الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما النقل فيشهد له أحوال قوام الليل في تلذذهم بقيام الليل واستقصارهم له كما يستقصر المحب ليلة وصال الحبيب حتى قيل لبعضهم : كيف أنت والليل قال ؟ : ما راعيته قط يريني وجهه ثم ينصرف ، وما تأملته بعد وقال آخر أنا والليل فرسا رهان مرة يسبقني إلى الفجر ومرة يقطعني عن الفكر وقيل لبعضهم : كيف الليل عليك فقال ؟ : ساعة أنا فيها بين حالتين : أفرح بظلمته إذا جاء ، وأغتم بفجره إذا طلع ما تم فرحي به قط وقال علي بن بكار منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر وقال الفضيل بن عياض إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي وإذا طلعت حزنت لدخول الناس علي وقال أبو سليمان أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وقال أيضا لو عوض الله أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه من اللذة لكان ذلك أكثر من ثواب أعمالهم وقال بعض العلماء : ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة وقال بعضهم : لذة المناجاة ليست من الدنيا إنما هي من الجنة أظهرها الله تعالى لأوليائه لا يجدها سواهم وقال ابن المنكدر ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث : قيام الليل ، ولقاء الإخوان ، والصلاة في الجماعة وقال بعض العارفين : إن الله تعالى ينظر بالأسحار إلى قلوب المتيقظين فيملؤها أنوارا ، فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير ثم تنتشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين .

وقال بعض العلماء من القدماء أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين إن لي عبادا من عبادي أحبهم ويحبونني ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ، ويذكرونني وأذكرهم ، وينظرون إلي وأنظر إليهم ، فإن حذوت طريقهم أحببتك ، وإن عدلت عنهم مقتك قال : يا رب وما علامتهم ؟ قال : يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وخلا كل حبيب بحبيبه ، نصبوا إلي أقدامهم وافترشوا إلي وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي فبين ، صارخ وباكي وبين متأوه وشاكي بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي أول ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عني كما أخبر عنهم . والثانية : لو كانت السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهما من موازينهم لاستقللتها لهم . والثالثة : أقبل بوجهي عليهم أفترى ، من أقبلت بوجهي عليه أيعلم أحد ما أريد أن أعطيه وقال مالك بن دينار رحمه الله إذا قام العبد يتهجد من الليل قرب منه الجبار عز وجل وكانوا يرون ما يجدون من الرقة والحلاوة في قلوبهم والأنوار من قرب الرب تعالى من القلب وهذا له سر وتحقيق ستأتي الإشارة إليه في كتاب المحبة وفي الأخبار عن الله عز وجل : أي عبدي أنا الله الذي اقتربت من قلبك وبالغيب رأيت نوري وشكا بعض المريدين إلى أستاذه طول سهر الليل وطلب حيلة يجلب بها النوم ، فقال أستاذه : يا بني ، إن لله نفحات في الليل والنهار تصيب القلوب المتيقظة تخطئ ، القلوب النائمة ، فتعرض لتلك النفحات فقال : يا سيدي تركتني لا أنام بالليل ولا بالنهار

التالي السابق


(وأما النقل فتشهد له أحوال قوام الليل في تلذذهم بقيام الليل واستقصارهم له) السين هنا للوجدان يقال: استقصره إذا وجده قصيرا أو عده كذلك، (كما يستقصر المحب ليلة وصال الحبيب) أي: يجدها قصيرة، ويتمنى لو طالت، ومن هنا قول بعضهم: سنة الوصل سنة كما أن سنة الهجر سنة .

وهم ثلاثة أصناف: قوم قطعهم الليل فكان هؤلاء المريدون ذوو الأوراد والأجزاء كابدوا الليل فغلبهم. وقوم: قطعوا الليل فكان هؤلاء العاملون الذين صبروا وصابروا الليل فغلبوه. وقوم: قطع بهم الليل فكان هؤلاء المحبون والعلماء أهل الفكر والمحادثة، وأهل الأنس والمجالسة، وأهل الذكر والمناجاة، وأهل التخلق والملاقاة، نقص الليل عليهم حالهم، وقصر النعيم عليهم ليلهم، ورفع الحبيب عنهم نومهم، وخفف الفهم عليهم قيامهم، وأذهب مزيد الوصل عنهم مللهم، وأوصل العتاب بهم سهرهم، (حتى قيل لبعضهم: كيف أنت والليل ؟ فقال: ما راعيته قط يريني وجهه ثم ينصرف، وما تأملته) نقله صاحب "القوت " .

