الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
التاسع في الجهر بالقراءة ولا شك في أنه لا بد أن يجهر به إلى حد يسمع نفسه إذ القراءة عبارة عن تقطيع الصوت بالحروف ولا بد من صوت فأقله ما يسمع نفسه فإن لم يسمع نفسه لم تصح صلاته .

فأما الجهر بحيث يسمع غيره فهو محبوب على وجه ومكروه ، على وجه آخر ، ويدل على استحباب الإسرار ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : فضل قراءة السر على قراءة العلانية كفضل صدقة السر على صدقة العلانية وفي لفظ آخر : الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر به كالمسر بالصدقة وفي الخبر العام يفضل عمل السر على العلانية سبعين ضعفا وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : خير الرزق ما يكفي ، وخير الذكر الخفي وفي الخبر : لا يجهر بعضكم على بعض في القراءة بين المغرب والعشاء .

وسمع سعيد بن المسيب ذات ليلة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز يجهر بالقراءة في صلاته ، وكان حسن الصوت فقال لغلامه اذهب إلى هذا المصلي فمره أن يخفض صوته ، فقال الغلام : إن المسجد ليس لنا وللرجل فيه نصيب فرفع سعيد صوته ، وقال يا : أيها المصلي إن كنت تريد الله عز وجل بصلاتك فاخفض صوتك وإن كنت تريد الناس فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا فسكت عمر بن عبد العزيز وخفف ركعته فلما سلم أخذ نعليه ، وانصرف وهو يومئذ أمير المدينة .

ويدل على استحباب الجهر ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع جماعة من أصحابه يجهرون في صلاة الليل فصوب ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم .

إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليجهر بالقراءة ، فإن الملائكة وعمار الدار يستمعون قراءته ويصلون بصلاته .

ومر صلى الله عليه وسلم بثلاثة من أصحابه رضي الله عنهم مختلفي الأحوال فمر على أبي بكر رضي الله عنه وهو يخافت فسأله عن ذلك فقال : إن الذي أناجيه هو يسمعني ومر على عمر رضي الله عنه وهو يجهر فسأله عن ذلك ، فقال أوقظ : الوسنان وأزجر الشيطان ومر على بلال وهو يقرأ آيا من هذه السورة وآيا من هذه السورة فسأله عن ذلك ، فقال : أخلط الطيب بالطيب ، فقال صلى الله عليه وسلم كلكم قد أحسن وأصاب .

فالوجه في الجمع بين هذه الأحاديث أن الإسرار أبعد عن الرياء والتصنع فهو أفضل في حق من يخاف ذلك على نفسه فإن لم يخف ولم يكن في الجهر ما يشوش الوقت على مصل آخر فالجهر أفضل ; لأن العمل فيه أكثر ، ولأن فائدته أيضا تتعلق بغيره فالخير المتعدي ، أفضل من اللازم ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر فيه ، ويصرف إليه سمعه ولأنه يطرد النوم في رفع الصوت ، ولأنه يزيد في نشاطه للقراءة ، ويقلل من كسله ولأنه يرجو بجهره تيقظ نائم فيكون هو سبب إحيائه ولأنه قد يراه بطال غافل فينشط بسبب نشاطه ويشتاق إلى الخدمة فمتى حضره شيء من هذه النيات فالجهر أفضل .

وإن اجتمعت هذه النيات تضاعف الأجر وبكثرة النيات تزكو أعمال الأبرار وتتضاعف أجورهم فإن ، كان في العمل الواحد عشر نيات كان فيه عشر أجور ولهذا نقول : قراءة القرآن في المصاحف أفضل إذ يزيد في العمل النظر ، وتأمل المصحف وحمله فيزيد الأجر بسببه وقد قيل الختمة في المصحف بسبع ; لأن النظر في المصحف أيضا عبادة .

وخرق عثمان رضي الله عنه مصحفين لكثرة قراءته منهما فكان كثير من الصحابة يقرؤون في المصاحف ، ويكرهون أن يخرج يوم ، ولم ينظروا في المصحف .

ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعي رضي الله عنه في السحر ، وبين يديه مصحف فقال له الشافعي شغلكم الفكر عن القرآن إني لأصلي العتمة وأضع المصحف بين يدي فما أطبقه حتى أصبح .

