الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل .

والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أنس بتعظيم الله عز وجل .

فأما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد ، وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط ، وفيه عزل للعقل عن تصرفه ، وصرف النفس والطبع عن محل أنسه فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما فيكون ذلك الميل معينا للأمر وباعثا معه على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحج على الخصوص : لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها .

وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم وأن يكون زمامها بيد الشرع فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد ، وعلى مقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدي إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق مقتضى الاسترقاق .

وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات وهذا القدر كاف في تفهم أصل الحج إن شاء الله تعالى .

وأما الشوق فإنما ينبعث بعد الفهم والتحقق بأن البيت بيت الله عز وجل ، وأنه وضع على مثال حضرة الملوك .

فقاصده قاصد إلى الله عز وجل وزائر له وإن من قصد البيت في الدنيا جدير بأن لا يضيع زيارته فيرزق مقصود الزيارة في ميعاده المضروب له وهو النظر إلى وجه الله الكريم في دار القرار من حيث إن العين القاصرة الفانية في دار الدنيا لا تتهيأ لقبول نور النظر إلى وجه الله عز وجل ، ولا تطيق احتماله ، ولا تستعد للاكتحال به لقصورها وأنها إن أمدت في الدار الآخرة بالبقاء ونزهت عن أسباب التغير والفناء استعدت للنظر والإبصار ولكنها بقصد البيت ، والنظر إليه تستحق لقاء رب البيت بحكم الوعد الكريم .

فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة والبيت مضاف إلى الله عز وجل فبالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة فضلا عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل .

وأما العزم فليعلم أنه بعزمه قاصدا إلى مفارقة الأهل والوطن ومهاجرة الشهوات واللذات متوجها إلى زيارة بيت الله عز وجل وليعظم في نفسه قدر البيت وقدر رب البيت وليعلم أنه عزم على أمر رفيع شأنه خطير أمره وأن من طلب عظيما خاطر بعظيم .

وليجعل عزمه خالصا لوجه الله سبحانه بعيدا عن شوائب الرياء والسمعة وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص وإن من أفحش الفواحش أن يقصد بيت الله وحرمه ، والمقصود غيره .

فليصحح مع نفسه العزم ، وتصحيحه بإخلاصه ، وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة فليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .

التالي السابق


(وفيه تفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل) الحسية والمعنوية، (والركوع [ ص: 444 ] والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع) من انحناء الظهر، ووضع الجبهة في الأرض، (وللنفوس أنس بتعظيم الله عز وجل) ، وإلف به مفهومة ( فأما ترداد السعي) بين الجبلين ( ورمي الجمار) بتلك الهيئة ( وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس) وفي بعض النسخ: ( ولا أنس للطبع فيها) لعدم الضبط بذلك، ( ولا اهتداء للعقل إلى معانيها) الباطنة ( فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد، وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط، وفيه عزل للعقل) وتصرفاته (عن تصرفه، وصرف الطبع والأنس عن محل طبعه) ، وفي نسخة: وصرف النفس، وللطبع عن محل أنسه ( فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما) أي: نوعا من الميل، ( فيكون ذلك الميل معينا للأمر) على اتباعه، ( وباعثا معه على الفعل) والإقدام عليه ( فلا يكاد يظهر بذلك كمال الرق) وتمام العبودية ( والانقياد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في) حق ( الحج على الخصوص: لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا ) ، تقدم الكلام عليه في كتاب الزكاة، ( ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها) من الطاعات، ( وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف ما تهواه طباعهم) ، وتألفه نفوسهم بحسب الاعتياد، (وأن يكون زمامها بيد الشرع) ; ليصرفها على المتعبدين بمقتضى الحكمة الإلهية (فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد، وعلى مقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات) ، وآكدها (في تزكية النفوس) وتطهيرها (وصرفها عن مقتضى الطباع) المذكورة (والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق) والاستعباد، (وإذا تفطنت لهذا فهمت أن حجب النفوس من) مطالعة أسرار (هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول) والغفلة (عن أسرار هذه التعبدات) الإلهية، (وهذا القدر كاف في تفهم أصل الأعمال) .

وقد أشار الشيخ الأكبر قدس سره في كتاب الشريعة حيث قال: الحاج وفد الله دعاهم الحق إلى بيته، وما دعاهم إليه سبحانه بمفارقة الأهل والوطن والعيش الترف، وطأهم بحلية الشعث والغبرة إلا ابتلاء ليريهم من وقف مع عبوديته ممن لم يقف، ولهذا أفعال الحج أكثرها تعبدات، ولا تعلل ولا يعرف لها معنى من طريق النظر، لكن قد تنال من طريق الكشف والإخبار الإلهي الوارد على قلوب العارفين من الوجه الخاص الذي لكل موجود من ربه فزينة الحاج تخالف زينة جميع العبادات .