(وقال آخر) منهم (أنا والليل فرسا رهان مرة يسبقني إلى الفجر ومرة يقطعني عن الفكر) نقله صاحب "القوت "، والرهان بالكسر مصدر راهنه بكذا وتراهنوا، أخرج كل واحد منهم رهنا ليفوز السابق بالجميع إذا غلب .

(وقيل لبعضهم: كيف الليل عليك ؟ قال: ساعة أنا فيها بين حالين: أفرح بظلمته إذا جاء، وأغتم بفجره إذا طلع ما تم فرحي به قط) ، ولا استشفيت فيه قط كذا في "القوت " وقيل لآخر منهم: كيف الليل عليك ؟ قال: والله ما أدري كيف أنا فيه إلا أني بين نظرة ووقفة يقبل بظلامه فأتدرعه ثم يسفر قبل أن أتلبسه وأنشد:


لم أستتم عناقه لقدومه حتى بدا تسليمه لوداع

[ ص: 197 ] وتذاكر قوم قصر الليل عليهم فقال بعضهم: أما أنا فإن الليل يزورني قائما، ثم ينصرف قبل أن أجلس .

(وقال علي بن بكار) البصري الزاهد نزيل المصيصة ستأتي ترجمته قريبا (منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر) نقله صاحب "القوت " .

(وقال الفضيل بن عياض) -رحمه الله تعالى - (إذا غربت الشمس فرحت بالظلام بخلوتي بربي) عز وجل، (وإذا طلعت الشمس حزنت لدخول الناس علي) كذا في "القوت" .

(وقال أبو سليمان) الداراني -رحمه الله تعالى - (أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا) كذا في "القوت" .

(وقال أيضا لو عوض الله سبحانه أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه) في قلوبهم (من اللذة لكان ذلك أكثر من أعمالهم) كذا في "القوت" .

(وقال بعض العلماء: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة) كذا في "القوت" .

(وقال بعضهم:) قيام الليل والتملق للحبيب و (لذة المناجاة) للغريب في الدنيا (ليست من الدنيا إنما هي من الجنة أظهرها الله لأوليائه) في الدنيا لا يعرفهم إلا هم (ولا يجدها سواهم) روحا لقلوبهم. نقله صاحب "القوت " بتغيير يسير .

(وقال ابن المنكدر) هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير التيمي أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر المدني، ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة، كان من معادن الصدق، إمام أمثاله من سادات الفقراء، كان لا يتمالك إذا قرأ الحديث، روى عن أبيه وعائشة وأبي هريرة وأبي قتادة وأبي أيوب وجابر، وعنه شعبة ومالك والسفيانان، مات سنة 130 (ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة) نقله صاحب "القوت " .

وبكى عامر بن عبد الله بن الزبير حين حضرته الوفاة فقيل له في ذلك فقال: والله ما أبكي حبا للبقاء، ولكن ذكرت ظمأ الهواجر في الصيف، وقيام الليل في الشتاء .

وقال عتبة الغلام: كابدت الليل عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة .

وقال يوسف بن أسباط: قيام ليلة أسهل علي من عمل قفة، وكان يعمل كل يوم عشر قفاف .

وقال غيره: ما رأيت أعجب من الليل إن اضطربت تحته غلبك، وإن ثبت له لم يقف .

(وقال بعض العارفين: إن الله عز وجل ينظر بالأسحار إلى قلوب المتيقظين فيملؤها أنوارا، فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير ثم تنتشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين) ، هكذا هو في "القوت "، وقال بعض العلماء: إن الله عز وجل ينظر إلى الجنان عند السحر نظرة، فتشرق وتضيء وتهتز وتدنو، وتزداد جمالا وحسنا وطيبا ألف ألف ضعف في جميع معانيها، ثم تقول: قد أفلح المؤمنون، فيقول الله سبحانه: هنيئا لك منازل الملوك، وعزتي وجلالي وعلوي في ارتفاع مكاني لا يسكنك جبار ولا بخيل ولا متكبر ولا فخور، وينظر سبحانه إلى العرش نظرة فيتسع ألف ألف سعة، يزداد بكل توسعة ألف ألف علم بالله تعالى، كل علم منها لا يعلم وسعه إلا الله عز وجل، ثم يهتز فيثقل على الحملة حتى يموج بعضهم في بعض، ويحطم بعضهم بعضا وهم بعدد ما خلق الله عز وجل أضعاف جميع ما خلق، فيقول العرش: ما هو إلا هو .