التالي السابق


(التاسع في الجهر بالقراءة) ، والإسرار بها وما الحكم فيهما؟ (ولا شك في أنه يجهر بها) في صلاته، (إلى حد يسمع نفسه إذ القراءة عبارة عن تقطيع الصوت بالحروف) ، ووصل الكلمات بعضها ببعض، (ولا بد من صوت) هو الهواء المنضغط عن ذلك التقطيع فينتقش بصورة خاصة، (وأقله ما يسمع نفسه فإن لم يسمع نفسه لم تصح صلاته) ، وفي تهجيته حروف القراءة في الصلاة عند أصحابنا خلاف، فالذي في الينابيع أنها تفسد الصلاة، ومقتضى سياق الواقعات أنها لا تفسد; لأنه من الحروف التي في القرآن، (فأما الجهر حيث يسمع غيره فهو [ ص: 493 ] محبوب على وجه، مكروه على وجه آخر، ويدل على استحباب الإسرار ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: فضل قراءة السر على قراءة العلانية كفضل صدقة السر على صدقة العلانية ) ، كذا في القوت، ولم يرد بهذا اللفظ، ولكن معناه في الحديث الذي يليه، وهو قوله (وفي لفظ آخر: الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر به كالمسر بالصدقة ) .

قال العراقي: رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه من حديث عقبة بن عامر اهـ .

قلت: وفي السند إسماعيل بن عياش ضعفه قوم ووثقه آخرون ورواه أيضا الحاكم عن معاذ بن جبل، ووجه الشبه أن الإسرار أبعد من الرياء، فهو أفضل لخائفه وبه يظهر صحة معنى الحديث الأول .

وروى الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود، وفضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية، ورواه ابن المبارك في الزهد مثله، (وفي الخبر العام يفضل عمل السر على عمل العلانية بسبعين ضعفا) ، هكذا في القوت قال العراقي: رواه البيهقي في الشعب من حديث عائشة اهـ .

قلت: وضعفه البيهقي ولفظه في الشعب يفضل الذكر الخفي الذي لا تسمعه الحفظة على الذي تسمعه بسبعين ضعفا، وقد رواه ابن أبي الدنيا كذلك في كتاب الدعاء، (وكذلك) أي في العموم (قوله صلى الله عليه وسلم: خير الرزق ما يكفي، وخير الذكر الخفي ) كذا في القوت، قال العراقي: رواه أحمد وابن حبان من حديث سعد بن أبي وقاص اهـ .

قلت: وكذا رواه البيهقي أيضا، ونعيم بن حماد في الفتن والعسكري في الأمثال، وعبد ابن حميد، وأبو عوانة كلهم من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، عن سعد غير أنه بتقديم الجملة الثانية على الأولى، ومحمد بن عبد الرحمن هذا وثقه ابن حبان، وضعفه ابن معين وبقية رجاله عند أحمد، وابن حبان رجال الصحيح، وهذا الحديث قد عد من الحكم والأمثال، وأخرج الخطيب المحاسبي في تفسير قوله: خير الرزق ما يكفي أنه قوت يوم بيوم، ولا يهتم لرزق غد، وبهذا الحديث استدل أصحابنا على ندب الإسرار لتكبير العيد (وفي الخبر: لا يجهر بعضكم على بعض) فإن ذلك يؤذي المصلي .

رواه الخطيب عن جابر قاله (في القراءة بين المغرب والعشاء) ، وهذه عبارة القوت، وليست الجملة من أصل الحديث، وظنها العراقي كذلك، فقال: رواه أبو داود من حديث البياضي دون قوله بين المغرب والعشاء والبيهقي في الشعب من حديث علي قبل العشاء وبعده، وفيه الحارث الأعور وفيه ضعف .

