الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الآثار فقال عمر رضي الله عنه : لا يمنع من النكاح إلا عجز أو فجور .

فبين أن الدين غير مانع منه وحصر المانع في أمرين مذمومين .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج .

يحتمل أن جعله من النسك وتتمة له .

ولكن الظاهر أنه أراد به أنه لا يسلم قلبه لغلبة الشهوة إلا بالتزويج ، ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب ، ولذلك كان يجمع غلمانه لما أدركوا عكرمة وكريبا وغيرهما ويقول : إن أردتم النكاح أنكحتكم ، فإن العبد إذا زنى نزع الإيمان من قلبه .

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزبا ومات امرأتان لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الطاعون ، وكان هو أيضا مطعونا فقال : زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزبا .

وهذا منهما يدل على أنهما رأيا في النكاح فضلا لا من حيث التحرز عن غائلة الشهوة .

وكان عمر رضي الله عنه يكثر النكاح ويقول : ما أتزوج إلا لأجل الولد وكان بعض الصحابة قد انقطع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمه ويبيت عنده لحاجة إن طرقته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تتزوج ؟ فقال : يا رسول الله إني ، فقير لا شيء لي وأنقطع عن خدمتك ، فسكت ثم عاد ثانيا فأعاد الجواب .

ثم تفكر الصحابي وقال : والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما يصلحني في دنياي وآخرتي وما يقربني إلى الله مني ولئن ، قال لي الثالثة لأفعلن ، فقال له الثالثة : ألا تتزوج قال ؟ فقلت : يا رسول الله زوجني قال . : اذهب إلى بني فلان فقل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأمركم أن تزوجوني فتاتكم . قال : فقلت : يا رسول الله لا شيء لي ، فقال لأصحابه : اجمعوا لأخيكم وزن نواة من ذهب . فجمعوا له فذهبوا به إلى القوم فأنكحوه ، فقال له : أولم وجمعوا له من الأصحاب شاة للوليمة .

وهذا التكرير يدل على فضل في نفس النكاح ، ويحتمل أنه توسم فيه الحاجة إلى النكاح .

وحكي أن بعض العباد في الأمم السالفة فاق أهل زمانه في العبادة فذكر لنبي زمانه حسن عبادته فقال : نعم الرجل هو لولا أنه تارك لشيء من السنة فاغتم العابد لما سمع ذلك فسأل النبي عن ذلك فقال أنت : تارك للتزويج فقال . : لست أحرمه ولكني فقير وأنا عيال على الناس قال أنا : أزوجك ابنتي ، فزوجه النبي عليه السلام ابنته .

وقال بشر بن الحارث فضل علي أحمد بن حنبل بثلاث بطلب الحلال لنفسه ولغيره وأنا أطلبه لنفسي فقط ، ولاتساعه في النكاح وضيقي عنه ، ولأنه نصب إماما للعامة .

التالي السابق


(وأما الآثار) الواردة فيه: (قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لا يمنع النكاح إلا عجز أو فجور) . نقله صاحب "القوت " بلفظ: قال عمر لأبي الزوائد: ما يمنعك عن النكاح.. إلخ. زاد المصنف: (فبين) عمر (أن الدين غير مانع منه وحصر المانع منه في أمرين مذمومين) ، وهما العجز أو الفجور، فالعاجز عن مؤن النكاح ممنوع منه، وكذا العاجز لميله إلى الحرام يمتنع منه .

(وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج) نقله صاحب "القوت "، (ويحتمل أنه جعله) أي: التزوج (من) جملة (النسك وتتمة له، ولكن الظاهر أنه أراد به أنه لا يسلم قلبه) من الوساوس والخطرات (لغلبة الشهوة إلا بالتزويج، ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب، ولذلك كان يجمع غلمانه لما أدركوا) الحلم (عكرمة) أبا عبد الله المفسر المتوفى سنة 158 تقدمت ترجمته، (وكريبا) أبا رشدين. روى عن مولاه وعائشة وجماعة، وعنه ابناه محمد ورشدين، وموسى بن عقبة، وطلق، وثقوه توفي سنة 98. (وغيرهما) من بقية مواليه، (ويقول: إن أردتم النكاح أنكحتكم، فإن العبد إذا زنى نزع الإيمان من قلبه) كذا في "القوت "، ومعناه في حديث أبي هريرة رفعه: " إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلمة فإذا أقلع رجع إليه " رواه أبو داود والحاكم .

(وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج ولا ألقى الله عزبا) كذا في "القوت "، والعزب محركة من لا زوجة له .

