاطع أنه من رمضان) ولا يتأتى الجزم بالصوم إلا إذا قطع في اعتقاده كونه من رمضان وقد علم مما تقدم أن مذهب الشافعي -رضي الله عنه- كراهة صوم يوم الشك إن لم يوافق صوما له بالشروط المذكورة ومذهب أصحابنا إباحته ومذهب أحمد وجوب صومه بنية رمضان في أصح الروايتين عنه ذكره ابن الجوزي في التحقيق وهذه المسألة عند أصحابنا على وجوه :

أحدها : أن ينوي صوم رمضان ومكروه ولو ظهر أنه من رمضان صح عنه لأنه شهد الشهر وصامه وإن أفطر لا قضاء عليه لأنه مظنون وروي عن محمد لا يجزئه عن رمضان .

والثاني : أن ينوي عن واجب آخر وهو مكروه لمكان النهي ولو ظهر أنه من رمضان يجزيه عن رمضان لما مر وإن ظهر أنه من شعبان يكون تطوعا .

والثالث : أن ينوي التطوع وهو غير مكروه .

والرابع : أن يردد في أصل النية بأن ينوي أن يصوم غدا إن كان من رمضان ولا يصوم إن كان من شعبان وفي هذا لا يصير صائما لأنه لم يقع عن عزيمته .

والخامس : أن يردد في وصف النية بأن ينوي إن كان هذا من رمضان يصوم وإن كان من شعبان ففي واجب آخر وهو مكروه لتردده بين أمرين مكروهين ولو ظهر أنه من رمضان أجزأ عنه لما مر وإن ظهر أنه شعبان لم يجزه عن واجب آخر لمكان النهي والمختار في يوم الشك أن يصوم المفتي بنفسه أخذا بالاحتياط ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار حسما لمادة اعتقاد الزيادة ولئلا يتهم بالعصيان فإنه أفتاهم بالإفطار بعد التلوم لحديث العصيان وهو مشهور بين العوام فإذا خالف إلى الصوم اتهموه بالمعصية وقصة أبي يوسف صريحة في أن من صامه من الخاصة لا يظهره للعامة ، وهي ما حكاه أسد بن عمرو : أتيت باب الرشيد فأقبل أبو يوسف القاضي وعليه عمامة سوداء ومدرعة سوداء وخف أسود وراكب على فرس أسود وما عليه شيء من البياض إلا لحيته البيضاء وهو يوم شك فأفتى الناس بالفطر فقلت له : أمفطر أنت ؟ فقال : ادن إلي فدنوت منه فقال في أذني : أنا صائم وقولنا المفتي ليس بقيد بل كل من كان من الخاصة ، وهو من يتمكن من ضبط نفسه عن الإضجاع في النية وملاحظة كونه من الفرض إن كان غد من رمضان والله أعلم .



(تنبيه)

[ ص: 207 ] تقدم أن من نوى يوم الشك صوم رمضان فظهر أنه رمضان فعند محمد لا يجزئه عنه هذا على أصله الذي ذهب إليه أنه إذا كبر ينوي الظهر والعصر فإنه لا يصير شارعا في الصلاة أصلا وعند أبي يوسف يصير شارعا في الظهر وعلى هذا الأصل بنى الأصحاب مسألة صوم الشك لكن المسطور في غير موضع لو نوى القضاء والتطوع كان عن القضاء عند أبي يوسف لأنه أقوى وعند محمد عن التطوع لأن النيتين تدافعتا فبقي مطلق النية فيقع عن التطوع ولأبي يوسف ما قلنا ولأن نية التطوع للتطوع غير محتاج إليها فألغيت وبقيت نية القضاء فيقع عن القضاء وهذا يقتضي أن يقع عن رمضان عند محمد لأن التدافع لما أوجب بقاء مطلق النية حتى وقع عن التطوع وجب أن يقع عن رمضان لتأديه بمطلق النية ونظيره من الفروع المنقولة أيضا لو نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار كان عن القضاء استحسانا وهو قول أبي يوسف في القياس وهو على قول محمد يكون تطوعا لتدافع النيتين فصار كأنه صام مطلقا وجه الاستحسان أن القضاء أقوى لأنه حق الله تعالى وكفارة الظهار فيه حق له فيترجح القضاء ولو نذر صوما بعينه فنوى النذر وكفارة اليمين يقع عن النذر عند محمد وفي هذه كلها ما ذكرنا من عدم بطلان مطلق النية عنده وصحة النذر لأنه نقل في حد ذاته وهذا يقتضي أنه فرق بين الصوم والصلاة فإنه لو بقي أصل النية في نية الظهر والعصر لكان شارعا في صلاة نفل وهو يمنعه على ما عرف في كتاب الصلاة من أنه إذا بطل وصف الفرضية لا تبقى أصل الصلاة عند محمد خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف وهو مطالب بالفرق أو يجعل ما ذكرنا عنه في الصوم رواية توافق قولهما في الصلاة والله أعلم .




الخدمات العلمية