قلت: وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم مناج لربه فلا يؤذي بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، (وسمع سعيد بن المسيب) بن حزن القرشي التابعي، (ذات ليلة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز) الأموي الخليفة (يجهر بالقراءة في صلاته، وكان حسن الصوت فقال) سعيد (لغلامه اذهب إلى هذا المصلي فمره أن يخفض صوته، فقال الغلام: إن المسجد ليس لنا) خاصة، (وللرجل فيه نصيب فرفع سعيد صوته، وقال: أيها المصلي إن كنت تريد الله) ، أي وجهه (بصلاتك فاخفض) أي: فأخف صوتك (وإن كنت تريد الناس فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) قال: (فسكت عمر وخفف ركعته فلما سلم أخذ نعليه، وانصرف وهو يومئذ أمير المدينة) .

هكذا أورده صاحب القوت، وهو معدود في مناقب عمر بن عبد العزيز، ولعل بالمسجد كان بعض من يصلي فلذا منعه، ولم يحاب كونه أميرا يومئذ، (ويدل على استحباب الجهر ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع جماعة من الصحابة يجهرون بالقراءة في صلاة الليل فصوب ذلك ) ، أي رآه صوابا إما بسكوته، أو باستحسانه وهذه العبارة انتزعها المصنف من كتاب القوت ونصه، وعلى ذلك فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع جماعة من أصحابه يجهرون بالقراءة في صلاة الليل فيصوب ذلك لهم، ويسمع إليهم .

وقال العراقي في الصحيحين من حديث عائشة: أن رجلا قام من الليل فقرأ فرفع صوته بالقرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله فلانا الحديث، ومن حديث أبي موسى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك البارحة الحديث، وفي حديث أيضا إنما أعرف أصوات رفقة الأشعريين [ ص: 494 ] بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن الحديث .

قلت: وهذه الأخبار قد يذكرها المصنف فيما بعد، ويأتي الكلام عليها، (وقد قال) ولفظ القوت: وقد أمر بالجهر فيما روي عنه (صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليجهر بقراءته، فإن الملائكة وعمار الدار يستمعون إلى قراءته ويصلون بصلاته) ، كذا في القوت قال العراقي: رواه بنحوه بزيادة أبو بكر البزار ونصر المقدسي في المواعظ من حديث معاذ بن جبل وهو منكر ومنقطع، (ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة من أصحابه مختلفي الأحوال) ، أي منهم من يخافت، ومنهم من يجهر، ومنهم من يخلط الآية بالآية (فمر على أبي بكر - رضي الله عنه - وهو يخافت) في قراءته (فسأله عن ذلك فقال: إن الذي أناجيه وهو يسمعني) ، أي قريب مني، (ومر على عمر - رضي الله عنه - وهو يجهر) في قراءته (فسأله عن ذلك، فقال: أوقظ الوسنان) أي: أنبه النائم (وأزجر الشيطان) ، أي: أطرده (ومر على بلال) بن رباح - رضي الله عنه - (وهو يقرأ آيا من هذه السورة وآيا من هذه السورة فسأله عن ذلك، فقال: أخلط الطيب بالطيب، فقال صلى الله عليه وسلم كلكم قد أحسن وأصاب) ، هكذا أورده .

وقد تقدم في كتاب الصلاة أنه صلى الله عليه وسلم سمع بلالا يقرأ من ههنا ومن ههنا فسأله عن ذلك، فقال: أخلط الطيب بالطيب، فقال: أحسنت، وقد رواه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح نحوه، وقد تقدم الكلام عليه وهذا يدل على جواز قراءة آية آية من كل سورة، وقد نقل القاضي أبو بكر بن العربي الإجماع على عدم جواز ذلك .

قال البيهقي: وأحسن ما يحتج به هنا أن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذه عن جبريل، والأولى بالقارئ أن يقرأه على التأليف المنقول.

وقد قال ابن سيرين: تأليف الله خير من تأليفكم، وعد الحليمي خلط السورة بالسورة من ترك الأدب، واحتج بما أخرجه أبو عبيد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ببلال وهو يقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة فسأله، فقال: أخلط الطيب بالطيب، فقال: اقرإ السورة على وجهها، أو قال على نحوها، وهو مرسل صحيح ووصله أبو داود عن أبي هريرة بدون آخره .