(وماتت امرأتان لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- في) أيام (الطاعون، وكان هو أيضا مطعونا فقال: زوجوني فأنا أكره أن ألقى الله عزبا) كذا في "القوت "، في " الحلية " من طريق الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان، فإذا كان يوم إحداهما لم يتوضأ من بيت الأخرى، ثم توفيتا في السقم الذي أصابهم في الشام والناس في شغل، فوقعتا في حفرة فأسهم بينهما أيتهما تقدم في القبر. ومن طريق الحارث بن عميرة قال: طعن معاذ وأبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد، فقال معاذ: إنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم، وقبض الصالحين قبلكم. اللهم آت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة، فما أمسى حتى طعن ابنه عبد الرحمن فأمسكه ليلة ثم دفنه من الغد فطفئ معاذ. الحديث. (وهذا منهما) أي: من ابن مسعود ومعاذ (ما يدل على أنهما رأيا في النكاح فضلا لا من حيث التحرز من غلبة الشهوة) النفسانية، (و) قد (كان عمر -رضي الله عنه- يكثر من النكاح ويقول: ما أتزوج إلا لأجل الولد) نقله [ ص: 289 ] صاحب القوت. قال: وقد كانت هذه نية جماعة من السلف يتزوجون لأجل أن يولد لهم فيعيش فيوحد الله ويذكره أو يموت فيكون فرطا صالحا يثقل به ميزانه .

(وكان بعض الصحابة قد انقطع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخدمه ويبيت عنده لحاجة إن طرقته) أي: عرضته، (فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا تتزوج ؟ فقال: يا رسول الله، أنا فقير لا شيء لي وأنقطع عن خدمتك، فسكت) عنه، (ثم عاد) له الكلام (ثانيا) ألا تتزوج ؟ (فأعاد الجواب) مثل الأول (ثم تفكر الصحابي) في نفسه (وقال: والله لرسول الله أعلم بما يصلحني في دنياي وآخرتي وما يقربني إلى الله مني، لإن قال لي الثالثة لأفعلن، فقال له) رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرة (ثالثة: ألا تتزوج ؟ فقلت: يا رسول الله زوجني. فقال: اذهب إلى بني فلان فقل) لهم: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمركم أن تزوجوني فتاتكم. قال: فقلت: يا رسول الله لا شيء لي، فقال لأصحابه: اجمعوا لأخيكم وزن نواة من ذهب. فجمعوا) له (فذهب به إلى القوم فأنكحوه، فقال: أولم) فقال: يا رسول الله: لا شيء عندي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: " اجمعوا لأخيكم ثمن شاة، (فجمع له الأصحاب شاة للوليمة) فأصلح طعاما دعا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، هكذا هو في "القوت " .

قال العراقي : رواه أحمد من حديث ربيعة الأسلمي في حديث طويل وهو صاحب القصة بإسناد حسن. اهـ .

قلت: رواه في المسند من طريق محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ربيعة بن كعب، وهو ربيعة بن كعب بن يعمر أبو فراس الأسلمي حجازي.

قال الواقدي: وكان من أهل الصفة ولم يزل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن قبض فخرج من المدينة فنزل في بلاد أسلم على بريد من المدينة، وبقي إلى أن مات بالحرة سنة 63 في ذي الحجة كذا في الإصابة. (وهذا التكرير) بقوله: " ألا تتزوج ؟ " ثلاث مرات (يدل على فضل في نفس النكاح، ويحتمل أنه توسم فيه الحاجة إلى النكاح) فأمره بذلك .

(وحكي أن بعض العباد في الأمم السالفة فاق أهل زمانه في العبادة) ولفظ " القوت ": وقد روينا في أخبار الأنبياء أن عابدا تبتل وبلغ من العبادة ما فاق به أهل زمانه حتى وصف بذلك. قال: (فذكر لنبي زمانه حسن عبادته فقال: نعم الرجل هو لولا أنه تارك لشيء من السنة) قال: (فاغتم العابد لما سمع ذلك) فأهمه وقال: ما ينفعني عبادتي الليل والنهار وأنا تارك للسنة، (فسأل النبي عن ذلك) إذ جاء إليه (فقال: نعم إنك تارك للتزويج. قال: لست أحرمه) أي: تركته لأني حرمته، (ولكني فقير) لا شيء لي، (وأنا عيال على الناس) يطعمني هذا مرة وهذا مرة، فكرهت أن أتزوج امرأة أن أعطلها وأرهقها جهدا. (قال:) ما يمنعك إلا هذا ؟ قال: نعم. قال: (فأنا أزوجك ابنتي، فزوجه النبي عليه السلام ابنته) في قصة طويلة هكذا هو في "القوت " .

(وقال بشر بن الحارث) أبو نصر الحافي رحمه الله تعالى، وكان يعتقد فضل أحمد بن حنبل عليه: (فضل علي أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- بثلاث) خصال: (بطلب الحلال لنفسه ولغيره وأنا أطلبه لنفسي فقط، ولاتساعه في النكاح وضيقي عنه، ولأنه نصب إماما للعامة) وأنا ما يعرفني إلا الخاصة، وتقدم في كتاب العلم أن مثل بشر مثل بئر مطوية لا يرد عليها إلا الآحاد من الناس، ومثل أحمد مثل دجلة يرد عليها القاصي والداني .




الخدمات العلمية