(وقال بعض العلماء) من المتقدمين (إن الله عز وجل أوحى إلى بعض الصديقين أن لي عبادا من عبادي يحبونني وأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم، ويذكرونني وأذكرهم، وينظرون إلي وأنظر إليهم، فإن حذوت) أي: سلكت (طريقتهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتك) والمقت أشد من الغضب، (قال: يا رب وما علامتهم ؟ قال: يراعون الظلال) جمع ظل ما نسخته، وهو من الطلوع إلى الزوال (بالنهار) أي: يراعونها لإقامة الأوراد فيه (كما يراعي الراعي) الشفيق (غنمه ويحنون) أي: يميلون باشتياق (إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها) عند الغروب، (فإذا جنهم الليل) أي: سترهم (واختلط الظلام) وفرشت الفرش ونصبت الأسرة (وخلا كل حبيب بحبيبه، نصبوا لي أقدامهم) أي: للقيام في الصلاة (وافترشوا لي وجوههم) أي: بالسجود (وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي، فمن بين صارخ وباك وبين متأوه وشاك) أي: باختلاف أحوالهم بين الصريخ عند غلبة الحال وبين البكاء والتضرع والتأوه والشكاية .

وقال أبو سليمان الداراني: أهل الليل على ثلاث طبقات؛ منهم من [ ص: 198 ] إذا قرأ فتفكر بكى، ومنهم إذا تفكر صاح وراحته في الصياح، ومنهم إذا قرأ فتفكر بهت فلم يبك ولم يصح، قال الراوي: قلت: له من أي شيء بهت هذا؟ ومن أي شيء صاح هذا ؟ فقال: لا أقوى على التفسير (بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشكون من حبة أول ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم، فيخبرون عني ما أخبر عنهم .

والثانية: لو كانت السماوات السبع والأرض وما فيهما في موازينهم لاستقللتها لهم .

والثالثة: أقبل بوجهي عليهم، فترى من أقبلت بوجهي عليه أيعلم أحد ما أريد أن أعطيه) هكذا ساقه صاحب "القوت " بطوله، ونقله أيضا صاحب العوارف، وزاد: فالصادق المريد إذا خلا في ليلة بمناجاة ربه انتشرت أنوار ليله على جميع أجزاء نهاره، ويصير نهاره في حماية ليله، وذلك لامتلاء قلبه بالأنوار، فتكون حركاته وتصاريفه بالنهار تصدر من منبع الأنوار المجتمعة من الليل، ويصير قالبه في فئة من فئات الحق مسددة حركاته موفرة سكناته .

(وقال مالك بن دينار) أبو يحيى البصري -رحمه الله تعالى -: (إذا قام العبد يتهجد من الليل) ورتل القرآن كما أمر (قرب منه الجبار عز وجل) كذا في "القوت " إلا أنه قال: قرب الجبار منه (قال) مالك: (وكانوا يرون) أن (ما يجدون في قلوبهم من الرقة والحلاوة) والفتوح (والأنوار من قرب الرب عز وجل من القلب) كذا في "القوت " (وهذا له سر وتحقيق ستأتي الإشارة إليه في كتاب المحبة) إن شاء الله تعالى .

(وفي الأخبار يقول الله تعالى: أي عبدي أنا الله الذي اقتربت لقلبك وبالغيب رأيت نوري) هكذا هو في "القوت "، وقال أبو نعيم في " الحلية ": حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا هارون بن عبد الله، وعلي بن مسلم قالا: حدثنا سيار، حدثنا جعفر قال: سمعت مالكا يعني: ابن دينار يقول: قرأت في التوراة: ابن آدم لا تعجب أن تقوم بين يدي باكيا، فإني أنا الله الذي اقتربت بقلبك، وبالغيب رأيت نوري. قال مالك: يعني: تلك الرقة، وتلك الفتوح التي يفتح الله لك منهم .

(وشكا بعض المريدين إلى أستاذه طول سهر الليل) وأن السهر قد أضر به، (وطلب حيلة يجتلب بها النوم، فقال أستاذه: يا بني، إن لله نفحات في الليل والنهار تصيب القلوب المتيقظة، وتخطئ القلوب النائمة، فتعرض لتلك النفحات) ففيها الخيرة، (فقال: يا أستاذ تركتني لا أنام بالليل ولا بالنهار) نقله صاحب "القوت " .




الخدمات العلمية