وأخرجه أبو عبيد من وجه آخر، عن عمر مولى غفرة، وهي أخت بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: إذا قرأت السورة فأنفذها، ثم قال أبو عبيد: الأمر عندنا على كراهة قراءة الآيات المختلفة كما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بلال، فتأمل ذلك مع سياق المصنف (فالوجه في الجمع بين هذه الأحاديث) المختلفة (أن الإسرار) بالقراءة (أبعد عن الرياء والتصنع فهو أفضل في حق من يخاف ذلك) ، أي: الرياء (على نفسه) ، ولفظ القوت: المخافتة بالقراءة إذا لم تكن للعبد نية في الجهر، أو كان ذاهبا عن الهمة والمعاملة بذلك; لأنه أقرب إلى السلامة، وأبعد من دخول الآفة، (إن لم يخف) ذلك (ولم يكن في الجهر ما يشوش الوقت على مصل آخر فالجهر أفضل; لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعلق بغيره، والخير المتعدي أفضل من اللازم) ، ولفظ القوت: وإن الجهر أفضل لمن كانت له نية في الجهر ومعاملة مولاه به; لأنه قد قام بسنة قراءة الليل، ولأن المخافتة نفعه لنفسه، والجهر نفعه له ولغيره، وخير الناس من نفع الناس، والنفع بكلام الله عز وجل من أفضل المنافع، ولأنه قد أدخل عملا ثانيا يرجو به قربة ثانية على عمله الأول فكان في ذلك أفضل، (ولأن الجهر يوقظ قلب القارئ) أي: ينبهه عن سنة الغفلة، (ويجمع همه إلى الفكر فيه، ويصرف إليه سمعه) ، ولا يوجد ذلك كله في الإسرار، (ولأنه يطرد النوم برفع الصوت، ولأنه يزيد في نشاطه للقراءة، ويقلل من كسله) وتثبطه، (ولأنه يرجو بجهره تيقظ نائم فيكون هو سبب إحيائه) من غفلته، (ولأنه قد يراه بطال) عن العمل (غافل) عن الذكر (فينشط) في نفسه، (بسبب نشاطه ويشتاق إلى الخدمة) ، والعمل فهذه سبعة وجوه في أفضلية الجهر، ولفظ القوت وفي الجهر سبع نيات، منها الترتيل الذي أمر به، ومنها تحسين الصوت بالقرآن الذي ندب إليه، ومنها أن يسمع أذنيه، ويوقظ قلبه ليتدبر الكلام ويتفهم المعاني ولا يكون كل ذلك إلا في الجهر، ومنها أن يرد القوم عنه برفع صوته، ومنها أن يرجو بجهره يقظة نائم فيذكر الله تعالى فيكون [ ص: 495 ] هو سبب إحيائه، ومنها أن يراه بطال غافل فينشط للقيام، ويشتاق للخدمة فيكون هو معاونا له على البر والتقوى، ومنها أن يكثر بجهره تلاوته، ويدوم قيامه على حسب عادته للجهر ففي ذلك يكثر عمله (فمهما حضره شيء من هذه النيات فالجهر أفضل، وإن اجتمعت هذه النيات تضاعف الأجر وبكثرة النيات يزكو عمل الأبرار فتضاعف أجورهم، وإن كان في العمل الواحد عشر نيات كان فيه عشر أجور) .

ولفظ القوت: فإذا كان العبد معتقدا لهذه النيات طالبا لها، ومتقربا إلى الله سبحانه بها عالما بنفسه مصححا لقصده، ناظرا إلى مولاه الذي استعمله فيما يرضاه فجهره أفضل; لأن له فيه أعمالا، وإنما يفضل العمل بكثرة النيات فيه، وارتفع العلماء، وفضلت أعمالهم بحسن معرفتهم بنيات العمل، واعتقادهم لها فقد يكون في العمل الواحد عشر نيات يعلم ذلك العلماء فيعملون بها فيعطون عشر أجورهم فأفضل الناس في العمل أكثرهم نية، وأحسنهم قصدا، وأدبا .

قلت: وإلى هذا الجمع جنح النووي حيث قال: الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو تأذى به مصلون، أو نيام بجهره والجهر أفضل في غير ذلك; لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتأدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم ويزيد في النشاط، وقال بعضهم: يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها; لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر، والجاهر قد يمل فيستريح بالإسرار اهـ .