وقال في موضع آخر من كتابه: أفعال الحاج مخصوصة للعبد منها منفعة دنيوية، ولهذا تميز حكم الحج عن سائر العبادات في أغلب أحواله في التعليل فهو تعبد محض لا يعقل له معنى عند الفقهاء، فكان هو عين الحكمة ما وضع لحكمة، وفيه أجر لا يكون في غيره من العبادات، وتجليات إلهية لا تكون في غيره من العبادات، (وأما الشوق فإنما ينبعث بعد الفهم والتحقق بأن البيت بيت الله عز وجل، وأنه وضع) للناس (على مثال) غريب، ونمط بديع، وجعله محترما مثل (حضرة الملوك فقاصده) في الحقيقة (قاصد إلى الله عز وجل وزائر له) ، وثبت ذلك في الأخبار ما يدل على ذلك تقدم بعضها، (وإن من قصد البيت في الدنيا) برسم زيارته (جدير بأن لا تضيع زيارته) ، ولا تخسر تجارته ( فيرزق مقصود الزيارة) أي: ما هو القصد منها ( في ميعاده المضروب له) ، وأجله المعهود، (وهو النظر إلى وجه الله الكريم) جل جلاله (في دار القرار من حيث إن العين القاصرة الفانية في دار الدنيا لا تتهيأ) ، أي: لا يمكنها التهيؤ (لقبول نور النظر إلى وجه الله عز وجل، ولا تطيق احتمال ذلك، ولا تستعد للاكتحال به لقصورها) عن درك ذلك، (وأنها إن أمدت في الدار الآخرة بالبقاء نزهت عن أسباب التغير والفناء استعدت للنظر والإبصار) بحسب قابليتها المفاضة عليها، (ولكنها [ ص: 445 ] بقصد البيت، والنظر إليه استحقت لقاء رب البيت بحكم الوعد الكريم) ، فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وفيها تقع المشاهدة إذ هي دار المشاهدة واللقاء .

يروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه خرج فرأى ركبا، فقال: من الركب ؟ فقالوا: أحاجين ؟ قال: أنهزكم غيره؟ ثلاث مرات، قالوا: لا، قال: لو يعلم الركب بمن أناخوا لقرت أعينهم بالفضل بعد المغفرة (والشوق إلى لقاء الله عز وجل يسوقها إلى أسباب اللقاء لا محالة) .

ففي الصحيحين عن أنس مرفوعا "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ( هذا مع أن المحب يشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة) ونسبة، ولو من بعيد (والبيت مضاف إلى الله تعالى فبالحري) ، أي: باللائق (أن يشتاق إليه) في كل مرة (بمجرد هذه الإضافة فضلا عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل) ، بل ربما يقطع نظره عن تأمل ذلك، (وأما العزم فليعلم أنه بعزمه) الحازم (قاصد إلى مفارقة) كل مألوف من (الأهل والوطن) والأحباب والمسكن (ومهاجرة الشهوات) النفيسة (واللذات) الحسية حالة كونه (متوجها إلى زيارة بيت الله تعالى) ، فإذا تحقق عنده هذا العزم (فليعظم في نفسه قدر البيت لقدر رب البيت) ، وتعظيمه ينشأ عن تعظيم من إضافة إلى نفسه، (وليعلم أنه عزم على أمر عظيم رفيع شأنه) ، أي مرتفع بين الشئون (خطير أمره) ، أي: عظيم الخطر، (وإن من طلب عظيما) في نفسه (خاطر بعظيم) ما عنده، وحينئذ تهون عليه المصائب والشدائد في البدن والمال، (وليجعل عزمه خالصا لله عز وجل من شوائب الرياء والسمعة) .

فقد روى سعيد بن منصور، عن عمر - رضي الله عنه -: من أتى هذا البيت لا يريد إلا إياه وطاف طوافا كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وفي رواية: لا ينهزه غير صلاة فيه رجع كما ولدته أمه. (وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص لوجه الله تعالى) عما ذكر، فالإتيان إلى البيت مشروط بالإخلاص وتصحيح القصد، كما دل عليه قول عمر وهو أهم ما يشترط فيه، (فإن من أفحش الفواحش أن يقصد بيت الملك وحرمه، والمقصود) منه (غيره فليصحح مع نفسه العزم، وتصحيحه) ، وتصفيته (بإخلاصه، وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة) وغيرهما من الأوصاف الذميمة كما دلت عليه الأخبار .

وتقدم حديث أنس في إعلام من يأتي في آخر الزمان يحج للرياء والسمعة، (وليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير) ، فيقع في مقت وطرد وخسران .




الخدمات العلمية