ثم قال صاحب القوت: وفي بعض التفسير وأما بنعمة ربك فحدث قال: قراءة القرآن (ولهذا نقول: قراءة القرآن في المصحف أفضل إذ يزيد عمل البصر، وتأمل المصحف وحمله فيزيد الأجر بسبب ذلك) قال النووي: هكذا قاله أصحابنا والسلف أيضا، ولم أر فيه خلافا قال: ولو قيل إنه مختلف باختلاف الأشخاص فيختار القراءة فيه لمن استوى خشوعه وتدبره لو قرأ من المصحف لكان هذا قولا حسنا اهـ .

قال السيوطي: وحكى الزركشي في البرهان ما بحثه النووي قولا وحكى معه قولا ثالثا: إن القراءة من الحفظ أفضل مطلقا، وإن ابن عبد السلام اختاره; لأن فيه من التدبر ما لا يحصل بالقراءة في المصحف اهـ .

(وقد قيل الختمة في المصحف بسبع; لأن النظر في المصحف أيضا عبادة) مطلوبة، ومن أدلة القراءة في المصحف ما رواه الطبراني، فقال: حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا رحيم، ثنا صفوان بن معاوية، عن أبي سعيد بن عوف المكي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي، عن جده - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة وقراءته في المصحف تضاعف ألفي درجة، ورواه ابن عدي في الكامل، عن عبد الله بن محمد بن مسلم، عن رحيم وأبو سعيد مختلف في توثيقه، وقال أبو عبيد في فضائل القرآن، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا بقية عن معاوية بن يحيى، عن سليمان بن مسلم، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرؤه ظاهرا ، كفضل الفريضة على النافلة معاوية، وسليمان ضعيفان، وبقية مدلس، وقد عنعن .

وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن المظفر، حدثنا الحسن بن جبير الواسطي، حدثنا إبراهيم بن جابر، حدثنا الحر بن مالك، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف، قال: لم يروه عن شعبة إلا الحر تفرد به إبراهيم بن جابر، وروى ابن النجار في تاريخه عن أنس رفعه: من قرأ القرآن نظرا متع ببصره، وقد ورد الأمر بإدامة النظر في المصحف.

قال أبو الحسين بن بشران في فوائده: أخبرنا أبو جعفر الرزاز، حدثنا محمد بن عبيد الله بن يزيد، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان هو الثوري، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أديموا النظر في المصحف، وأخرجه أبو عبيد، عن زيد بن الحباب، عن إسحاق الأزرق، وقد روينا في النظر في المصحف حديثا مسلسلا بقول كل راو اشتكت عيني، فقال لي: انظر في المصحف هو في مسلسلات إبراهيم بن سليمان، (وخرق عثمان - رضي الله عنه - مصحفين لكثرة قراءته فيهما) نقله صاحب القوت [ ص: 496 ] وثبت أنه- رضي الله عنه - لما قتل كان يقرأ في المصحف حتى سقط الدم على قوله فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (وكان كثير من الصحابة) رضي الله عنهم (يقرؤن في المصحف، ويكرهون أن يخرج يوم، ولم ينظروا في المصحف) فمنهم عثمان رضي الله عنه .

وقد تقدم ومنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال أبو عبيد: حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا علي بن يزيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه.

وقد روي ذلك عمن بعدهم أيضا قال الدارمي: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا همام، حدثنا ثابت هو البناني قال: كان عبد الرحمن بن أبي ليلى إذا صلى الصبح قرأ في المصحف حتى تطلع الشمس، وكان ثابت يفعله، وعبد الرحمن تابعيان، وهذا الأثر صحيح، (ودخل بعض فقهاء مصر على) الإمام محمد بن إدريس (الشافعي رضي الله عنه في السحر، وبين يديه المصحف) ، وهو يقرأ فيه (فقال) له الشافعي: (شغلكم الفقه عن القرآن إني لأصلي العتمة وأضع المصحف بين يدي فما أطبقه حتى الصبح) ، وقد تقدم قريبا أنه - رضي الله عنه - كان يختم في كل يوم وليلة ختمة فإذا جاء رمضان ختم في كل يوم وليلة ختمتين .




الخدمات العلمية